النظام السوري واللعب على التناقضات

2024.09.25 | 06:24 دمشق

آخر تحديث: 25.09.2024 | 10:53 دمشق

5555555555555553
+A
حجم الخط
-A

في وصف لا يخلو من الدقة، يقول "رايموند هينبوش" في دراسته "تشكيل الدولة الشمولية في سوريا البعث": قد قرر الموقع الجغرافي لسوريا قدرها التاريخي، لكونها جسرًا بريًا بين قارات ثلاث ووقوعها وسط الصحراء والسهوب قد عرضها لتحركات أعراق متعددة ولغزوات القبائل البدوية، التي ولدت تعددية ثقافية واجتماعية.

إن التركيبة الجغرافية المعقدة لسوريا شكلت أساسًا بيئيًا لتعددية اقتصادية واجتماعية عززت بدورها الاختلاف الثقافي.

هذه التعددية، والاختراق القبلي المتواصل للمجتمع (بما في ذلك عادات الزواج من الجماعة نفسها)، والإنتاج المحلي القائم على الملكيات الصغيرة، وكذلك بدائية وسائل النقل والتواصل، هذه العوامل مجتمعة ولدت وحافظت على بنية مجتمعية مجزأة وذات انقسامات عميقة.

بلد الانقلابات

ربما نتيجة لهذه التناقضات وهذه الانقسامات، كان حسني الزعيم أول من قاد انقلابًا في الوطن العربي، وكانت سوريا رائدة - ربما - على مستوى العالم بعدد الانقلابات التي تشهدها دولة خلال فترة وجيزة. فقد شهدت سوريا بين عامي 1949 و1970م عشرين انقلابًا، كان آخرها انقلاب حافظ الأسد عام 1970. ويفضل بعض المختصين بتلميع صورة هذا الديكتاتور الشهير أن يذكروا قضية وقف سلسلة الانقلابات كإحدى مآثر هذا الرجل وفضائله.

لقد حكم حافظ الأسد سوريا لما يقارب الثلاثين عامًا، امتدت من العام 1970 إلى وفاته في 10 حزيران 2000، وخلال هذه الفترة من الزمن تذوق السوريون جرعات هائلة من القهر والفقر والإذلال، وتحولت سوريا إلى دولة أمنية بامتياز، دولة متوحشة كما سماها "ميشيل سورا". فقد أنشأ عشرات الفروع الأمنية التي عُرفت عند السوريين بمدى بطشها وتنكيلها بالمعارضين وغير المعارضين. ولكن رغم ذلك، لم يكن البطش والإرهاب وحدهما من جعل حكم الأسد مستقرًا، بل كان للحظ دور مهم في هذا الشأن، حيث تعرض حافظ الأسد لأكثر من محاولة اغتيال أو انقلاب لم ينجح.

لم يكتف النظام السوري باللعب على التناقضات الموجودة بالأصل في المجتمع السوري، بل عمّق هذه التناقضات واختلق أخرى.

اللعب على التناقضات

إلى جانب البطش والحظ، أتقن نظام الأسد ما يسمى في الأدبيات السياسية بـ"اللعب على التناقضات". لقد لاحظ نظام الأسد البنية المجتمعية المجزأة ذات الانقسامات العميقة على حد تعبير "هينبوش"، واستغلها أحسن استغلال، واستطاع أن يجعل الجميع مرتبطًا به على شكل جماعات وعشائر وكتل بشرية متفرقة تنشد الحماية والنفوذ من قبل السلطة. وقد أوصلت هذه السلطة رسالة للجميع بأنها الجهة الوحيدة القادرة على رفع شأن فلان أو جعل فلان نسيًا منسيًا.

لم يكتف النظام السوري باللعب على التناقضات الموجودة بالأصل في المجتمع السوري، بل عمّق هذه التناقضات واختلق أخرى، مستمتعًا أيما استمتاع بممارسة هذه اللعبة.

علاوة على ذلك، غرس في ثقافة السوريين فكرة "حكم الفئة"، وهكذا أصبح السوريون لا يستطيعون تصور دولة المؤسسات، فالدولة في العرف السوري تُحكم من قبل فرد يسانده قومه. وهكذا أصبح التساؤل عند السوريين: لو حكمتنا الفئة الفلانية أو الجماعة الفلانية، هل سيكون الأمر أفضل؟ أصبح هذا النوع من التساؤل طبيعيًا رغم غرابته في عرف الشعوب التي تعرف معنى كلمة دولة.

