عَرِفَ السوريون منذ عرفت ثورتهم يومها الأول، فاشية النظام وبطشه المركب بعضلات احتلال روسي وميليشيا عصابات مختلفة، وخبروا مواقف انطوى عليها انحياز لجانب نظام الأسد بنفاق دولي مستمر، منذ ذلك التاريخ أشار الوجدان الشعبي السوري بأصبع الاتهام للنظام وللحلفاء" الذين أظهروا تعاطفا فارغا مع الثورة، وأحس وجدانهم بخيانة أصدقاء الأمس، وبسقوط أولى الأقنعة عن الوجوه المتآمرة، وبذلك عَبَرت شعارات وهتافات السوريين التي لا تُنسب لشخص معين بعينه، بقدر ما كانت تراث الضحية السورية بتعبير صادق عن رأيها وحسها، وكانت اليافطة المرفوعة والشعار المكتوب وما صدحت به الحناجر للحرية غير كاف لإيصال رسائل الضحايا دون توثيق.
الضمانات الشكلية التي نالها السوريون في بداية الثورة، حققت جوا ضبابيا ساهم في تمييع الحقيقة أمام أعين السواد الأعظم من ملايين السوريين، وفتح باب المساومة على حقوقهم الثابتة في الحرية والكرامة والمواطنة، والأهم التساهل مع الجرائم المختلفة التي وثقتها وتصدت لها "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" والتي أصبح عملها بعد عشر سنوات على تأسيسها ضرورة أساسية في مواكبة توثيق الجرائم والانتهاكات التي يتعرض لها السوريون على الأرض، ومرجعا مهما لتقارير دولية سياسية وحقوقية وإنسانية وصحفية معنية بالتحري عن الانتهاكات المتعددة التي يتعرض لها السوريون.
ونستطيع أن نؤكد، استنادا لتقارير ووثائق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بأن الأرقام التي ترد في تقاريرها لم تعد محصورة بإحصاء أرقام الضحايا، وتعداد الانتهاكات والجرائم، بل أصبحت تشكل ملفات مهمة في الجانب القانوني والسياسي في وجه إقفال قضية السوريين، التي يحاول حلفاء النظام في موسكو وطهران وبعض العواصم الغربية والعربية التغاضي عنها. على سبيل المثال ما زال النظام السوري يتصدر جريمة الإخفاء القسري بنسبة 85% للضحايا البالغ عددهم 101,678، بينهم 5011 سيدة و1767 طفلا، متفوقا بذلك على تنظيم داعش الذي يدعي محاربته، وعلى قوات سوريا الديمقراطية وهيئة تحرير الشام والمعارضة المسلحة التي استحوذت على النسبة المتبقية ( 15%) من ضحايا الاختفاء القسري، وفي مجال الاعتقال التعسفي وثقت الشبكة 149,457 معتقلا، أما في مجال القتل المباشر نتيجة لأعمال القصف على المدنيين يبقى نظام الأسد يتصدر قائمة المسؤولية عن جرائم القتل بواقع 199,939 ضحية حسب إحصائية الشبكة السورية لحقوق الإنسان حتى أيلول 2020 من العام الماضي، أما بقية الأرقام المتصلة بجرائم الإبادة الإنسانية والتطهير العرقي والقتل تحت التعذيب الذي ناهز 14,537 ضحية، وجرائم التهجير فهي باقية في صدارة سجل نظام الأسد ففي إحصاء مقتل الأطفال رصدت الشبكة مقتل 29,520 طفلا منذ حتى حزيران 2021. ومقتل 28,526 سيدة.
