تعدد سلطات الأمر الواقع إضافة إلى الفساد المنتشر في مؤسسات القضاء وعدم ثقة الناس بتلك المحاكم يدفع المتخاصمين للجوء إلى الصلح العشائري.
يلجأ السوريون إلى الصلح العشائري لحلّ خلافاتهم بالاعتماد على أعراف وتقاليد وعادات متوارثة من عهود طويلة. ويشرف وجهاء ذوو مكانة اجتماعية تحظى باحترام على تنفيذ أحكامها التي تنتج حلولاً مستدامة، ما يعزز دورهم في ظلّ ضعف سطوة القانون وتعدد سلطات الأمر الواقع.
والصلح العشائري في درعا عادة قديمة متجددة، إذ اعتاد الناس على حل خلافاتها عن طريق أعيان المنطقة التي حصلت فيها المشكلة. وفي حال كانت المشكلة كبيرة وذات تأثير على العلاقات بين العشائر المتخاصمة، يأتي أعيان من مناطق أخرى لبحث الحلول.
وفي السياق يقول عبد الوهاب آل محاميد أحد شيوخ عشيرة المحاميد في حوران لموقع تلفزيون سوريا إن: "الأصل في حل الخلافات هو الاحتكام لقوانين الدولة والجهاز القضائي الرسمي، لكن ظروف الحرب جعلت اللجوء إلى الصلح العشائري القائم على أحكام الشرع والأعراف السائدة الحل الأمثل لحل الخلافات. والصلح العشائري لا ينصب نفسه بديلاً عن القضاء وقانون الدولة، بل يعمل إلى جانبه."
ويتابع: "أبناء الجنوب يفضلون القضاء العشائري لأنه يوفر الوقت والمال ويريح من روتين المحاكم. كما أن من يتولون الحكم من رجال الإصلاح يتمتعون بالمعرفة ولهم سلطة فرض الحكم على أبناء القبيلة والمنطقة وكلمتهم تنفذ من دون اعتراض. وجميعهم عدول أصحاب علم غير منحازين لأي طرف وقد مارسوا القضاء المتوارث عن الآباء والأجداد."
وعزا فيصل أبازيد أحد شيوخ عشيرة الأبازيد في درعا البلد سبب لجوء المتخاصمين إلى الصلح العشائري إلى غياب الدولة وتعدد سلطات الأمر الواقع إضافة إلى الفساد المنتشر في مؤسسات القضاء وعدم ثقة الناس بالنظام ومحاكمه، وأضاف في أثناء حديثه مع موقع تلفزيون سوريا أن: "حاجة الناس من أبناء العشيرة إلى أقاربها هو ما يدفعهم لاحترام وجهاء العشيرة وقبول الحكم الصادر عنهم، لأنهم لو لم يتبعوا لقرار وجهاء العشيرة فسيتم التخلي عنهم حين يواجهون المصاعب."
أما في السويداء يعتبر رجال الدين والوجهاء التقليديون المقصد الأول للناس في حل كل أنواع القضايا، من الخلافات الزوجية والعائلية إلى النزاعات الاقتصادية وقضايا القتل. وأنشأت دار الطائفة الدرزية في السويداء برئاسة شيخ العقل يوسف جربوع لجنة لحل النزاعات اعتمدت الأعراف والتقاليد في حل مئات من القضايا.
ويزداد مستوى العنف في محافظة السويداء يوما بعد آخر، حيث نشر موقع "السويداء 24" الإعلامي، في الأول من الشهر الماضي، تقريرا قال فيه، إنه رصد في شهر كانون الثاني 2022، مقتل 29 شخصاً في محافظة السويداء، من جراء حوادث عنف متفرقة شهدتها المحافظة.
ويترافق ذلك بدعوات مجتمعية لتفعيل دور قانون الدولة القضاء والضابطة العدلية، أو اللجوء إلى الحماية المجتمعية للوقوف بوجه تردي الوضع الأمني.