من الداخل إلى الخارج

إذن، باعتماد منهج "فرق تسد" واللعب على التناقضات الناجمة عن هذه التفرقة، اكتسب النظام السوري مهارة وخبرة واسعتين في هذا المجال، ما لبث أن استخدمهما في علاقاته الخارجية. وقد كانت هذه البيئة، وخصوصًا منها البيئة الإقليمية، شديدة الشبه بالمجتمع السوري، فمنطقة الشرق الأوسط معروفة في الأوساط الدولية بأنها منطقة غير مستقرة تتنازع دولها الخلافات. بمعنى آخر، لم يكن النظام السوري بحاجة إلى مزيد من الجهود لممارسة هوايته التي يتقنها، أي: اللعب على المتناقضات. وقد تجلت خبرته ومهارته في هذا المجال بشكل واضح مع انطلاق الثورة السورية.

على المستوى الداخلي، نجح النظام إلى حد كبير في جعل الثورة ذات طيف واحد بعد أن كانت في بداياتها ثورة كل السوريين. أما على مستوى الإقليم، فقد استغل التنافس بين إيران من جهة ودول الخليج وتركيا من جهة أخرى ليجعل إيران ترمي بكل ثقلها في سبيل إنقاذه. وعلى المستوى الدولي، استغل طموح "بوتين" بالعودة إلى الساحة الدولية وتنافره مع الغرب ليسخّر الجهود الروسية العسكرية والسياسية لإنقاذه أيضًا. بالطبع، هذه مجرد خطوط عريضة لسلوك النظام في هذا المجال، ولعل من يتعمق في التفاصيل يصل إلى نتيجة مفادها: أن النظام السوري هو سيد اللعب على التناقضات.

يعلم جميع السوريين كم أطاح النظام السوري بكبار رجالاته، سواء بسبب أو من غير سبب، وسواء من أجل خطأ بسيط أو لفظة خرجت على لسانه، أو ككبش فداء من غير ذنب اقترفه.

بانتظار أن تتلاشى قوة إيران

ليست عبارة "إن النظام السوري هو سيد من لعب على التناقضات" مديحًا، إنما هي توصيف لنظام لا يتوانى عن فعل أي شيء في سبيل بقائه ممسكًا بزمام السلطة. نظام لا يؤمن جانبه من أقرب الناس إليه. فعلى المستوى الداخلي، يعلم جميع السوريين كم أطاح النظام السوري بكبار رجالاته، سواء بسبب أو من غير سبب، وسواء من أجل خطأ بسيط أو لفظة خرجت على لسانه، أو ككبش فداء من غير ذنب اقترفه. ولكن رغم التشابه بين البيئتين الداخلية والإقليمية، إلا أن هناك فارقًا بين الاثنتين من حيث الخطورة؛ فبينما تعد ممارسة هذه المهارة على الصعيد الداخلي منخفضة المخاطر، تعد في المقابل بمثابة اللعب بالنار على المستوى الخارجي.

في الآونة الأخيرة، بدأت تتكشف ملامح لعبة جديدة بالغة الخطورة. فالنظام السوري تلقى عروضًا مغرية من بعض دول المنطقة في مقابل فك ارتباطه بإيران، أو تحجيم نفوذها كحد أدنى.

ويبدو أن تعاظم النفوذ الإيراني في الداخل السوري، الذي أصبح لا يُطاق، وتلاشي القوة الإيرانية وفقدانها للهيبة بعد الضربات والإهانات الإسرائيلية، قد جعلا رأس النظام أكثر تقبّلًا لفكرة العرض المقدم له. وهو ما زال ينتظر النتائج النهائية لحرب غزة؛ فإن تلاشت القوة الإيرانية بشكل واضح، لن يتوانى للحظة واحدة عن عرض علاقته معها في المزاد العلني.

اللعب على التناقض بين إيران ومعظم دول العالم، بالاتجاه المعاكس هذه المرة، هو آخر ألعاب النظام السوري. فهل تكون هذه لعبته الأخيرة؟ أم تُسجل لعبة جديدة في سجل ألعابه المفتوح؟ وهل يستطيع الذين ثاروا على نظام الأسد إفساد ألعابه أم أنهم ما زالوا ينتظرون حكم القدر؟