أواخر العام 2012 أعلن في مدينة حلب عن تأسيس أول كيان قضائي متكامل في الشمال السوري الخارج عن سيطرة النظام، باسم "مجلس القضاء الموحد"، والذي دعمت تشكيله معظم فصائل الجيش السوري الحر في حلب آنذاك، حيث أشرف على الكيان مجلس رئاسي قسمت مقاعده مناصفة بين الحقوقيين (محامين وقضاة) والشرعيين (خريجو كليات الشريعة الإسلامية)، وذلك بعد عدة اجتماعات اشترطت فيها فصائل عسكرية "إسلامية" آلية المناصفة هذه في الرئاسة.
ليتتابع بعده ظهور الهيئات والمحاكم في الشمال السوري، والتي كان حضور الشرعيين فيها يتضخم على حساب القانونيين الذين اعتادوا سماع الآية الكريمة "إن الحكم إلا لله" وتردهم عن المشاركة في مؤسسات هي صلب اختصاصهم وعملهم، حتى استقر الأمر أخيراً على شكل محاكم وهيئات تشكلها -أو تدعم تشكيلها- الفصائل العسكرية، يتشارك فيها الشرعيون والحقوقيون القضاء على أن تكون الكلمة العليا للشرعيين.
ثم وفي أواسط العام 2017 بعد أن انتهت عملية درع الفرات التي شكلت بداية الدخول التركي إلى سوريا، وإشرافها المباشر على المناطق التي تشارك جيشها مع تشكيلات الجيش الحر السيطرة عليها، وبإرادة تركية تم تشكيل مؤسسة قضائية متكاملة في الشمال السوري، تتبع الحكومة السورية المؤقتة، وتعمل وفق القانون السوري ما قبل انطلاق الثورة المعتمد من قبل نظام الأسد، حيث لا وجود للشرعيين في أي من بناها ولا دور لهم في أي من أعمالها.
هذه النقطة الأخيرة "غياب الشرعيين"، هي ما يبرر به ياسين هلال النقيب السابق للمحامين الأحرار السوريين -ونقيب محامي حلب الأحرار سابقاً أيضاً- البيان الذي أصدرته عدة شخصيات في الشمال السوري قبل أيام، مطالبين فيه بتغييرات في الشكل الحالي للمنظومة القضائية.
فبحسب هلال لم يكن يوجد في الشمال المحرر قضاء حقيقي قبل التدخل التركي، الذي عين حقوقيين في مؤسسة قضائية ساهمت بتبلور مشروع قضائي اليوم، وما سبق ذلك هو عبارة عن هيئات شرعية لا يمكن أن ترقى لتسمى "مشاريع قضائية"، بسبب غلبة "الشرعيين" على تلك الكيانات، وهو ما يجده أحد أسباب ربط المناطق المحررة بتهم الإرهاب والتطرف، منتقداً الإصرار في البيان على أن يكون لمؤسسة شرعية مثل "المجلس الإسلامي السوري" أي دور في العمل القضائي البعيد عن اختصاصها، مكرراً القول: "جربنا الشرعيين خلال الأعوام السابقة بما يمكّننا من القول أن لا قدرة لهم على تسيير أمور القضاء".
المعترضون: القانون الحالي مخالف للدين ولمبادئ الثورة وحقوق الإنسان
على الجانب الآخر يرى "الشيخ عبد الله الشيباني" رئيس رابطة أهل العلم في الشرقية (ماجستير قانون خاص) وهو أحد الموقعين على البيان، أن المحاكم والهيئات الشرعية سابقاً قامت بدور كبير في سد الفراغ القضائي الذي كانت تعيشه المناطق المحررة، رغم الأخطاء "الكثيرة" التي خالطتها وبالأخص المحاكم التابعة لفصائل متطرفة على حد تعبيره، ضارباً المثل بتجربة "الهيئة الإسلامية للقضاء في إدلب" التي وصفها بالتجربة الفريدة التي جمعت بين أهل العلم الشرعي وأهل الاختصاص القانوني.
أما بما يخص المجلس الإسلامي السوري فهو -بحسب الشيباني- إلى جانب اعتباره المرجعية الدينية الشرعية، وصاحب المكانة السامية في نفوس أبناء الجيش الوطني الحر، فقد أنهى منذ مدة دراسة القانون المعمول به عبر لجنة اختصاصية قام بتشكيلها، صدر عنها عدة توصيات تتضمن تعديلات جوهرية لكثير من المواد المخالفة للدين ولمبادئ الثورة وحقوق الإنسان، بما يؤهله ليكون شريكاً في عملية إصلاح القضاء.
ويلخص الشيباني الأسباب التي دعتهم لإصدار البيان في حالة الفوضى والانفلات الأمني الموجودة في الشمال السوري، وسط عجز واضح تعيشه المؤسسات القضائية تجاهها، كنتيجة طبيعية للشرخ بين الفصائل العسكرية وبعض موظفي المؤسسات "البعيدين عن الثورة" كما وصفهم، وما يترتب على ذلك من عدم القدرة على تنفيذ جل الأحكام الصادرة إذا كان أحد طرفي الدعوة أو كليهما عسكرياً، مضيفاً بأنه "من المعيب حقا أن يُعمل بقانون النظام المجرم الاستبدادي في المناطق المحررة دون أي تعديل، بما يحويه من مواد مخالفة للدين ولحقوق الإنسان ولمبادئ الثورة كذلك"
تشكيل إدارة تشريع" ضرب من المستحيل
إلا أن الأستاذ ياسين الذي يرأس اليوم مركز الهلال للتحكيم في الشمال السوري ينظر لفكرة تعديل القوانين، التي أشار لها البيان في مطلبه الأول "تشكيل إدارة تشريع" على أنها ضرب من المستحيل!
