يقول "جورج بول" وهو أحد وزراء الخارجية الأميركيين السابقين: إن الأحداث الجارية هي التي ترسم السياسة. وهذه حقيقة شديدة الوضوح؛ رغماً عما يجول في العقول المصابة بلوثة المؤامرة، وبإسقاط مقولة "جورج بول" على سلوكنا كأفراد وجماعات نستطيع أن نتيقن بأنها مقولة شديدة الدقة؛ خاصة عندما تكون البيئة مضطربة وغير مستقرة.
ردود الأفعال هي الأكثر حضوراً في البيئة المضطربة
بالطبع هذا الكلام لا يعني غياب التخطيط والرغبات لدى صناع القرار ومهندسي السياسات الخارجية في الدول الكبرى، إلا أنه يمكن الجزم بعدم وجود مخطط صاغته جهة ما ونفذته كما هو تماماً، فبعض المخططات تذهب أدراج الرياح، وبعضها يتعرض للتعديل تماشياً مع الأحداث الجارية، وبعضها الآخر قد ينجح أكثر من المتوقع. والأهم من ذلك أن بعض الرغبات الدفينة تتحول إلى ما يشبه المخططات فيما لو جرت الأحداث بالاتجاه المناسب، من ذلك ما يحصل اليوم من أحداث في منطقة الشرق الأوسط حتى الآن، فرغبات "نتنياهو" بدأت تتحول إلى سياسة تطبق فعلياً على الأرض.
في مجمل الأحوال؛ هناك اتجاهان متمايزان بين المنظرين السياسيين، يعتقد أصحاب الاتجاه الأول أن السياسة الخارجية عملية قوامها ردود أفعال لبواعث معينة في البيئة الخارجية والداخلية. في حين يعتقد أصحاب الاتجاه الثاني أن السياسة الخارجية هي حراك لتحقيق مجموعة من الأهداف المحددة سلفاً. وفي محاولة للتوفيق بين هاتين المدرستين يرى معظم المفكرين السياسيين المحايدين أن السياسة الخارجية مزيج من التخطيط وردود الأفعال؛ يزدهر التخطيط في البيئة الهادئة المستقرة، في حين تهيمن ردود الأفعال على السياسة الخارجية في البيئة المضطربة.
تراجع للدور الأميركي وليس هيمنة مطلقة
إن تصور السياسة الخارجية للدول على أنها حراك واع لتحقيق مجموعة من الأهداف المحددة سلفاً من دون الاكتراث بفكرة ردود الأفعال يجعل المحلل يقع في براثن نظرية المؤامرة من حيث يدري أو لا يدري، بل ويدفعه للانسياق خلف شطحات الخيال التي ترسم المستقبل بأدق تفاصيله، وهذا ما يتنافى مع التحليل السياسي الرصين، فعلى سبيل المثال: بدأ بعض المحللين يتجرأ على رسم الخطوات القادمة لحكومة "نتنياهو" بمزيد من الجرأة والمبالغة بالتفصيل؛ فالإسرائيليون سوف يفعلون الفعل الفلاني قبيل الانتخابات الأميركية، والفعل الآخر بعدها، ثم سينتقلون إلى جبهة أخرى في بداية العام الجديد، ثم سيفعلون أشياء أخرى في العام الذي يليه.
هذا النوع من التعاطي مع التحليل السياسي قلب الأمور رأساً على عقب، فقد أعاد هؤلاء المحللون الألق للقوة والهيمنة الأميركية بشكل مبالغ فيه، وأعادونا للعام 1991 عندما تفكك الاتحاد السوفييتي وما تلا ذلك من تفرد أميركي بقيادة نظام عالمي جديد أحادي القطب. لكن ذلك لم يدم طويلاً، بل أصبح من الماضي. وحقيقة الأمر أن كل هذه الفوضى والاضطراب الذي يسود العالم، والذي دفع كبار المحللين الاستراتيجيين إلى الاعتقاد بأن حرباً كبرى توشك أن تقع؛ كل هذا نتيجة لتراجع الدور الأميركي المرتبط بتراجع قوته النسبية وليس العكس.
