مضى ستة وسبعون عاماً على جلاء القوات الفرنسية عن سوريا، وحصولها على استقلالها في ١٧ من نيسان ١٩٤٦ بعد ربع قرن من مقاومة المستعمر، حيث استطاع السوريون عبر نضالهم ووحدتهم التوصل إلى غايتهم في نيل الاستقلال.
السوريون منذ ما قبل الاحتلال سعوا إلى صياغة أول دستور لدولتهم في العام ١٩٢٠، وحتى وهم تحت الاحتلال كانوا يسعون إلى صياغة دستور يُعبّر عنهم ويصون كرامتهم ويضمن حقوقهم، فمع انطلاقة الثورة السورية الكبرى في العام ١٩٢٥ طالبوا بوحدة دولتهم وانتخاب جمعية تأسيسية تضع دستوراً للبلاد "يعتمد مبدأ سيادة الأمة"، وعلى الرغم من تمكن فرنسا من قمع الثورة عام ١٩٢٧، إلا أن الرئيس تاج الدين الحسني في العام ١٩٢٨، تمكن من تنظيم انتخابات جمعية تأسيسية لكتابة الدستور، حيث انتخبت جمعية تأسيسية مؤلفة من ٦٧ عضواً، انتُخب هاشم الأتاسي رئيساً لها، ومن ثم انتخبت بدورها لجنة الدستور برئاسة إبراهيم هنانو من ٢٧ عضواً، وألقت اللجنة مهمة إعداد مسودة الدستور على عاتق فوزي الغزي الذي كان مقرراً لها.
على الرغم من كون سبب معاناة الشعب السوري حينذاك كان الاستعمار وهدفهم الأساسي هو كسب معركة الاستقلال، ولم تكن صياغة دستور وإقراره كافية لتحقيق استقلال دولتهم، وبالتأكيد لم تكن كافية وحدها للضغط على المجتمع الدولي لدعم مطالبهم، إلا أن النخبة السياسية في سوريا ارتأت حينذاك في مشروع الدستور كساحة معركة سياسية أساسية يمكن خوضها بإمكانياتها المتوفرة لديها وفق الظروف العالمية والإقليمية، مع استمرار نضال الثوار في مقاومتهم للمستعمر ودعم السياسيين الكامل لهم، إلى أن تتحقق الإمكانيات والظروف المناسبة لتحقيق الاستقلال بالوسائل الأخرى.
تم تنظيم انتخابات نيابية ورئاسية، وفق الدستور الجديد الذي اعتمد اسماً رسمياً جديداً وعلماً جديداً، وبإتمام الانتخابات تأسست الجمهورية السورية الأولى، لتكون ثاني دولة عربية تتبنى النظام الجمهوري، وثالث دولة في الشرق الأوسط بعد تركيا ولبنان.
كانت ذكرى أربعين وفاة المناضل الكبير إبراهيم هنانو في تشرين الثاني ١٩٣٥، التي احتفلت بها الكتلة الوطنية في مدرج الجامعة السورية شرارة الإضراب الستيني لعام ١٩٣٦، الذي نتج عنه خضوع فرنسا لطلب تشكيل حكومة محايدة للإشراف على انتخابات جديدة، وسافر وفد سوري إلى باريس للتفاوض على معاهدة لاستقلال سوريا، وترأس الوفد الذي مكث في باريس لفترة ستة أشهر هاشم الأتاسي، حيث تم التوصل إلى مشروع المعاهدة السورية - الفرنسية ١٩٣٦، وبعد عودة الوفد جرت الانتخابات النيابية التي فازت فيها الكتلة الوطنية بأغلبية ساحقة، وقامت بتوحيد البلاد السورية بكامل أراضيها في دولة واحدة وحكومة واحدة، رغم أن النظام الأساسي كان فيدرالياً، إلا أن نواب المحافظات الفدرالية وبإرادتهم الحرة أعلنوا إلغاء الفيدرالية واعتماد دولة مركزية لتحقيق "المساواة" مع سائر المحافظات السورية.