الثغرات ونقاط الضعف، تبقى قائمة في توثيق الانتهاكات في سوريا لمن يدرس ويتتبع بعناية الجهودَ المبذولة في مضمار البحث والتوثيق، ليس في صعوبة الآليات المتبعة، أو بشكلها المنظم الذي تمأسس في السنوات الأخيرة بخبرات سورية خالصة، وشموليتها لقضايا كثيرة تهم المجتمع السوري على كل الأصعدة، بل في نقاط عديدة أبرزها الأوضاع الصعبة التي يعمل وفقها الباحثون على الأرض، وتتلقفها مراكز البحث والدراسة للاستفادة منها وتوجيهها، بما يخدم القضايا التي يشار إليها وراء البحوث والمسوح الميدانية التي تفضي جميعها للتدقيق بحجم الفاجعة السورية على كل المستويات، وعلى الأهمية البالغة لإبقاء التوثيق سلاحا مشهرا بوجه المجرمين ولتحقيق العدالة بمحاسبتهم أمام المحاكم الدولية.
فبالرغم من التقدم المطرد الذي حققته تلك البحوث، ونشوء جيل جديد من السوريين يصمم على تقديم دراسات علمية وجادة، يبقى التعاطي مع هذه البحوث حذرا ومترددا، من قبل المؤسسات الإقليمية والدولية لدواعٍ عديدة، أهمها تجاهل الإشارة إلى حجم الفاجعة التي حلت بالمجتمع السوري، وتسليط الضوء على ظاهرة "الإرهاب" أو الحركات الإسلامية، بمعزل عن دور النظام الأساسي في تنامي الإرهاب الذي كان ضحيته الأولى أساسا مُجمل المجتمع السوري.
الشهادات الشخصية والتقارير الصُحفية والرسائل الخاصة، تلعب دورا أساسيا في تدوين التاريخ الذي هو بِمجموعهِ لا يتألف فقط من شهادات الأشخاص البارزين ذوي الأدوار القيادية، أو المتنفذين والمتحكمين في سير الأحداث، إنما من أناس عاديين وضعتهم الظروف وسط أحداث مصيرية، فكانوا على درجة عالية من الوعي والمعرفة لتجعلهم يسجلوا ما شهدوه أو ما شاركوا به، أو لنقل الحدث وتوثيقه عبر الصوت والصورة وتسجيل البيانات المتعلقة به.
بداية التوثيق على نحو جدي في الثورة السورية، تطور من نقل الفاجعة في الحقل السوري الشاسع، إلى الانتباه المبكر للشهادات والتقارير وعملية توثيق الانتهاكات والقتل العمد للناشطين السلميين والإعلاميين وعمال الإغاثة وفرق الدفاع المدني، واستهداف منشآت التعليم والصحة والغذاء ودور العبادة وكل مرافق الحياة، فضلا عن نقل معاناة السكان تحت الحصار والقصف والتدمير وتوثيق جرائم الميليشيات العسكرية المختلفة على الأرض ضد المدنيين وإحصاء الضحايا في المعتقلات وتدوين أسماء عشرات الآلاف من المعتقلين ومن قضوا تحت التعذيب.
سوريون عاديون أدركوا أهمية توثيق لحظات تراكمت بأعوام قاسية، عَرفوا من خلالها أي عدوٍ يواجه الشعب السوري، وقدّموا للعالم الصورة التي أشاح المجتمع الدولي النظر إليها مليا. لذلك يبقى التوثيق السوري لجرائم النظام وروسيا وميليشيات إيران وقوى الاحتلال، أهمية كبرى للمجتمع السوري وللأجيال المعاصرة الشاهد الواعي للتاريخ، ويستحق كل تقدير، والبذرة التي غرسها السوريون في البحث وتوثيق الجرائم من الهاتف النقال بصور رديئة واليافطات المرفوع عليها أسماء الشهداء والمعتقلين لتوثيق الفاجعة، إلى مأسسة العمل بالشبكة السورية لحقوق الإنسان، ومراكز البحث الأخرى مع منابر إعلامية سورية في إبراز التوثيق، كسلاح لا يقل أهمية عن سلاح مواجهة نظام قمعي استبدادي وحشي، سيبقى عاجزا من انتزاع العداء من صدور وذاكرة ملايين الضحايا.