هو واحد من أعقد الملفات وأكثرها مأساوية، وصفته الأمم المتحدة بأنه "صدمة وطنية"، وفي الحقيقة هو أكثر من ذلك، إنه "كارثة وطنية" متواصلة ومستمرة، أثّرت على حياة ملايين السوريين، وتركت جرحاً نازفاً في الجسد السوري، جرحٌ مرتبط بحقوق السوريين وكرامتهم، وبالعدالة وحقوق الإنسان، لن يتوقف السوريون عن المطالبة بحسمه إلى الأبد.
لم يتوقف السوريون عن المطالبة بالإفراج عن عشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسرياً خلال الأحد عشر عاماً الأخيرة، والذين تُقدِّرُ عدة مصادر حقوقية وتوثيقية عددهم ب١٥٠ ألفاً على الأقل - وتُقدّرهم عدة منظمات أخرى بضعف هذا العدد - محتجزون في ظروف غير إنسانية، ويتعرضون لأبشع أنواع العزل والتعذيب وحتى القتل، نحو 85 بالمئة منهم مجهول المصير، لا يعرف ذويهم إن كانوا أحياءً أم لا.
مطلع عام 2014 سُرّبت 55 ألف صورة (صور المنشق قيصر) تُوثّق مقتل عدة آلاف من المعتقلين في سجون النظام السوري، تبدو عليهم آثار التعذيب والعنف المفرط بشكل واضح
منذ الأيام الأولى للثورة السورية، انتهج النظام السوري سياسة البطش بالمتظاهرين، ومارس أقسى أنواع حط الكرامة البشرية، من الضرب مروراً بالاعتقال والقتل تحت التعذيب وصولاً إلى القتل العشوائي، ولم يستثن أحداً، رجالاً ونساءً وأطفال، وصار عمله هذا نهجاً، وفي مرحلة لاحقة شاركته أطراف أخرى في بطشه، بوحشية ودون اعتبارات إنسانية ولا حقوقية ولا وطنية.
مطلع عام 2014 سُرّبت 55 ألف صورة (صور المنشق قيصر) تُوثّق مقتل عدة آلاف من المعتقلين في سجون النظام السوري، تبدو عليهم آثار التعذيب والعنف المفرط بشكل واضح، وبين القتلى فتيان تتراوح أعمارهم بين 12 و14 سنة، ونساء وشيوخ يتجاوز عمر بعضهم 70 سنة، ولم تكن هذه الصور التوثيقية الصادمة التي تؤكد تورط النظام بقتل المعتقلين كافية للمجتمع الدولي ليتحرك لوضع حد لهذه الجرائم والانتهاكات الخطيرة، ملف المعتقلين ترتبط به حياة عشرات الآلاف من المغيّبين ومئات الآلاف من أفراد أسرهم الذين يعيشون بقلق وخوف على مصيرهم.
هذه الصور التوثيقية ليست الوحيدة، فهناك من يعمل بجد وإخلاص لتوثيق كل المعتقلين والمختفين والمغيبين قسرياً، وتنشط المنظمات الحقوقية السورية والدولية وقوى الثورة والمعارضة ومراكز متخصصة محلية ودولية لتوثيق المعتقلين لدى كافة الأطراف، وهناك توثيق لدى منظمة العفو الدولي ولدى لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن ارتكاب الجرائم في سوريا، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وغيرها، لكن العملية الكاملة صعبة للغاية، معقدة وشاقة، لأن سوريا هي الأسوأ في العالم على هذا الصعيد، ولأن بعض أهالي المعتقلين يخشون توثيق معتقليهم خوفاً عليهم، فيما يفقد البعض الثقة بجدوى التعاون في عمليات التوثيق، ويُفضّل آخرون الانتظار بصمت على أمل أن يروا نهاية لمأساتهم ويُطلق سراح أحبابهم دون ضجيج.
لم يحدث اختراق ذو معنى في هذا الملف المرير، على الرغم من أن هذا الملف فوق تفاوضي، ويجب ألا ينتظر إنجاز الحل سياسي، بل لا يمكن التوصل إلى هذا الحل وأن يكون قابل للاستدامة دون إطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المغيبين قسريًا، وما دام الجناة والسجانون طلقاء لا يحاسبهم أحد على ما فعلوه بحق عشرات الآلاف من المعتقلين.