أقرّ المجلس النيابي المعاهدة السورية الفرنسية لعام ١٩٣٦، التي نصّت على استقلال البلاد، إلا أن حكومة فرنسا ماطلت في إقرارها لعدة سنوات، ثم حالت الحرب العالمية الثانية في اعتمادها. في العام ١٩٣٩ تسببت تلك المماطلة إضافة إلى تعديل قانون الأحوال المدنية باندلاع احتجاجات شعبية واسعة، حيث قام المفوّض السامي الفرنسي بتعطيل العمل بالدستور في ٨ تموز ١٩٣٩، وحل المجلس النيابي وشكّل حكومة مديرين وانتشرت وحدات الجيش الفرنسي في شوارع دمشق. في أثناء الحرب العالمية الثانية وسقوط فرنسا بيد النازيين وتعيينهم لحكومة فيشي الموالية لهم، باتت سوريا تحت احتلال فرنسا تخضع لتلك الحكومة، ففُرض حصار اقتصادي عليها من الحلفاء مما أدى إلى أزمة ونتائج وخيمة، حيث ارتفعت أسعار الخبز أربعة أضعاف ما كان عليه عند بدء الحرب.
في العام ١٩٤١ دخلت قوات فرنسا الحرة معززة بوحدات من الجيش البريطاني إلى سوريا بعد معركة دمشق أواخر حزيران. واختير الرئيس تاج الدين الحسني رئيساً للجمهورية وفق دستور ١٩٣٠ الذي أُعيد العمل به، وتم إعلان استقلال سوريا بتاريخ ٢٨ أيلول ١٩٤١، على أن تجري انتخابات نيابية في أقرب فرصة تسنح بها الظروف الدولية.
توفى الرئيس الحسني وهو في منصبه، فشكّل المندوب السامي الفرنسي حكومة مؤقته، في مخالفة واضحة للدستور، لكنها تمّت بالتوافق مع الطبقة السياسية واُنيطت بتلك الحكومة التي ترأسها عطا الأيوبي مهمة الإشراف على الانتخابات النيابية.
في العام ١٩٤٣ جرت الانتخابات التي فازت فيها الكتلة الوطنية بشكل ساحق، وبالتالي بات المجلس النيابي ذو أغلبية منها، فانتخب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية.
مع هدوء حدة الحرب العالمية الثانية في الشرق، بدأت فرنسا بتنفيذ بعض تعهداتها، حيث تم نقل إدارة الخدمات والمصالح المدنية، ومواقع حيوية مهمة كالبريد والبرق وسكك الحديد من فرنسا إلى سوريا وانسحب الجيش الفرنسي إلى ثكناته، واستمر الأمر كذلك حتى شهر أيار ١٩٤٥، حيث حدثت مشادات ومشاجرات بين شباب سوريين وجنود فرنسيين كانوا يحتفلون بالفوز بالحرب في شوارع دمشق، كما قام بعضهم بسلب بعض المنازل مما أدى إلى تفجّر انتفاضة الاستقلال، فقام الفرنسيون بقصف دمشق واقتحام البرلمان وقتل حاميته على يد جنودهم، مما أدى إلى وساطة بريطانية وتدخّل مجلس الأمن الدولي، الذي أقر انتهاء الانتداب وجلاء القوات الفرنسية، تحت الضغوط الشعبية والدولية لا سيما البريطانية، وأكملت فرنسا انسحابها فعلياً في ١٧ نيسان ١٩٤٦، وفي العام ١٩٤٧ أجريت انتخابات نيابية كأول انتخابات بعد الجلاء وتوافقت الكتل السياسية على تعديل الدستور بما يسمح بانتخاب شكري القوتلي لولاية ثانية في ١٨ من نيسان ١٩٤٨.
فور انسحاب آخر جندي فرنسي تابع الشعب السوري مساعيه بكل السبل لبناء دولته السيدة المستقلة الحرة، وحلموا أن تتجسد تضحياتهم بدولة يتساوى فيها الجميع، وإعادة صياغة دستورهم لدولتهم المستقلة بما يحقق العدالة والمساواة ودولة القانون، ويضمن حقوقهم ويكفل حرياتهم ويحدد واجباتهم فيها، دولة تحفظ لهم كرامتهم وتضمن استقلال القضاء ونزاهته، وتفصل بين السلطات، وتوفّر التنمية اللازمة لضمان العيش الكريم لكل أفراد الشعب دون تمييز من أي نوع، إلا أنه وبكل أسف بدأت حقبة الانقلابات العسكرية.