الوجهاء والأعيان ورجال الدين بدلا من قضاء الدولة
وأوضح مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني لموقع تلفزيون سوريا أن: "النظام السوري سخر جميع أجهزته الأمنية من أجل قمع الاحتجاجات التي اندلعت ضده، وقتل مئات الآلاف من المدنيين من أجل البقاء في السلطة، لكنه لم يكترث لتفاقم العنف في المجتمع ولم يول أهمية لملاحقة مرتكبي الجرائم في مناطق سيطرته وتطبيق القوانين التي تحد من هذه الجرائم، لأن ذلك يجعل الناس في منأى عن الحقل السياسي، ما دفع سكان تلك المناطق للجوء إلى وجهاء المنطقة من أجل الاحتكام وحل الخلافات".
ويهتم الوجهاء والأعيان ورجال الدين في مناطق سيطرة قسد في قضايا الصلح كالثأر والقتل وخلافات الأراضي، وكل المواضيع التي تنشب بين أطراف المجتمع وحتى القضايا العالقة مع مؤسسات إدارية.
وتؤكد دراسة "الإدارة الذاتية: مدخل قضائي في فَهم النموذج والتجربة" التي أصدرها مركز عمران للدراسات في 11 من أيار العام الماضي أن: "السلطة التنفيذية في الإدارة الذاتية ممثلة بالأجهزة الأمنية والعسكرية تعتبر نفسها أعلى من القضائية، وبالتالي لا تخضع للمحاسبة، وتم رصد عدم تنفيذ بعض الأحكام القضائية. كما أن العاملين بالسلطة القضائية لا يتمتعون بتأهيل كاف."
وأخبر عامر البشير زعيم قبيلة البكارة في شمال شرقي سوريا موقع تلفزيون سوريا أن: "المتخاصمين من أبناء القبيلة يلجؤون إلى القضاء العشائري في مناطق سيطرة قسد، لعدم رضائهم بوجودها ولاعتبار محاكمها غريبة على تقاليدهم وأعرافهم. كما أن أفراد القبائل تفضل تداول قضاياها وخصوصاً التي تمتاز بطابع الخصوصية أمام عوارف القبائل على أي محاكم أخرى لا تراعي خصوصية قضاياهم."
وأردف: "التجربة أثبتت أن القبيلة هي الوحدة الاجتماعية الوحيدة التي تبقى متماسكة في وجه النوائب التاريخية، وهذا يعود لرابطة الدم من جهة واحترام العرف وتقاليد القبلية من جهة أخرى، إذ تمتلك كل قبيلة حالة من الأعراف والتقاليد التي تحولت إلى قواعد قانونية ملزمة، يتولى تطبيقها العارفة -شخص يعادل القاضي في القوانين الوضعية، ويتمتع بمعرفة جيدة بالأعراف والتقاليد والسوابق القضائية، ويحظى بثقة الناس- لاستخلاص حكم عشائري بحق أحد المتخاصمين، وتكون الأحكام الصادرة من عارفة القبيلة ملزمة أخلاقيا للمُدان وتحميها قوة وسطوة القبيلة."
والصلح العشائري قائم ونافذ في مناطق سيطرة المعارضة وتحرير الشام أيضاً، وتخضع أحكامه لأعراف وتقاليد لا توجد في القوانين المدنية النافذة. ويتولى عمليات الصلح وجهاء، أو مجلس شورى العشائر، أو مجلس الصلح العام.
وقال الناطق الرسمي باسم مجلس العشائر السورية الموجود في مدينة اعزاز شمال غربي سوريا مضر الأسعد لموقع تلفزيون سوريا إن: "القانون العشائري قانون منظم ومستخدم في كل الدول العربية، وحتى حين كان نظام القضاء التابع للنظام السوري قائماً قبل اندلاع الثورة السورية، كان القاضي العام يتفق مع العارفة من القبيلة على الحكم الصادر، وكان هناك تنسيق بين الطرفين."
وأضاف أن: "كل قبيلة أو عشيرة لها عارفة خاص بها، والقرار الصادر عنه هو قرار ملزم لا يقبل الرفض، حتى لو كان خلافاً كبيراً على مستوى عشيرتين مختلفتين ويصل حد القتل. ونحن لدينا عدد من المكاتب في شمال وغرب سوريا، تقوم بحل الخلافات بين أبناء المنطقة ممن يلجؤون إليها، للحد من ارتفاع مستوى الجريمة. وجميع القرارات الصادرة تتخذ وفق أحكام الشريعة الإسلامية والأعراف والتقاليد."