icon
التغطية الحية

البحث عن طبيب نفسي.. أزمة توقف علاج المرضى في سوريا

2024.08.10 | 06:50 دمشق

مشفى
مشفى ابن رشد للأمراض النفسية في دمشق ـ (فيس بوك)
تلفزيون سوريا ـ سامي جمعة
+A
حجم الخط
-A

منذ أيام، يبحث صالح الجنيدي، عن طبيب لتجديد وصفة طبية للحصول على دواء يكمل به رحلة علاجه النفسي للتعافي من اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) الذي ألمّ به وشُخص له قبل سنوات.

صالح، 45 عاما، كان يعمل في ورشة "موبيليا" في سقبا بريف دمشق حتى عام 2012 حيث تم اعتقاله من قبل المخابرات الجوية على حاجز حرستا ليخرج بعد أن دفع أقاربه ما يقارب 5 ملايين ليرة (قرابة 8 آلاف دولار حينها) ومن ساعة خروجه نصحه طبيب من أقاربه بمراجعة طبيب نفسي لتفادي مضاعفات ما تعرض له من أذى نفسي عميق إضافة للتعذيب وكسر القدم اليسرى نتيجة ضربه المبرح في فرع المخابرات الجوية.

الانقطاع عن العلاج النفسي والدواء

هاجر الطبيب النفسي الذي كان يتابع حالة صالح النفسية، وأغلق عيادته الواقعة في منطقة الجسر الأبيض وسط دمشق، وبات على صالح وعشرات المرضى البحث عن بديل، فأدوية العلاج النفسي بحاجة لوصفة طبيبة لأنها تتسبب بشكل أو آخر بحالات إدمان إذا تم الاعتماد عليها بشكل عشوائي ودون رقابة طبّية.

الصيدلاني غيث -اسم وهمي-  تجاوب مع حالة صالح الإنسانية وقَبِل أن يصرف له الدواء دون وصفة طبية على أن تكون آخر مرة يتجاوز بها القانون، يقول غيث لموقع تلفزيون سوريا: "أدرك تماما صعوبة الوصول إلى طبيب نفسي في سوريا، وبنفس الوقت فإن انقطاع المرضى عن متابعة العلاج يؤدي بهم إلى نكوصهم والعودة بهم إلى المراحل الأولى من العلاج، والنكوص Regression هو الارتداد او التقهقر في النشاط النفسي إلى مرحلة سابقة".

ويلفت غيث إلى خطورة الموضوع من مخاوف أن الوصول إلى الأدوية النفسية دون وصفة تحول إلى "تجارة" من ضعاف النفوس من الصيادلة وهو ما ينطوي على مخاطر كبيرة تنتهي بالمرضى إلى الإدمان الذي يدفعم لإدمان المخدرات لسهولة الوصول لها ورخص سعرها مقارنة بالأدوية المباعة دون وصفات طبية، وما تشهده البلاد من حالات انتحار ما هو إلا مضاعفات إهمال الجانب النفسي للآثار الجانبية لسنوات الحرب.

وصمة العلاج النفسي في المجتمع السوري

من جانبه يؤكد المعالج النفسي بشر الراشد أنه لا يزال الطب النفسي في سوريا يعتبر رفاهية من جهة وعاراً في المجتمع من جهة أخرى، وهذا تقصير واضح من الجهات الطبية من حيث يجب تكثيف الندوات والفعاليات الطبية والتعريفية لشرح أخطار المرض النفسي على الإنسان وحياته وإنتاجه وسلوكه وطباعه ويومياته وآلامه، وتنقله بحسب مرضه من منتهى جنون الثقة بالنفس إلى أقصى درجات احتقار الذات والبكاء القهري سرّاً أو جهاراً.

هل يمكن للمعالج النفسي أن يسد نقص الأطباء النفسيين؟

غالبًا ما يستخدم الناس مصطلحي (طبيب نفسي) و(اختصاصي علم النفس) بالتبادل، وهو خطأ شائع.

يقول بشر إن مجالات الطب النفسي وعلم النفس متشابكة. يعمل كلٌّ من الطبيب النفسي واختصاصي علم النفس في مجال الصحة النفسية، لكن هاتين المهنتين ليستا متماثلتين، وثمة اختلافات واضحة.

