في خضم الأزمة الإنسانية المتفاقمة في منطقة شمال غربي سوريا، من جراء نقص كمية المساعدات الأممية وتأثر البنية التحتية بتبعات الزلزال المدمّر الذي ضرب المنطقة في شباط 2023، تواجه عشرات المستشفيات في المنطقة تحديات وجودية خطيرة تهدد بإغلاقها وتعطيل خدماتها الطبية الحيوية.
خلال شهر أيار الماضي، كشف مسؤولون صحيون عن توقف الدعم المالي والإمدادات الطبية عن مستشفيات عديدة في الفترة الأخيرة، ما أدى إلى شح حاد في الأدوية والمعدات لتشغيل المرافق، بالتزامن مع تهديدات بتوقيف المزيد من المنشآت الطبية خلال الأشهر القادمة من جراء نقص عمليات التمويل.
وتبدو خيارات الجهات المعنية محدودة للغاية لتوفير الدعم اللازم لهذه المرافق الحيوية في حال لم تتلق الدعم اللازم من المنظمات الدولية، كما أن شح الدعم الأممي زاد من تفاقم الأزمة.
وتخشى السلطات المحلية من أزمة إنسانية أكثر حدة، في حال توقف عدد كبير من المستشفيات عن العمل، حيث سيكون مصير المرضى والمصابين محط خطر في ظل انعدام البدائل.
وتكرر المؤسسات المحلية مناشداتها للمجتمع الدولي بالتدخل العاجل لإنقاذ هذه المستشفيات من الانهيار أو الإغلاق، كونها الخط الأخير لإنقاذ أرواح المدنيين في ظل الظروف المأساوية، وتصاعد وتيرة القصف من قبل النظام السوري وروسيا على المنطقة.
عشرات المنشآت الطبية مهددة بالإغلاق
مدير منظمة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، رائد الصالح، قال لـ تلفزيون سوريا، إنّ نحو 112 منشأة طبية في شمال غربي سوريا ستغلق أبوابها خلال الأشهر الثلاثة المقبلة في حال لم يتم توفير تمويل لتشغيلها، مضيفاً أن نقص التمويل هذا العام، تجاوز 60 في المئة ببعض القطاعات، كما أن 50 بالمئة من أعمال التعافي من زلزال شباط 2023 لم تنته، ولم تموّل أصلاً.
وأضاف الصالح: "في كل يوم، لدينا أحاديث مع الأطباء والمسؤولين الإغاثيين، هناك حاجة كبيرة جداً، تزامناً مع نقص التمويل، خاصة أن الالتزامات التي أعلنت عنها الدول في مؤتمر بروكسل لم ترق لتلبية الاحتياجات"، وكذلك تحدث مدير الدفاع المدني، عن غياب الاهتمام الدولي بـ"المأساة السورية"، بسبب تركز الاهتمام بالمأساة الإنسانية التي سببتها روسيا في أوكرانيا، والمأساة التي سببتها إسرائيل في غزة.
وأفاد مدير صحة إدلب الدكتور زهير القراط، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، بأن الواقع الصحي في إدلب يسير نحو التدهور بعدما انتعش لأشهر عقب كارثة الزلزال، نتيجة إحداث مشاريع للاستجابة امتدت بين ثلاثة وستة أشهر.
وأضاف القراط أن 70 منشأة طبية في إدلب وحلب توقفت عن العمل، وسط مخاوف من توقف منشآت أخرى في نهاية شهر حزيران الجاري، ونهاية أيلول القادم، بسبب تخفيض قيمة الدعم المقدم لسوريا من قِبل المانحين، وتوجه الأنظار نحو كوارث أخرى في العالم، مثل غزة وأوكرانيا.
المشاريع أو المنشآت المذكورة تموّلها عدة جهات ومنظمات، وأكثر من مانح دولي، وتتوزع في مختلف مناطق شمال غربي سوريا، مثل جسر الشغور وأريحا والدانا وحارم وسلقين وكفرتخاريم، علماً أن العمل مستمر في بعضها بشكل تطوعي ريثما تجد الجهات المحلية حلولاً بديلة، وفقاً لـ "القراط".
وأوضح أن عدد سكان إدلب وما حولها يزيد على 5 ملايين نسمة منهم 3.5 ملايين نازح، نصفهم يعيشون ضمن مخيمات، وحتى نهاية شهر حزيران سيرتفع عدد المنشآت الصحية التي توقف عنها الدعم إلى 112 منشأة تخدّم نحو 1.5 مليون نسمة، وحتى نهاية العام الجاري سيرتفع هذا الرقم إلى 136 منشأة صحية من بينها 42 مركزاً تقدم خدمات الصحة الإنجابية.
