مع تزايد الأعباء المالية التي يعاني من عدد كبير من السكان في شمال غربي سوريا، تبرز إلى الواجهة معضلة الأسعار في مطاعم ومقاهي المنطقة، والتي يرتادها البعض بين الحين والآخر لأسباب مختلفة، منها الترفيه أو التنزه، أو في الحالات الاضطرارية خاصة في أثناء السفر بين مدينة وأخرى.
ترى شريحة من المجتمع، أن أسعار المأكولات والمشروبات في المطاعم والمقاهي أو الكافيهات تشكّل عبئاً ثقيلاً على كاهل المواطنين في شمال غربي البلاد، فمع انهيار القدرة الشرائية للأسر، ارتفعت أسعار الوجبات والمشروبات بشكل واضح، لتصبح خارج متناول الكثيرين.
وعلى الرغم من أن هذا الارتفاع في الأسعار يُعَدّ ظاهرة عامة في المنطقة، ليشمل مختلف السلع، إلا أنه لوحظ وجود تباين في الأسعار بين مطعم وآخر، لتكون أسعار الأطباق في مطعم ما مرتفعة جداً مقارنة بمطعم آخر في نفس الحي أو المنطقة، دون وجود أي معايير واضحة تفسر هذا التفاوت.
ويرجع البعض هذا التباين إلى تحكم أصحاب المطاعم والمقاهي بالأسعار في ظل غياب أي رقابة أو محاسبة على هذه الممارسات، في المقابل، يشير آخرون إلى أن ارتفاع تكاليف المدخلات الإنتاجية، كالمواد الخام والوقود وأجور العمالة، هي السبب الرئيسي وراء هذا الارتفاع.
وفي محاولة للوقوف على حقيقة هذا الملف وما يحيط به من تساؤلات، أجرى معد التقرير جولة ميدانية في عدد من مطاعم ومقاهي المنطقة، إضافة لعدة مراسلات مع مالكي بعض المنشآت، للوقوف على أسباب التفاوت في الأسعار، والذي عزاه الغالبية إلى ظروف السوق وحجم العرض والطلب، فضلاً عن التكاليف المرتفعة التي يتحملونها.
ارتفاع وتباين في الأسعار
رصد موقع تلفزيون سوريا عدة حالات لأشخاص من رواد المطاعم والكافيهات يشتكون فيها من ارتفاع الأسعار، سواء أطباق الطعام والمشروبات والأراكيل والحلويات والمكسرات وغيرها.
وقبل الخوض في التفاصيل، لا بد من الإشارة إلى رأي يرى أن ارتياد المطاعم والكافيهات ليس مفروضاً على أحد، فغالبية زبائنها من المقتدرين مادياً نوعاً ما، كما أن كل الأفراد لهم حرية اختيار المكان الذي يرغبون بقضاء الوقت داخله من دون إجبار، ففي الغالب ذلك الشخص على معرفة جيدة بأن الأسعار حتماً ستكون مرتفعة داخل هذه المنشآت نظراً لتعدد الخدمات المقدمة للزبائن.
وعلى مجموعات التواصل الاجتماعي في تطبيق "واتس آب" نشر أحد الأشخاص صورة لفاتورة صادرة عن أحد المقاهي في مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، وقد اشتكى من الارتفاع الكبير في أسعار المواد المطلوبة.
وأظهرت الفاتورة أن سعر عبوة المياه الصغيرة 5 ليرات تركية، علماً أن سعرها في الأسواق ليرتان فقط، كما أن سعر عبوة البيبسي 43 ليرة تركية، بينما يبلغ سعرها في السوق 15 ليرة، ما يعني أن السعر في المقهى يفوق سعرها في السوق بنحو ضعفين.
