أدرجت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عنصر صناعة العود والعزف عليه في سوريا، على قائمة التراث الإنساني الثقافي اللامادي، وذلك بعد قرار موافقة اليونسكو عليه خلال اجتماع الدورة الـ17 للجنة الحكومية الدولية لحماية التراث الثقافي اللامادي المنعقد حالياً في العاصمة المغربية الرباط (28 تشرين الثاني- 3 كانون الأول 2022).
ولأن المقصود بعبارة "التراث الثقافي غير المادي" بحسب ما ورد في موقع المنظمة: "الممارسات والتقاليد والمعارف والمهارات وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحياناً الأفراد، جزءاً من تراثهم الثقافي"؛ فإن إدراج عنصر صناعة العود والعزف عليه ضمن قائمة ذلك التراث، استند إلى علاقة آلة العود تاريخياً بالحضارات القديمة التي شهدتها الجغرافيا السورية، والتي تؤكدها الأدلة الأثرية المادية من نقوش ومنحوتات ولوحات جدارية (فريسكات) وكتابات قديمة مختلفة...
إلا أن الغريب في قبول تبنّي اليونسكو للعنصر الجديد، جاء وفقاً لملفٍّ مشترك تقدمت به إيران إلى جانب النظام السوري للمنظمة، ما يثير العديد من التساؤلات حول أسباب وأهداف ذلك التشارك، خاصة وأن تاريخ صناعة الآلة الموسيقية وأنماط العزف عليها تختلف بين سوريا وإيران. وقبل الخوض في الإجابة عن تلك التساؤلات؛ نستعرض بعجالة ماهية الآلة واستخداماتها الموسيقية وتاريخها.
آلة العود وانتشارها
اكتسبت آلة العود الشهيرة تسميتها من اللغة العربية، فالعود هو: كل خشبة، دقيقةً كانت أَو غليظةٌ، ورطبةً كانت أَو يابسةً. وهو آلة وترية موسيقية تأخذ شكل فاكهة "الكمثرى" المقطوعة بشكل طولي، بصندوق عميق، وتحتوي على لوحة نقر الأصابع لإصدار الأصوات عبر ريشة العزف على أوتارها المثبتة والمشدودة إلى مشط الآلة، وتظهر مفاتيح ضبط النغمات على جانبي صندوق المفاتيح.
أوتار آلة العود التقليدية والشائعة تتكوّن من أربعة أزواج، ولكن هناك أنواع تحتوي على خمسة أو ستة أزواج. وقد انتشر استخدام الآلة بشكل واسع في موسيقا العصور الوسطى والحديثة، سواء في الموسيقا العربية، والفارسية، والكردية، واليونانية، والتركية، والأذربيجانية، والأرمينية، وشمال الأفريقية، والإسبانية الأندلسية، والصومالية، وعموم موسيقا الشرق الأوسط.
أقدم آلة عود سليمة حتى الآن يرجّح أنها موجودة في متحف الآلات الموسيقية بالعاصمة البلجيكية بروكسل. ويعدّ العود الآلة الرئيسة في التخت الموسيقي الشرقي، وهناك أكثر من دولة عربية تدّعي تفوقها في صناعة الأعواد تاريخياً، مثل بغداد التي تحوي حرفيين بارعين كبار في صنعها، ما جعل العود العراقي يكتسب سمعة عالمية جعلت كبار الملحنين والمطربين في العالم العربي يفضلونه على غيره. كما أبدع العديد من صناع الشام ومصر في صنع العود، فاشتهر بذلك أيضاً العود "الدمشقي" و"المصري".
الجذور التاريخية للعود
تعود أقدم الأدلة الأثرية/ التاريخية لآلة العود إلى ما قبل نحو 5000 عام. وقد اكتشف باحثون ومنقّبون أقدم آثار تدل على آلة العود في بلاد ما بين النهرين (العراق القديم) والجزيرة السورية، من بينها نقوش حجرية تمثل نساء يعزفن على العود، وتعود إلى العصر الأكادي (2350- 2170 ق.م). وكان الآلة المفضلة لدى الناس في العراق خلال عصر الدولة البابلية الأولى (1950 - 1530 ق.م).
أما في مصر، فيعود أقدم دليل لاستخدام آلة العود إلى عهد المملكة الحديثة (نحو 1580 - 1090 ق.م) بعد أن دخلها من بلاد الشام عبر (الهكسوس)، وكذلك ظهر العود في إيران لأول مرة في القرن الخامس عشر قبل الميلاد نتيجة انتقاله من العراق.
