لم يَلد العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني من الفراغ، فاستمرار الصراع ألقى بظله على جميع المظاهر، وأمست الرؤيا الوحيدة الجانب بالنظر إلى العدوان على غزة هابطةً إلى المستوى الذي نشهده في جل المواقف الرسمية العربية، ووسائل الإعلام الغربية المنحاز بعضها للرواية الصهيونية، معطيةً الأسبقية لإدانة صواريخ المقاومة الفلسطينية كموقف يهبط إلى المستوى الذي شدته إليها ماكينة التصهين، وشدت بعض مواقف محور "الممانعة" إلى محاولات فاشلة للتطهر بـ"مقاومة الشعب الفلسطيني" أو ادعاء أبوتها ونسبها وتربيتها.
فسفك الدم الفلسطيني متصل بميلاد الظاهرة الصهيونية، وترجمتها لنظام فصل عنصري على الأرض، كانت مدخلاً واسعاً لسلسلة مذابح لا تنتهي، وشكّلت المفتاح الذهبي للبوابة للصهيونية للانقضاض على الأرض، مراقبة العدوان وحجم التدمير والمذابح قدّمت صورة الواقع المرسوم في إيديولوجيا سلوك أنظمة الطغيان العربي التي لازمته طوال عقود الصراع.
أكثر من راقب ويراقب سلوك جيش الاحتلال وعدوانه والتدقيق في وسائله الجرمية، هو نظام الأسد وحليفه الروسي، في المقابل حرصت المؤسسة الصهيونية على مراقبة كل ما خُزن في جعبته وما أضيف إليها أصبح محل جرأة وفاتح شهية للمستعمر الصهيوني.
صحيح أن "الأسد" نجحَ في تدمير المشافي والأفران والبيوت فوق ساكنيها وقتل عشرات الآلاف تحت التعذيب وهجّر الملايين وأحدث تغييرا ديمغرافيا، وابتكر بمساعدة روسية إحداث أفران بشرية لحرق الجثث وإخفائها، دون عدسات تصوير واضحة كالتي توثق جرائم العدوان الصهيوني بشكل مباشر وبث حي لقنوات محلية وعالمية.. لكنّ أنظار الممانعة في شقيها "الروسي والأسدي" تبقى معجبة بالأداء الصهيوني الممتلئ بفائض الاستفادة المتبادل بشهية واحدة، مثلما فعلت في السنوات السابقة من عمر الثورة السورية لجهة قمعها بوحشية مماثلة، استعانت بنظرية الاستيطان وتسخير فكرة القمع والقهر، وطبقت منهج عصابات الهاجاناه وتسيحي والبلماخ، بأداء مؤسسة "الجيش والأمن" المكونة لهذه العصابات.
مراقبة ردود الفعل الرسمية للمجتمع الدولي بمؤسساته ومنظماته، وقياسها على حجم الجرائم الواقعة على غزة، جربها النظام في جولة المذابح المتنقلة في قرى ومدن سوريا، كما جربها الاحتلال منذ النكبة عام 1948 التي مرت ذكراها الـ73 منذ أيام، سياسة التهجير والاقتلاع والاستيطان والتغيير الديمغرافي وتسليط القهر والإذلال قطفها النظام من قاموس المحتل وطبق بنودها على الأرض و"استرخى" على مشهد إعادة تعويمه روسياً وإيرانياً وعربياً.
المشهد المختلط بالدمار والأشلاء البشرية والدم، بقي متنقلاً ونافراً في صورته المأساوية في الحولة والبيضا وبابا عمرو وتلدو وحي الوعر وغيرها من المذابح في القصير ودرعا وحلب ودير الزور وأرياف سوريا، إلى الطبعة الباقية على وحشية لم يعرفها العربي في العصر الحديث، إلا في تقاسم الصورة بين حطام أحياء غزة وتهاوي أبراجها السكنية، وضرب بنيتها التحتية واستهداف منازل المدنيين، وبين قصف أسواق السوريين وأفرانهم ومشافيهم وبيوتهم بطائرات روسيا "القلقة" من العنف في فلسطين، والمسترخية بمراقبة العدوان الصهيوني، بعدما أشهرت عن عضلاتها الفتاكة لدعم الطاغية في سوريا بكل الوسائل العسكرية والمادية والدبلوماسية، ودفعت بكل ترسانتها العسكرية لقتل وقمع السوريين، واستخدام حق النقض (الفيتو) 14 مرة لحماية قاتل السوريين.