في ٣٠ آذار ١٩٤٩ وقع الانقلاب العسكري الأول في سوريا بقيادة حسني الزعيم، الذي قام بتاريخ ٧ من نيسان من العام نفسه بتشكيل لجنة من سبعة أعضاء لوضع مشروع للدستور أنجزت اللجنة مشروعاً بتاريخ ٢٧ حزيران ١٩٤٩، لكن انتهى حكم الزعيم بتاريخ ١٤ آب ١٩٤٩ عقب الانقلاب العسكري الثاني الذي قاده سامي الحناوي قبل انقضاء مهلة الأربعة أشهر التي مُنحت للزعيم لإصدار دستور بموجب استفتاء انتخابه.
قام الحناوي بإعطاء الحكم لحكومة مدنية وضعت قانون انتخابات عامة، حيث جرى انتخاب الجمعية التأسيسية الثانية في ١٥ تشرين الثاني ١٩٤٩، أصدرت أحكاماً دستورية مؤقتة، وانتخبت هاشم الأتاسي رئيساً للدولة في ١٤ كانون الأول ١٩٤٩، يتمتع بصلاحيات رئيس الجمهورية وفق دستور ١٩٣٠ لحين وضع الدستور الجديد، ولكن في ١٩ كانون الأول ١٩٤٩، أي بعد خمسة أيام من انتخاب الرئيس هاشم الأتاسي، وقع الانقلاب الثالث الذي قاده أديب الشيشكلي (انقلاب الشيشكلي الأول)، واستمرت الجمعية التأسيسية في العمل على مشروع الدستور، وكُلِف خالد العظم برئاسة حكومة جديدة في عهد الشيشكلي، وقامت لجنة إعداد الدستور بالاطلاع على خمسة عشر دستوراً أوروبياً وآسيوياً للوصول إلى "أرقى المعايير الممكنة" كما صرّح بذلك رئيس اللجنة د. ناظم القدسي.
انتهت لجنة إعداد الدستور في عهد الشيشكلي من عملها في ١٥ نيسان ١٩٥٠، وكانت المسودة تتألف من ١٧٧ مادة، وخلال المناقشات طويت ١١ مادة، وخرج مشروع الدستور بصيغته النهائية مؤلفاً من ١٦٦ مادة، ليتم إقراره في ٥ أيلول ١٩٥٠، وطُبِّق هذا الدستور في ثلاثة فترات، امتدت إحداها من تاريخ إقراره حتى ٢٩ تشرين الثاني ١٩٥١، تاريخ انقلاب الشيشكلي الثاني، والفترة الثانية امتدت من تنحي نظام الشيشكلي في ٢٥ شباط ١٩٥٤ حتى قيام الجمهورية العربية المتحدة في ٢٢ شباط ١٩٥٨، والثالثة من تاريخ الانفصال في ٢٨ أيلول ١٩٦١ حتى ٨ آذار ١٩٦٣.
في ٢ كانون الأول ١٩٥١ تولى أديب الشيشكلي مهام رئاسة الدولة بعد انقلابه العسكري الثاني والرابع بتاريخ سوريا، وفي ٣ من كانون الأول ١٩٥١ قرر المجلس الأعلى للقوات المسلحة حل مجلس النواب والمحكمة الدستورية العليا والأحزاب السياسية كافة، وأعلن حالة الطوارئ وتعيين فوزي السلو رئيساً مؤقتاً متمتعاً بالصلاحيات التشريعية والتنفيذية المطلقة، وقام الشيشكلي بوضع مشروع دستور باسم المجلس العسكري الأعلى، حوّل فيه الدولة إلى نظام جمهوري رئاسي، أُلغي فيه منصب رئيس الوزراء، وبات رئيس الجمهورية يُنتخب مباشرة من قِبل الشعب. ووجه كتاباً بتاريخ ١٦ حزيران ١٩٥٣ إلى فوزي سلو الذي كان يُمارس سلطات واختصاصات رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع الوطني يُكلّفه ومجلس الوزراء باستفتاء الشعب بمشروع الدستور المقدم، إلا أنه نتيجة لدعوة المعارضين له للعصيان المدني، أعلن الشيشكلي حالة الطوارئ وتم الاستفتاء على مشروع الدستور وانتخاب المرشح الوحيد لرئاسة الجمهورية يوم السبت ١١ تموز ١٩٥٣، وبات هذا الدستور يُعرف باسم دستور الشيشكلي ودستور ١٩٥٣.