وانخفضت المنح الدولية للقطاع الطبي في المنطقة بنسب تراوحت بين 30-60 بالمئة، يترافق ذلك مع زيادة سكانية بنسب عالية، ما يشكل تحدياً كبيراً لقطاع الصحة، كما أن تأثر مشافي الأطفال ومراكز اللقاح ومراكز علاج السل وغسيل الكلية وبنوك الدم، مع انتشار الأوبئة والأمراض المزمنة، يهدد بارتفاع نسب الوفيات خاصة بين الأطفال وكبار السن في المنطقة، والتي تعاني أساساً من ظروف إنسانية ومعيشية مأساوية.
منظمات وجمعيات تحذّر
سبق أن قالت "الجمعية الطبية السورية الأميركية" (سامز)، إنّ هجمات قوات النظام السوري على السكان في شمال غربي سوريا، تزيد من الحاجة المُلحة للخدمات الصحية الإسعافية، حيث ذكرت في بيان، أن مشفى الأتارب الجراحي استقبل منتصف أيار الماضي 7 إصابات من عائلة واحدة، بينهم طفلان وسيدة، من جراء استهداف بلدة تديل في ريف حلب الغربي.
وأضافت أن "هذا الحدث يأتي في سياق استمرار القصف في مناطق شمال غربي سوريا، مما يزيد من الحاجة المُلحة للخدمات الصحية الإسعافية ويؤكد على ضرورة توفيرها للسكان ودعم جاهزية الكوادر الطبية والصحية".
ودعت "سامز" للالتزام بالقانون الإنساني الدولي، الذي يحظر بشكل صارم الهجمات المباشرة والعشوائية على المناطق المدنية، مضيفة: "نحن بحاجة لدعمكم المستمر لضمان سلامة وصحة أهلنا في شمال غربي سوريا".
من جهتها، قالت منظمة "أطباء بلا حدود"، إنّ ثلث المرافق الصحية في إدلب وحلب شمال غربي سوريا، علّقت أنشطتها كلياً أو جزئياً نظراً لنقص التمويل، ما حرم 1.5 مليون شخص من الرعاية الصحية الطارئة والمنقذة للحياة.
وأضافت المنظمة في بيان لها، أن 112 مرفقاً صحياً آخر يواجه خطر الإقفال بنهاية حزيران وفقاً للسلطات المحلية، في هذا السياق، حثّ البيان المانحين الدوليين والحكومات على تعزيز دعمها المالي فوراً للنظام الصحي في شمالي سوريا.
وقال المنسق الطبي مع أطباء بلا حدود في شمال غربي سوريا كارلوس آرياس: "يتحمل السوريون العبء الأكبر للعجز المالي، لأن المستشفيات لا تحصل على التمويل، فحين يلتمس الناس الرعاية الصحية يجدون المستشفيات إما مقفلة أو بلا أطباء أو خاوية من الأدوية، وإن عثروا على طبيب فعليهم شراء الأدوية من صيدليات خاصة، وهو ما لا يمكنهم تحمل كلفته".
وأشارت المنظمة، إلى أنها لا تغطي إلا جزءاً محدوداً من الاحتياجات في تقديمها للمساعدات الطبية والإنسانية التي تشتد الحاجة إليها في محافظتي إدلب وحلب، حيث دعمت أو شاركت في إدارة ستة مستشفيات في عام 2023، فوفّرت فرقها أكثر من مليون استشارة في العيادات الخارجية وأكثر من 150,000 استشارة للأمراض غير المعدية، كما أشرفت على أكثر من 20,000 ولادة ووفرت أكثر من 25,000 استشارة نفسية فردية.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، اضطر 77 مرفقاً صحياً في شمال غربي سوريا إلى تعليق أنشطته نظراً لنقص التمويل، بما في ذلك 17 مستشفى 9 منها متخصصة في رعاية النساء والأطفال، حسب البيان، وبهذا الخصوص، قال منسق أطباء بلا حدود الميداني في إدلب، كريم الراوي، إنّ المنظمة "تلقت طلبات للدعم المباشر من ستة مستشفيات وخمسة مراكز رعاية صحية أساسية على الأقل، علماً أن ثلاثة منها هي مرافق حيوية في مجال الرعاية الطبية في شمال غربي سوريا".