العود في الغرب
بعد التوسع اليوناني/ المقدوني شرقاً خلال حملات الإسكندر المقدوني (330- 320 ق.م)، استخدم اليونانيون ثم الرومان (العصر الهلنستي) آلة العود، وهم الذين استخدموا طريقة إمساك العود بالطريقة الحالية بعد أن كان يُمسك مائلاً من الأعلى إلى الأسفل.
وقد كانت طريقة مسك العازف للعود تختلف عن الطريقة الحالية فقد كان يمسك بصورة مائلة للأعلى وفي العصر الهيلينستي أصبح العود يمسك بصورة مائلة للأسفل. إلا أن دخول الآلة وانتشار استخدامها في أوروبا تم من خلال عرب الأندلس، الذين نقلوا مع الآلة اسمها أيضاً وظل ملازماً لها في جميع مراحل تطورها، وباي يطلق عليها بالإنكليزية اسم "لوت".
وغزا العود في العصور الوسطى والحديثة قصور الملوك والأمراء في كل من ألمانيا وإيطاليا وانكلترا وفرنسا وإسبانيا بعد أن أضافوا إليه (الدساتين) التي يخلو منها العود الشرقي في الوقت الحالي. كما وضع المؤلفون الموسيقيون قطع موسيقية لآلة العود وطبعت في إيطاليا لأول مرة في عام 1507م، وفي انكلترا عام 1574م.
ومن جملة الموسيقيين الذين وضعوا مقطوعات للعود جان سيبستيان باخ وهاندل. واختفى العود من الاستعمال الأوربي بعد انتشار الإيتار والبيانو وهناك مشاهد أثرية كثيرة جداً للعود في مختلف البلدان الأوربية تعود لفترات مختلفة.
الموسيقيون وصنّاع العود العرب خلال التاريخ
يشهد التاريخ الحضاري الموسيقي العربي لأسماء كان لها الفضل في تطوير وتحسين أداء آلة العود وضبط مقاييسها. وعلى رأس تلك الأسماء نجد كبير عازفي آلة العود "زلزل منصور" (791 م) الموسيقي الشهير، ضارب العود وصانعه الذي أطلق عليه اسم "الشبّوط".
أما الموسيقي الشهير أبو الحسن علي بن نافع الموصلي الملقّب بـ "زرياب" (789- 857م) الذي نقل الموسيقى الشرقية إلى الأندلس وطوّرها، فقد أضاف الوتر الخامس للعود، وأدخل العديد من المقامات، وطوّر في صناعة العود فجعل "المضراب" من ريش النسر بدل الخشب.
وهناك الفيلسوف الكبير أبو نصر الفارابي (874- 950 م) سيد صناع آلة العود، نظراً للدراسات والأبحاث التي وضعها، بالإضافة إلى المؤلف الموسيقي الكبير والفيلسوف أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (805- 873 م) الذي ترجم العديد من المؤلفات اليونانية إلى العربية وألف الكثير من الكتب في الموسيقا.
حديثاً، برز في العراق اسم صانع الأعواد الشهير محمد فاضل المولود في بغداد عام 1910. وكذلك اسم فؤاد جهاد صاحب ورشة فؤاد جهاد وأولاده في بغداد، الذي امتهن أولاده أيضاً المهنة، ومنهم ليث، وعلاء الذي استقر لاحقاً في قطر.
كما برز أيضاً في العراق اسم ثابت البصري، من البصرة. وتشتهر الأعواد التي يصنعها البصري بجودتها العالية ويُنظر إليها بتقدير في جميع أنحاء العالم العربي.
وفي مصر، كان خليل إبراهيم الجوهري الذي أهدى الملك فاروق عوداً مطعماً بالذهب من صناعته، كما تعامل مع أشهر ملحني القرن العشرين كأحمد صدقي ورياض السنباطي الذي صنع له أربعة أعواد. بالإضافة إلى صانع العود موريس شحاته، وبكر داغر وأولاده مصطفى داغر ومحمود داغر. وفتحي أمين مع ولده سيد فتحي أمين.
وفي سوريا، ظهر في دمشق اسم عبده جورج النحات وإخوانه روفان (1854) وأنطون (1867) وحنا (1872)، اشتغلوا كلهم في صناعة العود. واستمر أبناء جورج في صناعة العود حتى عام 1965.