يؤرق هذا الملف النظام السوري، لأنّ كشفَ حجمه وأبعاده سيدينه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وسيخضعه للمساءلة والمحاسبة، لهذا رفض التعاطي والتعامل الإيجابي مع هذا الملف، ويحاول الإنكار التام لوجود معتقلين في سجونه وأقبية فروعه الأمنية، أو يحاول ربط اعتقالهم بمحاكم الإرهاب غير الشرعية، لكنّه في نفس الوقت يستغل - بصفاقة - هذا الملف للدخول في صفقات مالية فاسدة لابتزاز أهالي المغيّبين.
تحمل قوى الثورة والمعارضة السورية ملف المعتقلين معها في كل محادثاتها في المحافل الدولية والإقليمية والعربية، كما تقوم المنظمات الحقوقية السورية بواجبها في التوثيق ورفع الدعاوى، ويعمل ناشطون بشكل فردي لتجميع المعلومات، لكن تهّرب النظام من كل الالتزامات والمطالب الدولية والواجبات يحول دون تحقيق تقدّم في إغلاق هذا الملف.
يجب على السوريين بكافة أطيافهم، سياسيين وحقوقيين وإعلاميين، وقوى حرية وسلام، في أوروبا وأميركا والدول العربية وفي كل دول اللجوء والمهجر، بذل كل جهد ممكن لإبقاء الضوء مسلطاً على هذا الملف، وحثّ المجتمع الدولي، وبالأخص الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، والمفوض السامي لحقوق الإنسان، للضغط على النظام السوري وحلفائه من أجل إرغامه على الكشف عن مصير المفقودين، ونشر قوائم كاملة بأسمائهم، وإفراغ سجونه ومعتقلاته من الأبرياء، والمضي بالحل السياسي الذي يستند إلى قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) الذي أكّد أن ملف المعتقلين والمغيّبين قسرياً هو ملف فوق تفاوضي، ومن أساسيات إجراءات بناء الثقة ونصَّ على ضرورة الإفراج عن جميع المعتقلين وخصوصاً النساء والأطفال بشكل فوري.
على المنظمات المحلية والدولية لحقوق الإنسان، أن ترفع دعاوى في أوروبا ضد المجرمين الضالعين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا ومحاسبتهم
كذلك، فإنه يجب على المجتمع الدولي أن يضغط على النظام السوري وحلفائه للقبول بآلية لحصر المفقودين، وآلية لدعم الضحايا، وإيلاء اهتمام للاحتياجات النفسية والاجتماعية للمعتقلين وعائلاتهم، وأن يُسمح للجنة الدولية للصليب الأحمر بالدخول إلى كافة مراكز الاحتجاز والسجون الأمنية لهذه الغاية.
على التوازي، لا يمكن أن ننسى أهمية العدالة والمساءلة والمحاسبة وضرورتها للحالة السورية، باعتبارها مدخلاً للسلم الأهلي، وعلى المنظمات المحلية والدولية لحقوق الإنسان، أن ترفع دعاوى في أوروبا ضد المجرمين الضالعين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا ومحاسبتهم، والتحرك في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، للمطالبة بإنشاء محكمة خاصة لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في سوريا لمحاكمة الجلادين الذين انعدمت الإنسانية في قلوبهم وضمائرهم، وقاموا بتعذيب أو إخفاء أو قتل أبناء الشعب السوري، أو إحالة نتائج التحقيق إلى محكمة الجنايات الدولية، ومن ضمنها مجزرة التضامن، لما تَوَفَّر فيها من أدلة دامغة وموثقة، وهي طبعاً ليست الجريمة الوحيدة، لكن كون توثيقها مُكتمل العناصر.
مهما حاول النظام السوري عرقلة هذا الملف الإنساني والقانوني وتمييعه والتهرب منه، فإنه سيبقى حاضراً بقوة لدى السوريين، ولدى هياكل وقوى الثورة والمعارضة، والمنظمات الأهلية والحقوقية، وفي الاجتماعات الدولية، وسيستمر الجميع في السعي لإنجازه بعيداً عن أي مسار سياسي باعتباره ملفاً إنسانياً وطنياً وحقوقياً فوق تفاوضي، وسيبقى وصمة عار في الضمير العالمي إلى أن يجد حلاً جذرياً عادلاً له، الحل الذي لا بديل عنه إطلاقاً بالنسبة للسوريين.