الفرق الرئيسي بينهما -بحسب بشر- هو أن الطبيب النفسي قد تدرب كطبيب ويمكنه وصف الأدوية بينما اختصاصي علم النفس ليس طبيبًا ولا يمكنه وصف الأدوية.

ويلفت بشر بأن الحالات المزمنة لا يمكن للمعالج النفسي أن يتعامل معها لأنها بحاجة لأدوية وليس فقط لجلسات الدعم النفسي والعلاج السلوكي، وهو ما يتطلب طبيبا، كما أن الطبيب يقدم العلاج النفسي في حين يقدم المعالج الدعم النفسي، ومعظم الأطباء النفسيين يعالجون المرضى بوصف الأدوية، بينما يعتمد اختصاصي علم النفس على نحو أساسي على توفير العلاج السلوكي، فدور المعالج النفسي في مناطق الحروب يأتي بعد دور الطبيب كمعزز للصحة النفسية ولا يمكنه إطلاقا أن ينوب عن الطبيب أو يحل محله.

الأمراض النفسية وتأثيرات الحرب السورية 

ولفهم تأثير الحرب نفسيا على الناس تحدثنا إلى الطبيب النفسي جلال الدين دياب، والذي قال لموقع تلفزيون سوريا: "تترافق الحرب بجروح نفسية عميقة لا تقل خطورة عن الجروح الجسدية بل أخطر منها لأنها مزمنة وتتطور في حال إهمالها، ولا يمكن التخلص منها بسهولة، حيث يصنف استرجاع أصوات القنابل والصواريخ وصور أشلاء الجثث المتناثرة في مخيلة الكبار والصغار من أقوى الصدمات، التي لها تبعات نفسية قاسية، تنغص عليهم تفاصيل حياتهم اليومية، وتقض مضاجعهم ليلا".

وأضاف الطبيب دياب "لا نبالغ إذا قلنا إن ثلث الأشخاص الذين يعيشون في مناطق الصراعات المسلحة يعانون من الاكتئاب والقلق و"اضطراب ما بعد الصدمة" و"الاضطراب ثنائي القطب" و"انفصام الشخصية"، وأن نحو 20% من سكان البلدان التي تشهد صراعات عنيفة يعانون من اضطرابات صحية عقلية ونفسية شديدة".

اضطراب ما بعد الصدمة

اضطراب ما بعد الصدمة (PTSP) وهو نوع من أنواع الخوف الشديد يؤدي إلى اضطرابات في الشخصية وتؤثر على الاتزان النفسي، وتظهر أعراض الاضطراب النفسي بعد أسابيع أو في غضون 3 أشهر من اندلاع الصراعات، من بينها أعراض فيزيولوجية مثل ألم العضلات والإسهال وعدم انتظام النبض، والصداع واضطرابات في الشهية.

وتترافق الأعراض الفيزيولوجية مع أخرى نفسية تسيطر على المصاب مثل نوبات الفزع والخوف والاكتئاب والقلق والشعور بالذنب، وقد تصل إلى الأفكار والميول الانتحارية.

ولأعراض اضطراب ما بعد الصدمة أربع فئات:

1-تذكّر الحادثة من جديد

وهنا تكون ذكريات الماضي حية لدرجة أن المريض يعيد عيش التجربة الصادمة بمشاعر مشابهة لما حدث كالخوف والأصوات والآلام لاإراديا خلال النهار أو في الكوابيس ليلا.

2 - تفادي مواقف وأماكن معينة

استشعار الحادث من جديد قد يسبب الكثير من الإزعاج، فلذلك يحاول المصاب الابتعاد عن ذلك بالقيام بنشاطات كثيرة أو العمل المجهد مع تجنب الأماكن والأشخاص المرتبطين بالحادث.

3-التيقظ المفرط

يشعر المريض بالتيقظ المفرط وكأنه في خطر دائم، ولا يستطيع الاسترخاء مع صعوبة النوم والقلق. وقد تشمل الأعراض الاستثارة ورد الفعل الانفعالي ونوبات الغضب والتصرف بتهور أو تدمير ذاتي.

4-تقلبات في الإدراك والمزاج

عجز في القدرة على تذكر الجوانب المهمة للصدمة، يسمح للأفكار والمشاعر السلبية بتكوين معتقدات مشوهة عن النفس، حول سبب أو عواقب تلك الأحداث، وذلك يؤدي إلى إلقاء اللوم على النفس أو على الآخرين بشكل خاطئ.

