أعطت أفغانستان للجهاديين العرب أكثر مما قدموا لها. فقد منحتهم المحضن الذي آوى أعضاء جماعات إسلامية من أنحاء مختلفة من العالم، وأتاح لهم التثقيف الأيديولوجي والإعداد البدني والتدريب على الأسلحة وتبادل التجارب وتناقل الخبرات. وبينما حوت الساحة الجهادية في أفغانستان، ومدينة بيشاور الباكستانية الحدودية التي كانت قاعدة المتطوعين العرب، أعداداً لافتة من الخليجيين والمصريين، مما سيسهم بشكل أساسي في ولادة السلفية الجهادية؛ فإن عدد السوريين كان قليلاً بصورة ملحوظة، إذ كانوا خارجين من تجربة ملحمية في الصراع مع نظام بلادهم في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. ونتيجة الطابع المبكر لهذه الحركة فقد رغب الكثير من أبناء الجماعات الإسلامية في الاطلاع عليها واستخلاص «العِبَر» منها. وهو ما تكفل به كتاب «الثورة الإسلامية الجهادية في سوريا» الذي وضعه، في باكستان، اسم مستعار هو «عمر عبد الحكيم»، الذي سيشتهر في المستقبل باسم «أبي مصعب السوري».
حفظت أجيال من المجاهدين العرب، وحتى في العالم الإسلامي، اسم «جاهد دندش» (أبي عبد الله الجسري) كنوع من يهوذا الذي يجب أن يلقى «حساباً عسيراً»
جاء الكتاب في جزأين؛ تولى الأول منهما سرد القصة فيما اعتنى الثاني بالتنظير المبني على الدروس المستفادة من التجربة. وقد لاحظ أبو مصعب، آسفاً، أن كثيراً من قرائه توقفوا عند نهاية القسم الأول الذي يقدّم قصة مثيرة تحوي، بطبيعتها، كل العناصر التي يمكن أن تحرّك انفعالات الشباب الإسلامي؛ من شخصية كاريزمية مخلصة قليلة الخبرة «بدهاليز السياسة» فتصبح ضحية ألاعيب القيادة الإخوانية الهرمة خارج الحدود، حتى تقرر العودة إلى الداخل لإحياء العمل العسكري، فتقع، هذه المرة، في أحابيل أحد عملاء المخابرات السورية الذي يستغل هذه الرغبة الحارقة فيوهم عدنان عقلة، قائد تنظيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين»، أن لديه القدرة على تأمين قواعد آمنة جديدة لإطلاق الجهاد مرة أخرى، فيقرر عقلة إرسال من تبقى حوله من التنظيم في مجموعات كانت تُعتقل فوراً وتُجبَر على كتابة رسائل تطمين لزعيمها الذي تبع من سبقوه فلاقى المصير نفسه، مما شكّل الضربة القاضية على «الطليعة المقاتلة».
في مواجهة أبي عمار (عدنان عقلة) تحضر قيادات الإخوان السوريين كشياطين رمادية مراوغة ودنيوية، فيما يحتل «الخائن»، عن جدارة، موقع البطل الشرير في الحكاية. وهكذا حفظت أجيال من المجاهدين العرب، وحتى في العالم الإسلامي، اسم «جاهد دندش» (أبي عبد الله الجسري) كنوع من يهوذا الذي يجب أن يلقى «حساباً عسيراً» لولا أنه اختفى تماماً. وحتى عندما أتيحت الفرصة لبعض بقايا «الطليعة المقاتلة» أو المتعاطفين معها، وللمهاجرين من بلدان مختلفة، للقدوم إلى سوريا، بعد انطلاق ثورتها وتهاوي حدودها بالتدريج، فإن محاولاتهم العثور على دندش في جسر الشغور بريف إدلب باءت بفشل ذريع رغم تجددها وإلحاحها المستمرين.
لم تكن المعلومات التي حملها طالبو الثأر كافية. فدندش لم يكن «أبا عبد الله» إلا في المرحلة التي اخترق فيها التنظيم. فهو «أبو فريز» نسبة إلى اسم والده كما جرت العادة في المنطقة. كما أنه لم يكن جسرياً بل من قرية «الكندة» التابعة لبلدة «بداما» التابعة بدورها لمنطقة «جسر الشغور». والأهم أنه لم يعد إلى قريته، إلا زائراً لماماً، منذ أن نفذ مهمته الخطرة.
ولد محمد جاهد دندش عام 1957 لعائلة مزارعين عادية كبيرة العدد. طمح إلى السلطة والنفوذ من مطلع شبابه فقدّم أوراق انتسابه إلى الكلية الحربية التي رفضته بعدما بيّن الكشف الطبي أن وراء عينيه الزرقاوين عمى ألوان لا أمل في شفائه. فحوّل طلبه إلى «الصف الخاص» التابع لوزارة التربية وتخرّج معلماً. وبين التدريس في قرية «الناجيّة» المجاورة وخطبة الجمعة في قريته كانت العينان الزرقاوان تراقبان العالم حولهما وتبحثان عن طريقة للصعود.
في تلك المرحلة من أواخر السبعينيات كان التيار الإسلامي يتململ تحت ضغط السلطة من خارجه وتأثير دعوة «مروان حديد» الجهادية من داخله. وكانت خلايا جماعة «الشيخ مروان» الشبابية في الإخوان تنمو باطراد في حماة وحلب وريف إدلب ومناطق سورية أخرى.
