تغريد خارج حدود السياسة

2024.09.04 | 06:38 دمشق

22222222224
+A
حجم الخط
-A

نتيجة لحظر العمل السياسي واحتكاره من قبل السلطة لعقود طويلة، تحدث كثيرون بعد قيام الثورة السورية عن ظاهرة التصحر السياسي، وهم محقون من الناحية النظرية. إلا أن التوصيف الأكثر دقة للحالة السورية هو أن ما يعاني منه المجتمع السوري أشد خطورة من التصحر السياسي، وهو ما يمكن أن نسميه "الإحلال الكاذب".

ما هو الإحلال؟

على المستوى السياسي، يشير مفهوم الإحلال إلى استبدال سلوك بآخر، أو سياسة بأخرى، كأن تستبدل دولة ما – نتيجة لضعف الموارد أو لتغير التوجهات – جهودها العسكرية الهادفة للتغيير أو الإبقاء بجهود دبلوماسية، أو العكس. بهذا المعنى، تكون السياسة الخارجية لهذه الدولة قد أحلت سياسة مكان أخرى. وليس بالضرورة أن يكون الإحلال هو إلغاء سياسة واستبدالها بأخرى، بل يكفي أن يختلف توزيع الموارد. بمعنى أن تزيد الدولة المقصودة الإنفاق المخصص للجهود الدبلوماسية في مقابل تقليص الإنفاق العسكري مثلاً.

أما على مستوى المجتمع السوري، فلم تكن عملية الإحلال واضحة المعالم. أي أنه لم يُقدَّم للسوريين بديل واضح ومعروف عن السياسة، وإنما قُدِّمت لهم السياسة كبضاعة مغشوشة. وللتوضيح؛ فالقضية تشبه أن نعطي لشبان يرغبون في ممارسة كرة القدم صندوقًا معدنيًا أو بلاستيكيًا ونقول لهم: "هذه كرة قدم، العبوا بها كما تشاؤون". هذا النوع من الإحلال هو ما يُقصد به "الإحلال الكاذب". فالإحلال الواضح يفترض أن نقدم لهم الموارد لممارسة رياضة أخرى غير كرة القدم، ككرة السلة أو السباحة أو الجري. وهكذا.

لا يحتاج الأمر لمزيد من التعقيد، فالسلوك السياسي للدول لا يختلف من حيث الجوهر والمضمون عما نقوم به كأفراد وجماعات خلال حياتنا اليومية.

بين الممارسة الفعلية وخطاب السلطة

رسمت السلطة لأصحاب الطموح ممن يحبون تبوأ المناصب طريقًا واضح المعالم: عليك أن تثبت ولاءك. والطريق نحو المنصب هو التزلف والاستجداء والتخلي عن الكرامة، أو هو بتعبير عامي أكثر دقة: "لازم تشلح". ولأن أصحاب الطموح بالمناصب الحكومية كثر، كانت المنافسة محمومة، وأصبح المتنافسون يتفننون في أساليب التزلف والانبطاح والتملق. ولعل أكثر عبارات التزلف والتملق شهرة، والتي يحفظها معظم السوريين، تلك التي تفتقت بها قريحة أحد أعضاء مجلس الشعب السوري عندما قال لبشار الأسد: "قليل عليك أن تحكم الوطن العربي، وإنما يجب أن تحكم العالم كله".

رغم الشهرة الواسعة التي حازت عليها تلك العبارة، إلا أنها – غالبًا – ليست الأكثر طرافة وليست الوحيدة. إنما كان للتوقيت والظروف دور في تميزها، إلا أنها في السياق العام تأتي كتعبير صارخ عن الممارسة التي أتقنتها النخبة واعتقدت أنها سياسة. وعلى النقيض من ذلك؛ اعتقد كثيرون أن خطاب السلطة المفعم بالتحدي والرفض والعنجهية كان حقيقيًا، أو لنقل إنهم اعتقدوا أن هذا هو الوجه الحقيقي للسياسة. لذلك تراهم تحت تأثير هذا النوع من الخطاب يتحدون العالم ويتفوهون بخطاب يتحاشاه ساسة الدول الكبرى.

