في بلادنا العربية ما تزال حروف الكاتب تحت الرقابة الصارمة، بل هي تحت رقابات عديدة لا رقابة واحدة. هناك مثلاً رقابةُ الكتب في وزارات الثقافة ومتطلباتها، وهناك الرقابة الاجتماعية التي تريد من الأديب أن لا يخرجَ عن لياقاتها، ثم الرقابة السياسية، ثم الأخلاقية التي تأتي من المقدَّسات أو الأعراف أو غيرها، وحديثاً صار للمزاج الفيسبوكي رقابته، فكاتبوه، وجمهوره، وحتى مؤسسو هذا الموقع أو ذاك عندهم خطوط حمر لا يجوز الاقترابُ منها رغم انفلاتاتهم الكثيرة واللامعقولة أحياناً.
ماذا يفعل الكاتب أمام كل هذه الرقابات؟ وهل عليه أن يحني ظهرَهُ تحت جميع هذه السقوف؟ بعضُ الكتَّاب يراعي ما هو مطلوب قليلاً، وبعضهم يتمرد بصورة جزئية أو مطلقة، ومن الموضوعات التي يثار حولها الجدل الغزل وحدوده، وما الذي يجوز وصفُه من المرأة وما الذي يجب تجاوزه؟ فوصفُ محاسن النساء من أقدم الموضوعات وأكثرها انتشاراً عند العرب ولدى الأمم الأخرى.
كلُّ الشعراء والأدباء الذين كتبوا لإرضاء أهل الرقابة أو الأيديولوجيا جاء أدبهم بلا حياة فاقداً للقدرة على التأثير والتحليق
أقول منذ البداية: لجمالهن سطوة، ونشوة، وسلطانٌ مزلزل، وإذا كنا نرفض دكتاتورية السياسة، فهل نستطيع أن نرفض ديكتاتورية الجَمال؟ أنا مثلاً مواطنٌ صالح في دولة الجَمال المستبدة. يمكن أن يضحك مَنْ شاء، ولمن يختلف معي أذكر ما يأتي:
- مَنْ لم يزلزله الجَمال ليس مُرهَفاً، وليس صاحبَ ذوق، ولو ظنَّ ذلك في نفسه. قال أحمد شوقي:
ويُسأَل في الحوادث ذو صوابٍ فهل ترك الجَمالُ له صوابا؟
- التأثر بالجمال واختلاجُ القلب أمامه هو نعمةٌ نفسية، لأنه تخلُّصٌ من بلادة الحواس، وانتقالٌ إلى اشتعال الروح، والتهابِ الكيان، وكم نشعر أمامَ سيدةٍ ذاتِ حُسن أنَّ جميع فعالياتنا الوجدانية أضاءت باللون الأخضر، وقبلها كنا نياماً أو خاملين أو موتى.
- أنطلق في كلامي من موقع الشاعر أولاً، وهو كائن يُرحِّب بفتح نوافذه على أرضٍ جديدة، وإشراقاتٍ مختلفة، ويفرح بالهزات الأرضية، والزلازل العاطفية، لأنها تضع له بجانب فنجان قهوته قصيدةً طازجة، وحالةً مبهرة ينعم في ظلها.
- حين يأتي الشاعر ليعبِّر عن انبهاره بالجمال، وما يَنتُجُ عنه من آثار تتراوح بين الإعجاب والحب يشعر بعجز اللغة. إنها تبدو لروحه مجموعةً من قوالبَ فخارية، فإذا به يحطِّمها، ويعجنها بصلصال مشاعره ليُنتِجَ منها لغةً أخرى، هي لغته الخاصة.
- لغة الشِّعر العظيم "كلغة المتصوفة ليست كلاماً، وإنما اتجاهٌ نحو الكلام"(1)، أي أنها إشاراتٌ ورموز حين تلامس روحَ القارئ تفتح أجنحتَها في صدره.