عندما سيستعيد دندش ذكريات تلك الأيام، بعد عقود، سيفاخر بأنه هو من عرض على فرع الأمن العسكري بإدلب فكرة اختراق «الطليعة». ولم يعرف ضباط الفرع الكنز الذي صار بين أيديهم إلا بالتدريج مع تراكم المعلومات التي صار يقدّمها، والتي فتحت له الباب إلى إدارة الجهاز في دمشق وتوسعت علاقاته فيه، مستخدماً ما يملك من ذكاء لافت وثقافة نسبية وبراعة في الحديث. حتى اقترح على قيادته فكرة سفره إلى الأردن ومتابعة العمل من هناك بعد ازدياد أعداد الهاربين إلى خارج البلاد، ثم استدراجهم للعودة.
ورغم كل مهاراته الشخصية، وامتلاكه ناصية الخطاب الديني، لم تكن مهمته سهلة بالاستناد إلى عدد من شككوا فيه ونصحوا بعدم الثقة به. لكن دندش كان مستعداً إلى أن يمضي بعيداً في الخداع، فقضى في أجواء الطليعة قرابة سنتين، وكسب ثقة عدنان عقلة الذي زوّجه ابنة خالة زوجته، شقيقة أحد «شهداء» التنظيم من آل قاطرجي. وبالنظر إلى قيادة عقلة الفردية، وإلى تطلعه إلى العودة إلى داخل سوريا بأي وسيلة، مدفوعاً بتأنيب الضمير؛ فقد استطاع دندش أداء المهمة التي رسمها لنفسه بشكل كامل.
بعد أن انكشفت الخدعة وتوقف دخول المجموعات، عام 1983، كان دندش يعرف أن حياته قد تغيّرت إلى الأبد. وأن عليه، منذ الآن، أن يعيش في الظل. انتقل للسكن في دمشق، قريباً من «فرع المنطقة» الذي ارتبط به وحوى ضحاياه حتى إعدامهم، ومن المسؤولين الذين توسعت علاقاته بهم. طلّق زوجته «الجهادية» بفظاظة بعدما انتفت الحاجة إليها، وتزوج بإحدى بنات العم من فرع من العائلة يقيم أصلاً في العاصمة. وسكن في إحدى بلدات ريفها محاولاً أن يثير أقل قدر من الانتباه في البداية. يتحرك ليلاً في العادة ويغيب لوقت طويل دون أن يعلم أحد السبب. يجني الكثير من المال من أشغال غامضة وينفقه دون حساب.
ورغم أنه حرص على عدم بناء علاقات في الجوار إلا أن القلائل الذين عرفوه وقتها يقدّمون صورة عن رجل طويل أنيق، لطيف المعشر، مدخن شره، مدمن على شرب القهوة، مغرم بقراءة كتب الجاسوسية وخاصة «رأفت الهجان» الذي كان بطله المفضّل. وللغرابة فإنهم يتحدثون عن شخص متدين حافظ للقرآن مواظب على الصلاة، دون أن يشعر بتناقض بين ذلك وبين ما فعله والجهاز الذي يتبعه. ولا بين الالتزام بأداء الشعائر وبين المظهر العلماني لحياته العامة.
ستهترئ هذه الصورة ببطء. فمع مرور السنوات سيتقاعد كبار الضباط الذين عايشوا الخدمة الجليلة التي قدمها، وسيعدّه من جاء بعدهم جزءاً من الماضي. وبالتدريج سيخف حذره دون أن يتلاشى، وسيضطر إلى التعرّف إلى كثير من «الزبائن» الذين يطلبون منه التوسط لأداء خدمات مختلفة، كالسؤال عن موقوف أو الحصول على موافقة أو حل إشكال أمني أو نقل عسكري يؤدي الخدمة الإلزامية، مما لم يعد قادراً على تنفيذه دائماً رغم الأموال التي كان يتقاضى جزءاً منها سلفاً وسببت له بعض الإشكالات المحرجة. وهكذا صار بديناً وأصلع ومتقاعداً، وفتح دكاناً متواضعاً لبيع المواد الغذائية.
أثار غضب جهاز الأمن العسكري فاعتقله عام 2013. وبحسب ما يؤكد أحد الناجين فإن دندش مات في الزنازين التي أعدّها لغيره ذات يوم
حين قامت الثورة حدثت أشياء غريبة. رأى دندش أن النظام سيسير في المعركة حتى النهاية وأنها ستؤدي إلى «خراب البلد». شهد انقسام عائلته الكبرى في الموقف منها واعتقال ابن أخيه، الصيدلاني الذي انقطعت أخباره منذ 2011. ويقول مطّلعون إنه سافر لمدة شهر إلى تركيا في «مهمة» ما، وسافر إلى لبنان. لا أحد يعرف ماذا كان ينوي أن يفعل هنا وهناك وعلى أي حبال كان ينسج عندئذ. لكنه أثار غضب جهاز الأمن العسكري فاعتقله عام 2013. وبحسب ما يؤكد أحد الناجين فإن دندش مات في الزنازين التي أعدّها لغيره ذات يوم، تحت التعذيب أو نتيجة ظروف الاحتجاز السيئة أو حتى بالإعدام!