بدوره حذّر فريق "منسقو استجابة سوريا" كل الجهات من العواقب الكارثية المترتبة عن إيقاف الدعم المقدم للقطاع الطبي, وسط تزايد المخاوف من انتشار الأمراض والأوبئة في منطقة الشمال السوري، كما أعلن تأييده لأي حملة مناصرة بغية عودة الدعم المقدم من قبل الجهات المانحة إلى المؤسسات والكوادر الطبية في جميع النقاط الطبية والمشافي، وإعادة تفعيل عدد من المراكز المتوقفة سابقاً.
ما سبل مواجهة انقطاع الدعم؟
ذكر مدير صحة إدلب، أن الخطط الحالية تنص على استمرار عمل المنشآت بشكل تطوعي مع السعي لتأمين الكلفة التشغيلية على الأقل، إضافة لدمج عدة منشآت مع بعضها البعض لتخفيف الكلفة والحفاظ على الخدمات الأساسية.
وفي حال لم تحصل هذه المنشآت على الدعم المالي الكافي لتشغيلها، فإن جزءاً كبيراً من المستشفيات قد يتوقف عن العمل بشكل كامل مع نهاية عام 2024، بحسب "القراط"، مضيفاً أن هذه المستشفيات تقدم خدمات داخلية وجراحة، وبعضها نسائية وأطفال، كما يوجد مراكز صحية وتخصصية للعلاج الفيزيائي وغسيل الكلى.
وفي منتصف شهر أيار الماضي، عقدت مديرية الصحة في إدلب، اجتماعاً موسعاً مع المنظمات الإنسانية المعنية بالقطاع الصحي، لمناقشة المخاطر التي تهدد هذا القطاع شمال غربي سوريا من جراء انخفاض التمويل الدولي.
بحسب ما ذكرت مديرية صحة إدلب، فقد جرى خلال الاجتماع طرح مجموعة محاور للنقاش، منها انخفاض الدعم الدولي المقدم للقطاع الصحي في المنطقة، وخطورة انسحاب ملف تمويل القطاع الصحي في المنطقة إلى النظام السوري.
كما تم الاطلاع على توزع خريطة الخدمات الصحية، ومناقشة تقليص عدد المنشآت من خلال دمج خدماتها، وضرورة مشاركة بيانات المنشآت مع المديرية ومع نظام DHIS2 الذي يتبع لوحدة المعلومات HIS.
وخرج المجتمعون بمجموعة من التوصيات أبرزها:
- دمج الخدمات الصحية ضمن المنطقة الواحدة.
- وضع خريطة خدمات جديدة وفق الاحتياج والسكان.
- تخفيض الكلفة التشغيلية من خلال تطبيق مجموعة من الإجراءات.
- جعل بعض الخدمات الطبية غير الإسعافية بأجور رمزية (خدمات خيرية).
- ضرورة التواصل مع المانحين لتوجيه المنح وفقاً للاحتياج، والبحث عن مانحين جدد ومشاريع جديدة.
- إجراء إعادة تقييم احتياج للكادر الطبي.
- أتمتة الخدمات الصحية وتفعيل النظام الصحي الموحد بين المنشآت، لتقليل الهدر في النفقات والكادر نتيجة زيارة المريض لأكثر من منشأة.
ما دور الجهات المحلية؟
قبل أيام، أعلنت وزارة الصحة في الحكومة السورية المؤقتة، عن عقد الاجتماع التنسيقي الأول لمناقشة الواقع الطبي في الشمال السوري، وبحسب وزير الصحة مرام الشيخ مصطفى، فإن الاجتماع ناقش العديد من المواضيع المهمة، مثل تناقص الدعم المقدم للقطاع الصحي، وتقييم الاحتياجات وتحديث الخارطة الطبية، إضافة إلى ملف الرقابة الدوائية.
ولفت الشيخ إلى تشكيل مجموعة من اللجان لمتابعة المواضع التي جرى مناقشتها، مع الاتفاق على عقد اجتماع دوري كل شهر لمناقشة واقع القطاع الصحي.
وفي ذات السياق، ذكر مدير العلاقات العامة في مديرية صحة إدلب، غانم الخليل، أن الاجتماع بحث التحديات أمام القطاع الصحي في ظل نقص الدعم والمنح المقدمة، ونتج عنه طرح حلول للحد من تبعات ذلك.
وشملت الحلول إعادة توزيع الخارطة الطبية وفق معايير الصحة العالمية، حسب عدد السكان وعدد الأسرّة وغير ذلك، ومن المقرر العمل على مرحلتين للتنفيذ، أولها تتضمن دمج المستشفيات والاعتماد على فرزها حسب التخصص، مثل العينية والجراحة العظمية وغيرها، للحد من التأثيرات السلبية لنقص التمويل.