بعد تنحي الشيشكلي، دخلت البلاد بفوضى دستورية، لكون دستور ١٩٥٣ نصّ على أنه في حال شغور منصب الرئاسة يتولاها رئيس المجلس النيابي، وهو ما فعله مأمون الكزبري حين أعلن نفسه رئيساً مؤقتاً للدولة. رفض قادة الانقلاب وقادة القوى السياسية بمختلف اتجاهاتها، العمل بدستور ١٩٥٣، أو تولي الكزبري الرئاسة مؤقتاً، مما دفعه للاستقالة وحلّ البرلمان واتفق على عودة العمل بدستور ١٩٥٠ وطلب من هاشم الأتاسي إكمال ولايته حتى نهايتها وتشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة صبري العسلي، مهمتها الوحيدة إجراء انتخابات نيابية جديدة، إلا أن خلافات الحكومة ممثلة بوزارة الدفاع فيها مع قادة الجيش دفعت لاستقالتها وتشكيل حكومة جديدة برئاسة سعيد الغزي، ووصفت انتخابات ١٩٥٤ بأنها الانتخابات الأهم في تاريخ سوريا الحديث، وأكثرها نزاهة وإنصافاً من ناحيتي قانون الانتخابات وطريقة الانتخاب، وشكّل الحكومة بنتيجتها فارس الخوري، التي استقالت لاحقاً لتتبعها حكومة العسلي، وفي انتخابات ١٨ من آب ١٩٥٥ الرئاسية فاز القوتلي، وأخيراً طرحت حكومة العسلي مشروع الوحدة الفيدرالية مع مصر في بيانها الحكومي.
في ٥ من آذار ١٩٥٨ أعلن الرئيس جمال عبد الناصر من دمشق الدستور التفصيلي المؤقت لدولة الوحدة الذي كان يتكون من ٧٣ مادة تُفصِّل المبادئ الدستورية التي ستقوم عليها الدولة وفق ما وردت في إعلان ٥ من شباط ١٩٥٨، وقامت على إلغاء التعددية السياسية والاقتصادية، واستمر العمل بهذا الدستور من تاريخ إقراره حتى قيام حركة الانفصال بتاريخ ٢٨ من أيلول ١٩٦١.
في ٢٨ من أيلول ١٩٦١ قام انقلاب عسكري بقيادة عبد الكريم النحلاوي، أدى إلى قيام الانفصال وتكليف حكومة مدنية بوضع دستور مؤقت وافق عليه الشعب السوري بالاستفتاء الذي جرى في ٥ من كانون الأول ١٩٦١، كما تم انتخاب المجلس التأسيسي والنيابي، وكانت مهمته الأولى وضع دستور دائم، حيث قام هذا المجلس بانتخاب د. ناظم القدسي رئيساً للجمهورية وحظي على رئاسة الحكومة خالد العظم وأقر إعادة تطبيق دستور عام ١٩٥٠ مع بعض التعديلات، واستمر العمل به حتى انقلاب ٨ من آذار ١٩٦٣.
أصبحت السلطة بيد "مجلس قيادة الثورة"، وعُلّق العمل بالدستور وفُرضت حالة الطوارئ نظرياً حتى عام ٢٠١١ وعملياً إلى يومنا هذا، عاشت سوريا على دستور مؤقت إلى أن أحكم حافظ الأسد قبضته على جميع مجالات الدولة والجيش والأمن، وحكم بالحديد والنار، فوضع عام ١٩٧٣ دستوراً يُدشّن الحكم الشمولي لحزب البعث، ويُطلق العنان لتغوّل السلطة التنفيذية - رئيس الجمهورية بالتحديد - على الدولة ومقدراتها، ويقمع أي صوت منافس، وينسف الحريات، وتطغى فيه السلطة التنفيذية على كل السلطات الأخرى، وبدأت مرحلة قاتمة من تاريخ سوريا.
استمر العمل بدستور الأسد الأب حتى عام ٢٠١٢، حيث قام بشار الأسد بوضع دستور جديد كمحاولة التفافية لكبح جماح الثورة التي انطلقت عام ٢٠١١، وقد صدر هذا الدستور بينما كانت أجهزة النظام الأمنية تقتل السوريين في الشوارع بالمئات، ورفضته قوى الثورة والمعارضة بأطيافها كافة، منح هذا الدستور رئيس الجمهورية صلاحيات أكبر وأخطر، تنفيذية وتشريعية وقضائية، وفرّغ المحكمة الدستورية من استقلاليتها ومضمونها، وقضى على أي حلم بتداول السلطة والتعددية السياسية الحقيقية.