وفي حلب، ظهر جميل جورجي الذي انتقل برفقة عائلته إلى مصر سنة 1900 حيث افتتحوا أشهر ورشة لصناعة آلة العود في شارع محمد علي بوسط القاهرة عام 1906، وعُرِف جميل جورجي بصناعة أفخم الأعواد وأدقها صنعاً. وجميل جورجي هو صانع العود الذي غنّى به الفنان فريد الأطرش أغنيته الشهيرة الربيع عام 1949، وقد استغرقت صناعته ستة أشهر كاملة، وكلّف أربعة آلاف جنيه حينذاك.
ومن السوريين أيضاً نجد: محمد نديم دلا من حمص، وحافظ سليمان من سلمية- حماة، وطلال منصور من حمص أيضاً، وعلي خليفة من دمشق، وغيرهم الكثيرون.
وفي فلسطين، يبرز اسم بطرس بشارة (من مواليد بلدة ترشيحا سنة 1956).
ومن الكويت، الصانع يوسف سالمين، ويعقوب جاسم الذي يوقع أعواده عادةً بـ "أوتار الفن".
إيران تدخل عبر أسماء الأسد!
بالعودة إلى قرار إدراج عنصر صناعة العود وعزفه على قائمة التراث الثقافي اللامادي في اليونسكو بناء على مقترحٍ مشترك بين النظام السوري وإيران؛ ومن خلال متابعة تفاصيل الملف المقدّم من الجهتين المذكورتين إلى اليونسكو، تبيّن أن ما تسمّى "منظمة التراث الثقافي والحرف اليدوية والسياحة الإيرانية" شاركت بتقديم الملف عبر ممثل النظام السوري في المنظمة الأممية، والمتمثل بـ "الأمانة السورية للتنمية".
و"الأمانة السورية للتنمية" هذه تنشط في مجال "الحفاظ على التراث الثقافي والترويج له عبر منظمات غير حكومية، بالإضافة إلى إعادة ترميم الأماكن الأثرية والتراث الأثري المادي" بحسب ما ورد في تعريفها على موقعها الرسمي.
وتتوزع مكاتب تلك "الإمانة" في مختلف المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري في محافظات (دمشق وريف دمشق وحلب وحمص وحماة وطرطوس والسويداء واللاذقية والحسكة ودرعا والرقة ودير الزور).
وتعد "الأمانة" جهة استشارية معتمدة في اليونسكو منذ اعتمادها للمرة الأولى في المنظمة عام 2012، ثم تجديد الاعتماد عام 2017، وهذه السنة تم تجديد اعتمادها مرة ثانية، بالرغم من أن رئيسة هذه المؤسسة هي عقيلة رئيس النظام السوري "أسماء الأخرس" (أسماء الأسد) التي تستغلها للتوغّل داخل منظمات المجتمع الدولي وكسب الأموال منها بذريعة "حماية التراث السوري".
ويعتبر ناشطون أن "الأمانة السورية للتنمية" هي بوابة النظام الناعمة للسيطرة على الآثار السورية، واستثمار أملاك الدولة، من خلال مصادرة بعض الأراضي المهمة كمعرض دمشق الدولي القديم، ومنازل في دمشق القديمة، بحجة حماية الآثار، فضلاً عن احتكار كل ما يتعلق بالآثار السورية، وبشكل خاص منها الذي يلقى اهتماماً دولياً، أو المدرج على قائمة التراث العالمي.
وتُظهر بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن الأمم المتحدة تبرعت للأمانة على الأقل بأكثر من 750 ألف دولار في عام 2016، وأكثر من 732 ألف دولار في عام 2017، إضافةً إلى 4.3 ملايين دولار في عام 2018، وفق دراسة أجراها مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، بعنوان "دور العمل الخيري في الحرب السورية".
أما إيران التي دخلت إليها آلة العود عبر دول المشرق العربي، فتأتي مشاركتها تلك ضمن مساعيها المستمرة في التحكم بمختلف مؤسسات النظام، بما فيها الثقافية بالطبع. ويظهر ذلك جلياً عبر إنشائها "المراكز الثقافية الإيرانية" التي باتت تنتشر اليوم في عموم المدن والبلدات الخاضعة لميليشياتها ولقوات النظام السوري، وتعمل على ترويج أفكارها ومفاهيمها داخل أوساط المجتمع السوري الذي باتت تعتبره إيران اليوم امتداداً ديموغرافياً لها في المنطقة.