وخلال حديث مع موقع تلفزيون سوريا، لخّص مدير مديرية الرعاية الثانوية في وزارة الصحة بـ "حكومة الإنقاذ" ملهم غازي بعض النقاط المتعلقة بالواقع الصحي في إدلب على الشكل الآتي:
- يوجد في إدلب قرابة 60 مستشفى عاماً يقدم الخدمات المتنوعة لكل شرائح المجتمع مجاناً، حتى اللحظة تم إيقاف الدعم عن 7 مستشفيات، والعدد قابل للزيادة في الفترة القادمة، وبعض المشافي انتهى دعمها في نهاية شهر أيار، وعدد آخر سيتوقف دعمها نهاية شهر حزيران.
- سبب توقف الدعم هو انتهاء مدة مشاريع الدعم وتوجيه الدعم الدولي لمناطق صراع أخرى حول العالم كأوكرانيا، أما عن التمويل فيتلقى القطاع الصحي الدعم من قبل جهات مانحة ومنظمات دولية وإقليمية.
- نسعى مع الجهات المانحة والمنظمات العاملة في القطاع الصحي للحفاظ على المشاريع القائمة وتمديدها لضمان تغطية كامل الشمال السوري خدمياً، مع تسليط الضوء بكثافة على حجم معاناة الأهالي في الشمال المحرر ومقدار الاكتظاظ السكاني الكبير وانتشار الكثير من الأمراض المعدية في المخيمات كالتهاب الكبد الوبائي A واللاشمانيا وغيرها، إضافة لوجود الإصابات الكثيرة الناجمة عن قصف قوات النظام، مما يتطلب تعاون الجهود الدولية لتقديم الرعاية الصحية اللازمة للمنطقة.
- أنشأت وزارة الصحة أكبر مشفى جراحي في المحرر وهو مشفى الشفاء الجراحي، وأكبر مشفى للأمراض الداخلية وهو المشفى الوطني في إدلب، إضافة للمشفى الوحيد في منطقة أريحا وجبل الزاوية، وهو مشفى أريحا المركزي، كما تسعى وزارة الصحة لإنشاء مشفيين أو أكثر في المناطق التي قد تفتقر للخدمات الصحية مستقبلاً، كما تقوم بتوزيع ما يتوفر لديها من أجهزة وأدوية ومستهلكات طبية على بقية المشافي.
- في الواقع، توقف الدعم عن بعض المشافي مؤخراً، لكن ما زال القسم الأكبر منها يعمل تطوعياً بدوام جزئي إداري، لكن أدى ذلك إلى زيادة الضغط على المشافي الأخرى إضافة لزيادة المشقة والعبء على المواطنين، وذلك لبعد المسافات خاصة في منطقة أريحا وجبل الزاوية والتي يعمل فيها حالياً مشفى وحيد، وهو مشفى أريحا المركزي.
يشار إلى أن منظمة "الدفاع المدني السوري"، أعلنت قبل أسابيع عن إطلاق مشروع يهدف لترميم وتأهيل أكثر من 15 منشأة طبية في شمال غربي سوريا، تتوزع بين مشاف، ومراكز رعاية صحية أولية، ومراكز لصحة النساء والأسرة، تعرضت لقصف سابق، وتضررت بعضها أيضاً بعد الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة في شهر شباط من العام الماضي.
ويشمل المشروع مستشفى القنية في ريف إدلب الغربي، ومركز الرعاية الصحية الأولية في حربنوش، والمستشفى الجراحي التخصصي، ومركز الرعاية الصحية لمرض الثلاسيميا في مدينة إدلب، ومركز الرعاية الصحية الأولية في البردقلي، ومستشفى الهداية في قاح، ومستشفى حارم العام، ومركز الرعاية الصحية الأولية في الجانودية، ومستشفى الأندلس في باتبو، ومستشفى الأمل في سلقين، ومستشفى عين البيضا، ومركز الرعاية الصحية الأولية في خربة الجوز، ومركز الرعاية الصحية الأولية في عقربات، ومركز صحة النساء والأسرة بأريحا، ومركز صحة النساء والأسرة في شران شمالي حلب، ومن المخطط أن تتوسع الأعمال لاحقاً لتشمل منشآت طبية إضافية في مناطق ريف إدلب وحلب، بحسب الدفاع المدني.