منذ انطلاق الثورة عام ٢٠١١، تعامل النظام السوري مع الشعب بعنف مفرط، واستخدم أسلحة مُحرّمة دولياً، فقتل مئات الآلاف، ودمّر البنى التحتية، ولم يكن ضرره وأذاه ليختلف عن ضرر وعنف أي مستعمر تقليدي، ما دفع السوريين لمواصلة الثورة والإصرار على حقّهم في دولة القانون والحق والمواطنة، وحفّزهم كل ما سبق إلى البحث عن استقلال جديد.
بعد 76 سنة من الاستقلال السوري وجلاء المُحتل، عادت اليوم سوريا ترزح تحت نير احتلالين، احتلال داخلي بسبب نظام تدميري أسقط السيادة الوطنية، وارتكب القتل والاعتقال بحق الأبرياء المدنيين والتدمير الممنهج للبنى التحتية عوضًا عن الأمن والعدالة التي تُعتبر من أهم شروط قيام الدول المستقلة، واحتلال خارجي طائفي استباح سوريا ودمّرها بحقد وهشّم النسيج الوطني، وحوّل أرض الشام المباركة إلى ساحة حروب ودمار وموت وتجريب للأسلحة، وساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
واقع الأمر يؤكد أن سوريا لم تستقل بعد، فالاستقلال الحقيقي هو عندما تعود السيادة للشعب صاحب السلطات ومصدرها، وطالما بقي الشعب ممنوعاً من أي انتخابات حرة ونزيهة تجري في بيئة آمنة ومحايدة يختار فيها ممثليه لممارسة السلطة نيابة عنه لطالما بقيت سلطة الأمر الواقع غير شرعية ولا تمثله، الاستقلال بمعناه الواسع هو التخلص من أي تبعية أو ضغوط خارجية، وفرض السيادة على كامل الأراضي، وتحرير البلاد من نير الاستعمار، المباشر وغير المباشر، العسكري والسياسي والاقتصادي، والقدرة على تقرير المصير، وعدم الخضوع لإملاءات دول أخرى، وهو القدرة على التحكم بالموارد المادية والبشرية، واستقلال القضاء ومنع الأجهزة الأمنية من التحكم بحياة البشر، وامتلاك جيش وطني قادر على الدفاع عن الوطن لا تدميره، يدافع عن المواطنين ويحميهم لا يقمعهم ويرتكب الجرائم بحقهم، وضمان الحريات السياسية والإعلامية وسيادة القانون والأمن الشامل، ويحفظ كرامة المواطنين.
كل ذلك تفتقده سوريا اليوم، ولا تستطيع السلطة الحاكمة تأمين أو ممارسة أو ضمان أي مما سبق، ولا تستطيع فرض سيادتها الكاملة على أراضيها، كما لا تستطيع ضمان أمن الوطن والمواطنين، ولا تحقيق العدالة لهم، ولا هي قادرة على اتخاذ قراراتها بعيداً عن الضغوط الخارجية، وليس لديها أي استقلال اقتصادي، ولا تتحكم بالموارد البشرية والمادية، وتستقوي بالخارج وتُبيح له انتهاك الحرمات، وترفض تسليم السلطة إلى الشعب التي اغتصبتها منه، ولا تُدرك أن القوة الحقيقة والقابلة للاستدامة لأي سلطة تكمن في كون الشعب مصدرها وهو من يوكل بممارستها وفق العقد بينهما الذي يتمثل بالدستور الذي يستجيب لتطلعاته وينظم العلاقة بينهما، لتكون السلطة في خدمة الشعب لا العكس وتخضع لمساءلته ومحاسبته.
استقلال سوريا يجب أن يدعمه ويُرسّخه وضع دستور حضاري ديمقراطي عادل، دستور يحمي الوطن والمواطن، ويضمن السيادة الكاملة للدولة ووحدة أراضيها، ويُرسّخ الوحدة الوطنية والإخاء، دون أي إقصاء أو تمييز لأي مكون من مكونات الشعب السوري وعلى أي أساس كان، يضمن العدالة والحرية والمساواة وتكافؤ الفرص، ويُحقق التعددية السياسية وتداول السلطة والفصل المتوازن بين السلطات والتنسيق بينها، ويحترم حقوق الإنسان، وما لم يتحقق ذلك، لن يستطيع السوريون الاحتفال باستقلالهم الحقيقي.