نحو عالم ثنائي القطبية
إن العالم يواجه أخطر بيئة منذ عقود، ودول العالم الكبرى بدأت بإجراء الخطوات والتدابير اللازمة لفك الارتباط فيما بينها وبين خصومها، ومنذ أن نشبت الحرب الأوكرانية حتى يومنا هذا والعالم يتحضر للانقسام لمعسكرين: الغرب ومن ولاهم من جهة، وروسيا والصين ومن والاهم من جهة أخرى. فلقد اكتشفت الدول الغربية أن الانفتاح على الشرق لم تكن عواقبه كما كانوا يخططون أو يأملون، فقد استفادت هذه الدول من مزايا العولمة والأسواق المفتوحة، إذ حافظت على أنظمتها الديكتاتورية وعدائها للغرب.
في سياق هذه البيئة شديدة الاضطراب، يختلط الحابل بالنابل، ففي حين أنّ التخطيط والتنفيذ لعمليات فك الارتباط قائم على قدم وساق؛ تلقي الأحداث غير المتوقعة بثقلها في طريق تلك المخططات، فتثير القلق وتدفع صناع القرار حول العالم لاجتراح سياسات جديدة، أو تعديل سياسات قديمة لكي تصبح متوائمة مع البيئة الجديدة التي أوجدها الحدث الجديد المفاجئ وغير المتوقع. لذلك، فالقول إن ما تفعله حكومة "نتنياهو" هو تنفيذ لمخطط متوافق عليه في عواصم صنع القرار في الغرب يعتبر أحد أشكال شطحات الخيال، وربما هو قول يقع تحت تأثير الرغبات والأمنيات.
مساعٍ غربية تلعب دور المخدر
تنظر أميركا إلى الحرب مع إيران بمنظور دولة عظمى تشاهد العالم كله، فتأخذ في الحسبان تأثير هذه الحرب على أسعار النفط واستمرار تدفقه وتأثيرها على الاقتصاد العالمي، وعلى التوازنات الإقليمية. فأميركا تتخوف من الحرب مع إيران نتيجة لحساباتها المعقدة، وبالأصح: هي تخاف من تبعات الحرب مع إيران، وفي الوقت ذاته تخاف على إيران، فإيران قوية هي الضمانة الوحيدة لأميركا بأن تبقى دول الخليج العربي مرتبطة بها، خاصة مع وجود شكوك أميركية بأن هذه الدول ميولها شرقية أكثر مما هي غربية.
في المقابل، تسقط هذه الحسابات كلها من سجلات حكومة "نتنياهو" التي تعتبر نفسها تخوض حرباً وجودية بغض النظر عن النتائج. وفي حين يبدو الغرب متفهماً للموقف الإسرائيلي يحاول باستمرار كبح جموح "نتنياهو" خوفاً من انزلاق الأمور بالاتجاه الذي يشكل هاجساً لهذه الدول. لكن الذي يحصل نتيجة لذلك أن إيران تعول على التخوف الغربي بأن يوقف حكومة "نتنياهو" عند حد معين، إلا أن ما يحصل هو توسيع لنطاق الضربات وزيادة في قسوتها، في مشهد يشبه الذبح تحت تأثير المخدر. أي، تلعب المساعي الغربية لوقف الحرب والحد من قسوتها دور المخدر لمحور إيران، في حين تنفذ حكومة "نتنياهو" مخططاتها بخطى متسارعة.
إن الخوف هو سيد الموقف عند الجميع باستثناء حكومة "نتنياهو". وعندما يخاف الكبار فعلينا أن نتوقع أن الصغار يرتعدون خوفاً. ولكن، في اللحظة التي سوف تتخلى فيها إيران عن خوفها الشديد فإن الأمور سوف تتغير.
بالمختصر، في سياق هذه البيئة المضطربة جداً، لا يمكن التنبؤ بما سيحصل في الغد، فقد يتغير السياق العام للأحداث بين ليلة وضحاها، فكل ما يحصل ليس أكثر من ردود أفعال لا يمكن التنبؤ بمسارها.