فبعيداً عن غياب "الشرعية" التي يتم عليها بناء تعديل أو سن القوانين؛ لا توجد اليوم جهة قادرة على إنجاز عملية كهذه! فإدارة التشريع -بحسب هلال- تحتاج على الأقل لجمع 100 حقوقي مختص ربما يشاركهم بضعة مشايخ وقادة مجتمعيين ووجهاء، بحيث يتم تفريغهم لنقاش المواد ومراجعتها وأصولها لأشهر، قبل أن يقوموا بإعادة صياغتها، متسائلاً "من يستطيع تحمل كلفة كهذه اليوم؟!، بل من يستطيع جمع 100 حقوقي في الشمال اليوم؟!"
لكن عندما يصل هلال إلى ثالث مطالب البيان وهو "إنفاذ أحكام الإعدام"، يعود إلى فكرة الشرعية نفسها، مؤكداً أنه "لن يتم تنفيذ أي حكم إعدام في الشمال السوري المحرر"، ببساطة لأن لا أحد يمكنه التوقيع على هذا الحكم، فبحسب القانون السوري إنفاذ حكم الإعدام لا يقتصر على القضاء، بل يحتاج إقرار وتوقيع دوائر أخرى مثل دائرة الفتوى والمفتي العام ورئيس الجمهورية المنتخب، وهؤلاء جميعاً غير موجودين اليوم.
هذه النقطة التي يجدها هلال حائلاً أمام التفكير في المطالبة بإنفاذ قوانين الإعدام، هي نفسها التي يستعرضها الشيخ الشيباني للتدليل على أهمية العمل على تعديلات جوهرية في "قوانين النظام" السارية في الشمال السوري، فإنفاذ عقوبة الإعدام بحق منفذي التفجيرات الإرهابية -مثلاً- هو ضرورة بحسب ما يرى، مؤكداً أن دعوتهم في البيان منضبطة ومتفهمة للإجراءات التي يجب أن تمر بها قضايا الإعدام، لذلك كانت مطالبتهم ابتداءً بتعديل القوانين، من خلال دعوة الجهات المختصة لوضع الخطط اللازمة لذلك.
وأشار الشيباني في حديثه "وإلا ما معنى تطبيق قوانين في المناطق المحررة تقضي بإعدام كل هؤلاء الثوار ومنتسبي الجيش الوطني"، في إشارة منه إلى المواد رقم 263 وما بعدها من قانون العقوبات
لا يخفي هلال بعد مراجعته لقائمة الموقعين على البيان شكه بأن بعض التشكيلات العسكرية لها مصلحة في عودة الأمور إلى ما كانت عليه عندما كانت هي المتنفذة في القضاء في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، عندما كان يمكن لقاضيين ضمن "محكمة شرعية" الحكم على القضية نفسها بحكمين متعارضين مع غياب القانون المكتوب، وهو ما ينفيه الشيخ الشيباني الذي يصر أن البيان لم يقم بالإشارة إلى الفصائل إطلاقاً، ويقول: "بكل وضوح لا نريد للفصائل أن تتحكم في المؤسسات كما أننا ضد سياسة المحاصصة الفصائلية، بل نرى اختيار الأكفأ وفق سياسة التعيينات وهذا شأن وزارة العدل، والفصائل يجب أن تكون داعمة لهذا التوجه"، كما ينفي الشيباني أن يكون موقف الموقعين على البيان ضد "التقنين"، لكنه يحدد قضيتهم بأنها "ضد المواد المخالفة للدين والثورة وكرامة الإنسان"
مصدر الشرعية
يمكن القول أن كلا الطرفين يتفقان على ضرورة وجود مظلة شرعية ما، حتى يمكن تعديل القوانين، لكن فيما يرى الموقعون على البيان المظلة ممثلة بالمؤسسات الثورية كالمجلس الإسلامي السوري والحكومة المؤقتة والائتلاف الوطني ونقابة المحامين الأحرار، وإليها وجهوا بيانهم، يرى أصحاب الرأي المخالف للبيان أن الشرعية الوحيدة المقبولة لإجراء كهذا هي شرعية تمثيلية، لا يراها الأستاذ هلال موجودة اليوم في أي مكان على الأرض السورية، فلا النظام ولا مؤسسات المعارضة شرعية منتخبة من قبل الشعب السوري، ولا يمكن أن توجد هذه الشرعية من دون انتخابات ومجلس شعب يفوض من يعمل على تعديل المواد، ويناقشها لإقرارها أو يطرحها على التصويت الشعبي.
وفي حين يفضل أصحاب الرأي الموافق لهلال إبقاء الأمور على ما هي عليه حتى الوصول إلى شرعية حقيقية، يعتبر الموقعون على البيان -ومنهم الشيخ الشيباني- أن حالة انتظار شرعية كهذه "أمر معطل لمصالح المدنيين في المناطق المحررة".