حدود السلوك السياسي

في الواقع، يمكن القول بكل جرأة: إن السلوك الأول (الانبطاح) والسلوك الثاني (المبالغة في تقدير الذات وتحدي الحقائق) هما خارج إطار السياسة. وتقع السياسة - بكل بساطة - في تلك المساحة الشاسعة بين هذين السلوكين اللذين يعبران تمامًا عن فكرة اللعب بصندوق مكعب مع اعتقاد اللاعبين بأنهم يلعبون كرة القدم. بهذا المعنى، فإن السلوك الدبلوماسي المرن الذي يتوقف عند حدود إهدار الكرامة هو الحد الأول للسياسة. وبالتدرج نحو الأعلى، وصولاً لما دون التصلب الأحمق، نكون قد وصلنا إلى الحد الثاني للسياسة.

لا يحتاج الأمر لمزيد من التعقيد، فالسلوك السياسي للدول لا يختلف من حيث الجوهر والمضمون عما نقوم به كأفراد وجماعات خلال حياتنا اليومية. ففي نهاية المطاف، ليست الجماعات المنظمة سوى دول مصغرة، وما الأسرة إلا دولة أكثر تصغيرًا. وهكذا، من خلال التعاطي مع السياسة من هذا المنظور، نستطيع تفسير معظم الظواهر السياسية التي تبدو مستغربة، مثل الاستدارة، والتنافس، والتحالف، والحرب الخفية، وتجنب الصدام العنيف، وقواعد الاشتباك. فكل هذه الظواهر نلاحظها ونشاهدها في حياتنا الاجتماعية باستمرار.

مع شيء من الرصانة والموضوعية ومعرفة حدود السياسة، تستطيع النخب السورية أن تتعاطى مع الشأن السياسي ممارسةً وتفسيرًا بأسلوب أكثر نجاعة.

قيود العقل الجمعي

لكن، رغم محاولة التبسيط هذه، يبقى أسلوب تفسير السلوك السياسي والأسلوب المتبع في الممارسة السياسية عصيًا على التغيير بين ليلة وضحاها، وذلك لعدة اعتبارات. فتفسير السلوك الاجتماعي للأفراد والجماعات غالبًا ما يتم بتبسيط مخل. فعلى سبيل المثال، يؤدي الصراع على النفوذ والثروة – في بعض الأحيان – إلى مشاجرات حادة يتخللها الأذى لبعض الأفراد، وربما القتل. فيلجأ الناس إلى تفسير الحادثة بالسبب المباشر للمشاجرة؛ كأن يقال: "قتلوا بعضهم" أو "تضاربوا بعنف من أجل مبلغ زهيد من المال" أو "من أجل ركن دراجة".

لكن الأهم من ذلك، أن الجماهير بالعموم تتناول القضايا السياسية وتقييم السلوك السياسي من خلال العقل الجمعي، الذي هو في الغالب مضلل وله نمط خاص بالتفكير لا يحيد عنه. ولأن لكل جماعة ولكل شعب عقلًا خاصًا يميزه عن غيره من عقول الجماعات، فالعقل الجمعي السوري المرتكز في الأساس على سوء الظن المتأصل يرفض أي تفسير منطقي للسلوك أو المواقف السياسية التي تتعارض مع رغباته خارج إطار البيع والشراء والخيانة والتآمر. من هنا يصبح التغريد خارج هذا الصندوق صوتًا نشازًا ممجوجًا ومحارَبًا.

أخيرًا، يميل البشر - بطبيعتهم - إلى تبرير سلوكهم الخاص بالمبالغة في الحديث عن دور الموقف أو الظروف المحيطة، بينما يميلون عند تفسير سلوك الآخرين إلى ربطه بنزعاتهم: عدوانيون، عنصريون، حاقدون، حسودون، وهكذا...

مع شيء من الرصانة والموضوعية ومعرفة حدود السياسة، تستطيع النخب السورية أن تتعاطى مع الشأن السياسي ممارسةً وتفسيرًا بأسلوب أكثر نجاعة. وإلا سيبقى ما يفعلونه – معتقدين أنه ممارسة سياسية – لا يعدو كونه عبثًا وتغريدًا خارج حدود السياسة.