منذ انتقلت إقامتي من الكويت البلد التي تهتم بكل أشكال الأناقة وآخر صيحات الموضة، وسكنت مدينة تركية بعيدة عن إسطنبول، وعيني تلتقط الاختلافات الثقافية بيننا كشعوب، فلا تقتصر على أصناف الطعام أو الأزياء أو حتى الرقصات الشعبية فحسب، بل أيضاً في أسلوب المكياج عند النساء.
السيدات العربيات اعتدن أن تكون الخطوة السابقة لتخطي عتبة باب البيت هي وضع المساحيق والكريمات، فنكاد –أنا وغيري- لا نستغني عن مسحة ألوان تتفاوت بين بسيطة تقتصر على الكحل والماسكرا، أو كثيفة تُفرّغ علب المكياج من محتوياتها، أما التركيات بملابسهن العملية، وشعورهن المرفوعة كيفما اتفق، فتبدون لي أكثر ميلاً إلى اللامبالاة.
لستُ بصدد البحث عن مبررات هذا الاختلاف التي ربما تحتاج لدراسة بنية المجتمعات وتتبع تباين الأنماط المعيشية، ولكنني أتساءل ما سبب ولاء النساء عموماً لمساحيق التجميل؟
فن التجميل تاريخياً
اهتمت الحضارات الإنسانية القديمة بفن التجميل، ولم يكن وقتها يقتصر على النساء فالفراعنة من الجنسين لجؤوا إلى الزيوت والكحل وصبغة الحنة ووصفات تبيض البشرة. ويعود استخدام مستحضرات الزينة المصنوعة من مسحوق بعض الأحجار الكريمة إلى الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين. كما اهتمت الحضارة اليونانية بتركيب العطور والمساحيق المستخلصة من الرصاص الأبيض، وظهرت في الحضارة الرومانية مستحضرات اعتمدت في تركيبها على الخضروات والنباتات الطبيعية لنضارة الوجه.
الطبقة الأرستقراطية في البلاط الملكي الفرنسي كانوا يطلون وجوههم باللون الأبيض، ويستخدمون الشعر المستعار، ويلبسون الأحذية ذات الكعب العالي
استمر الاهتمام المشترك بالتجميل بين الرجال والنساء لما تلاها من العصور اللاحقة، فالطبقة الأرستقراطية في البلاط الملكي الفرنسي كانوا يطلون وجوههم باللون الأبيض، ويستخدمون الشعر المستعار، ويلبسون الأحذية ذات الكعب العالي، مع الوقت تخلى الرجال عن عادة استخدام المكياج، فيما تمسكت النساء بمتابعة ماراثون الجمال والعناية بمظهرهن.
نسخ متشابهة
اعتبر البعض هذه الظاهرة دليل أنوثة وجمال وثقة بالنفس، فيما هاجمها آخرون باعتبارها علامة على السطحية والتزييف ووسيلة للغواية ولفت الانتباه
المعايير الجمالية التي يصدرها لنا عالم الفن والأزياء والسينما، جعلت استخدام المكياج جزءاً من شخصية المرأة في الشرق والغرب على حد سواء، إذ أظهرت نتائج إحدى الدراسات البريطانية "أن النساء يقضين يومياً ما يقارب 29 دقيقة أمام المرآة ليبدون أكثر جاذبية"، وبحسب تقرير نشرته مجلة سيكولوجي توداي "تخضع النساء لعمليات التجميل بنسبة 90% من عددها الإجمالي" ولا أعرف إن شملت الدراسة عمليات زرع الشعر للرجال.!
اعتبر البعض هذه الظاهرة دليل أنوثة وجمال وثقة بالنفس، فيما هاجمها آخرون باعتبارها علامة على السطحية والتزييف ووسيلة للغواية ولفت الانتباه.
لكن.. سواء كان المكياج أمراً شخصياً يتعلق بالموضة، أو إرثاً مجتمعياً يضغط على المرأة لتبالغ في إظهار أنوثتها كما عبرت الكاتبة سيمون دي بوفوار، فإن سلوك المرأة -ضمن مستويات مختلفة- ما زال محاصراً بتحسين مظهرها والسعي نحو التألق، فهي تتابع آخر ما توصل له فن التجميل، الذي ما عاد يقتصر على كحل يؤطر العينين والحاجبين، واستعمال مشدات تخنق الأمعاء والمعدة، وتحمّل وخز إبر البوتكس والفيلر بل تعداها إلى تدخل المشرط الجراحي لتغيير شكل الحنك، ورفع عظم الخد، وشد الجلد، وكل ما يلحق ذلك من شفط ونحت وإعادة بناء أنتجت نسخاً متشابهة من الوجوه.
هذا الإرث الذي قد يكون ترفاً وقد لا يكون، تحول إلى هوس مكلف، ومثار جدل وانتقاد لكيفية تعاطي النساء مع حقيقتهن غير المزورة، إلا أن الشركات المصنعة لمساحيق الزينة، وعيادات الجراحة التجميلية مازالت تقدم إعلاناتها المغرية، وتحقق أرباحاً طائلة في سوق الاقتصاد العالمي.