واجه الشعب الفلسطيني وقضيته على مدار التاريخ خذلان المجتمع الدولي بوقوف الولايات المتحدة بجانب الاحتلال ودعم عدوانه من خلال إفراغ القرارات الدولية من مضمونها، واستخدام حق النقض بات مرتبطا بخذلان قضية تحرر السوريين والفلسطينيين.
يبدو الموقف الروسي اليوم في ذروة العدوان الصهيوني على فلسطين متماهٍ مع الموقف الأميركي لجهة إسناد المحتل والطاغية
يبدو الموقف الروسي اليوم في ذروة العدوان الصهيوني على فلسطين متماهٍ مع الموقف الأميركي لجهة إسناد المحتل والطاغية، للأسباب نفسها التي تتقاطع بها مصالح المحتل مع المستبد بالوظيفة المسنودة من القوى العظمى .
بقدر ما كانت مقدمات الثورة السورية عميقة في أبعادها، بقدر ما كانت كواشفها وإسقاطاتها المقارنة بين هستيريا "فيتالي تشوركين" مندوب روسيا السابق في مجلس الأمن وجلافة وزير خارجيتها لافروف، مع هستيريا المندوب الأميركي بالدفاع عن "حق إسرائيل" الدفاع عن نفسها وبالدفاع عن جرائمها، وتبني كل ذرائع القتل والسياسات العدوانية، مع ظهور مواقف عربية متصهينة متحالفة مع "الأسد" وداعية للتطبيع معه بعد تبني روايته الفاشية على السوريين كما تتبنى الرواية الصهيونية اليوم في التماهي مع ذرائعها للعدوان على الفلسطينيين.
وما أسّس في حقبة الثورة السورية، وتحديداً في حقبة مواجهة مذابح "الأسد"، واستخدامه كل مخزن القنابل والصواريخ التي سارعت موسكو وطهران لتذخيرها طوال أواقات الجرائم، لم يتوقف الأمر في تعطيل القرارات الدولية، بل في تعطيل وصول المساعدات الإنسانية ووصف اللاجئين بالإرهابيين وتبرير قتل الناشطين وإنكار المجازر، والتي حار النفاق الدولي بمحاسبته عنها، وعن الجرائم التي طالت كل جوانب الحياة الإنسانية، التي كان يراقبها العقل الصهيوني بشيء من الحبور والسعادة و"المقارنة" السخيفة لتبرير وتمرير ما سبق من جرائم للاحتلال لإكمال مشهد الفاجعة المستمرة في كل فلسطين.
ذرائع العدوان الصهيوني على غزة، واستهداف الطواقم الصحية والإعلامية والبنى التحتية لحياة السكان، لجأ إليها نظام الأسد في استعاراته الصهيونية الكثيرة لاستهداف مدن وقرى سوريا كلها، أعدم صحافيين وإعلاميين وناشطين مدنيين بدم بارد تحت التعذيب، وانتزع حناجر الهاتفين بالحرية.
اليوم يعيد المشهد لجانبي الفاجعة في فلسطين وسوريا مع المحتل والمستبد، إعادة ترتيب قواميس الفاشية بأولويات السحق والبطش، مع مشهد "هزلي" بين جانبي الفاجعة متصل بانتخابات الأسد، ومآزق تشكيل الحكومة الإسرائيلية مشهدان يقفان على حطام جريمة واحدة، لكن المفجع والمخزي في كل هذا المشهد استحضار المشهد الغزي والفلسطيني، على شاشات إعلام النظام وعلى ألسنة أبواقه ومن يدور في فلكه لـ"تحليل" سلوك وعدوان المحتل الصهيوني، والحديث عن "فشل المجتمع الدولي في حماية الضحايا المدنيين"، وهي عبارة كانت وستبقى جزءا من كارثة الشعب السوري والفلسطيني في نفاق المجتمع الدولي، ودوره في تأمين المحتل بفلسطين وحماية حارس فرعها ومسلخها البشري في دمشق.