- كلامُ الشاعر الجديدُ المُحلِّقُ بعيداً عن القيود يُعرِّضه لصداماتٍ كثيرة، واعتراضاتٍ، وصيحاتٍ، وشتائمَ أحياناً - وهنا لبُّ موضوعنا- يأتي أكثرُها من الحُرَّاس أو الرقباء الذين أشرتُ إليهم في أول المقالة، ولهؤلاء أو لأكثرهم صناديقُ خشبية يضعون في داخلها ما يعتبرونه مقدَّساً ونهائياً من الفضائل أو الخطوط الحمر.
- إذا أراد الشاعر أن يُرضي هؤلاء كان كمن يحاول وضعَ النسر في قفص، أو سَجنَ الغيمة في مطبخ منزله أو تعليقَ الشمس في لوَّاحة مفاتيحه!
صراحةً.. كلُّ الشعراء والأدباء الذين كتبوا لإرضاء أهل الرقابة أو الأيديولوجيا جاء أدبهم بلا حياة فاقداً للقدرة على التأثير والتحليق.
هل يعني ما سبق أنَّ الشِّعر ضد الأخلاق؟ لا طبعاً. إنَّ الشِّعر ومعه الآدابُ كلُّها، والفنونُ أيضاً تعصر الأخلاقَ والقيم، وتتعامل مع روحها، ولا تجعل منها سدوداً في طريقها أو شرطياً يصيح بها: افعل، ولا تفعل.
الفنُّ عامةً والشِّعر على رأسه أخلاقيٌّ بمعنى أنه يحقق للبشر شرطَهم الإنسانيَّ الجميل، فهو يوصلهم إلى حرية التعبير، وحريةِ الإبداع، وحريةِ الإشراق، وحريةِ المحبة، وهو يُخلِّصهم من الزيف، والنفاق لما هم ليسوا مقتنعين به.
وأضيف: لا يوجد فن حقيقي أو شِعر عظيم تجاوزي من دون شَطح. الشَّطح هو الذي يعطي للفن بهاءَهُ وسطوتَه علينا. قال المنخّل اليشكري:
وأحبُّها وتحبني ويحبُّ ناقتَها بعيري
وقال الشاعر نزار قباني:
زيديني موتاً/ علَّ الموتَ إذا يقتلني يُحييني
وجهُكِ خارطتي/ ما عادت خارطةُ العالَم تعنيني
وقال أحد شعراء النقائض في خصمه:
ولو لم تكن في صُلب آدمَ نطفةً لخرَّ له إبليسُ أولَ ساجدِ
أما أنا فأقول:
"أَخرجُ من عينيكِ لأعود إليهما بلهفة طفل يعود إلى لعبته الباهرة. أنا عالقٌ في شبكة سِحرهما كفراشة تستعذب موتَها أمام المصباح، تستعذب ولادتَها من جديد. كم قرناً أحتاج لفهم تركيبة سحرهما الذي طوَّحَ بي؟ كم شهادةَ دكتوراه تلزمني لأحلل سرعةَ نفاذهما في القلب، تلك التي تتفوَّقُ على سرعة الضوء؟".
الخلاصة، إن الجَمال طاغية محبوب، والشِّعر وسائر الآداب والفنون ليست معاديةً للأخلاق، لكنها تتعامل مع كُلِّياتها.. مع ينابيعها البعيدة، وتترك أشكالها المحدودة الضيقة التي تشكَّلتْ حسب الوضعيات البيئية.
والأديب إذا أعلن اختلافَهُ مع الرقيب أو حارس القيم، كما قد يسمي نفسه، فهو لا يبغي نسفَ وجوده، إنما يريده أن يُخرجَ قِيَمَهُ من صناديقها، ويضعَها تحت شمسِ العصر لتنمو، وتستنشقَ النسيم، وتتجدد كأيّ عشبةٍ أو شجرة.