طرق علاج اضطراب ما بعد الصدمة:

العلاج النفسي

أغلب العلاجات النفسية تركز على الحادث الذي سبّب الأعراض، وهي تساعد المريض على فهم ما حدث، وتدعم الدماغ للتعامل مع هذه الذكريات المؤلمة وتخطيها والعيش بصورة طبيعية.

علاج سلوكي إدراكي

يعتبر الطبيب الأميركي جوزيف وولب، أول من وضع القواعد الأولية للعلاج السلوكي خلال الحرب العالمية الثانية، ويساعد هذا العلاج المريض على التفكير بطريقة مختلفة والسيطرة على المشاعر السلبية. وعادة ما يتضمن هذا العلاج بعض تمارين الاسترخاء.

علاج جماعي

يقوم هذا العلاج على جلسات تشمل لقاءات مع مجموعة من الأشخاص الذين مروا بتجارب مشابهة، ليسهل عليهم الحديث عن المآسي التي مروا بها.

علاج دوائي

تثّبط مضادات الاكتئاب من قوة الاضطراب النفسي للتحكم في مشاعر القلق والتوتر والتخلص من الكوابيس والمساعدة على النوم، علما أنه لا يتم إعطاء هذه العقاقير إلا بوصفة طبية.

النظام يفاقم "المشكلات النفسية" في سوريا

يعاني نحو 4 بالمئة من سكان سوريا من أمراض نفسية شديدة، وبنسبة مشابهة على الأقل يعانون من اضطرابات نفسية متوسطة الشدة، و90 بالمئة من الشعب من حالات اضطراب لا تخضع للمراقبة، وفق تقرير مجلة الصليب الأحمر الدولية لعام 2019.

وشهدت مختلف أنحاء سوريا 232  انتحاراً في العام  2023، معظمها في مناطق سيطرة النظام السوري.

وسجلت "الهيئة العامة للطب الشرعي" في سوريا، 146 انتحاراً ضمن مناطق سيطرة النظام منذ بداية العام 2023، وحتى 30 من تشرين الثاني من العام نفسه، بينهم 99 من الذكور، و47 من الإناث.

وفي مناطق سيطرة المعارضة شمال غربي سوريا، أعلن فريق "منسقو استجابة سوريا" ارتفاع عدد حالات الانتحار المسجلة في المنطقة منذ بداية العام 2023 إلى 62 حالة بينها 34 حالة باءت بالفشل (ما يعني أن عدد حالات الانتحار المثبتة 28).

وذكر الفريق أن النساء يشكّلن الفئة الأكبر في أعداد تلك الحالات لعدم وجود من يساعدهن على تخطي الصعوبات التي يعانين منها، إضافة إلى اليافعين غير القادرين على التعامل مع المصاعب والضغوط المختلفة التي تواجههم.

يحاول النظام السوري أن يقطع أي مبادرة من شأنها أن تخفف آلام ومواجع الشعب السوري ولا سيما إن كانت هذه المبادرات من أبناء البلد، ومثال على ذلك الدكتور مجد كم ألماز طبيب نفسي أميركي سوري جاء من الولايات المتحدة إلى لبنان لمساعدة اللاجئين السوريين على التعامل مع الصدمات بسبب ما عانوه بعد خروجهم من المعتقلات، وفي منتصف فبراير/شباط من عام 2017 ذهب الطبيب لزيارة أحد أقاربه المصابين بالسرطان في سوريا، وبعد دخوله الأراضي السورية انقطعت أخباره عن عائلته، لتظهر بعدها تقارير استخباراتية عن اعتقاله من قبل نظام الأسد.

وفي أيار 2024 أعلنت "مريم كم ألماز" مقتل والدها الطبيب الأميركي من أصول سورية "مجد كم ألماز" على يد النظام السوري بعد اعتقاله في سجون الأسد منذ 2017 "بقلب مكسور حزين نعلن وفاة والدي في أسوأ سجون العالم في سوريا".

وقالت "كم ألماز" في تدوينة عبر حسابها على منصة إكس "لقد قتلوه وتجب محاسبتهم، اختطفت الحكومة السورية والدي وأخفته وقتلته في سجونها سيئة السمعة دون حتى اتهامه بجريمة أو محاكمة، يجب أن تتحقق العدالة، كان والدي رجل سلام ومحبة ومعالجا نفسيا حائزا على جوائز".