كذلك بلغ سعر فنجان القهوة 45 ليرة تركية، وهو مبلغ اعتُبر كبيرا جداً مقارنة بأسعار القهوة في السوق المحلية، في الوقت نفسه، يعتقد آخرون أن الأمور لا تُحسب بهذه الطريقة، فمن المعلوم أن سعر المادة في المقهى أو المطعم سيفوق سعرها في السوق بسبب الأعباء التي تقع على عاتق مالكي هذه المشاريع، لا سيما أجور العمال والكلفة التشغيلية.
بالمقابل تحدث الشاب "رجب مصطفى" عن تجربة له رفقة أصدقائه داخل أحد المطاعم في مدينة إدلب، حيث قال: "عندما وصلنا إلى المطعم، لاحظنا على الفور أن الأسعار مبالغ فيها بشكل كبير مقارنة بالأسواق المحلية، فمثلاً، كان سعر كيلو الكباب والشيش يزيد عن 800 ليرة تركية، وقد اعتدنا شراءه بأقل من ذلك في مطاعم أخرى، وكذلك الحال بالنسبة لباقي الأطباق، التي كانت أسعارها أكبر مما نعرفه".
وأضاف مصطفى في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: "ما زاد من استيائنا هو سوء خدمة المطعم، فقد انتظرنا وقتاً طويلاً قبل أن يأتي أحد الموظفين ليتلقى طلبنا، ثم تأخر الطعام قبل أن يصل إلينا، وعندما وصل، لاحظنا أن الخبز على سبيل المثال غير طازج، كما أن الخضراوات تميل للذبلان".
وتابع: "شعرنا بأننا نُستغل بشكل واضح، وكأن صاحب المطعم يريد تحميل تكاليف الأجور والمصاريف التشغيلية على ظهور الزبائن، في نهاية الأمر، اضطررنا لدفع فاتورة باهظة مقابل وجبة لم تكن في المستوى المتوقع".
من جهته ذكر الشاب "مثنى العدوي" أنه سافر من مكان سكنه إلى مدينة أخرى، وفي أثناء مراجعة قائمة الطعام في أحد المطاعم حيث اضطر للدخول إليه بسبب طريق السفر، لاحظ أن الأسعار تختلف بشكل كبير عما اعتاد عليه في مناطق أخرى.
وأردف: "عندما سألنا أحد العمال عن سبب هذا التفاوت في الأسعار، كان رده غامضاً وغير مقنع، وذكر أن الأسعار تختلف حسب الطلب، لكن لم يقدم لنا تفسيراً واضحاً، شعرنا بعدم الارتياح، لكننا في النهاية اضطررنا إلى الدفع والخروج من المطعم دون أن نستمتع بالوجبة كما كنا نأمل".
ويعتقد العدوي أن "ما حدث في هذا المطعم يعكس غياب الرقابة الفعالة على الأسعار في المنطقة"، مضيفاً أن "كل فئات المجتمع تستحق الحصول على خدمات وأسعار عادلة، ولكن للأسف هذا غير متوفر، آمل أن تتم معالجة هذه المشكلة في المستقبل".
ما رد مالكي المطاعم والكافيهات؟
على الرغم من شكاوى بعض المواطنين من تفاوت الأسعار في المطاعم والمقاهي بشكل ملحوظ، إلا أن أصحاب هذه المنشآت قدّموا تفسيرات لذلك، فبعضهم يقول إنهم يواجهون ارتفاعاً مستمراً في تكاليف المواد الخام والمرافق والأجور، وهذا ما يدفعهم إلى ضبط الأسعار بشكل متفاوت حسب الطلب، مع اللجوء إلى رفع سعر بعض المنتجات الشعبية لتعويض الخسائر في أصناف أخرى أقل ربحية، إذ يعتبرون هذا الأسلوب هو الوحيد لضمان استمرارية أعمالهم في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
ويؤكد غالبية من استطلع موقع تلفزيون سوريا آراءهم، أن تحديد الأسعار عملية معقدة تأخذ في الاعتبار العديد من العوامل، وليست مجرد وضع أرقام عشوائية، مع السعي قدر المستطاع للمحافظة على المعقولية والتناسق في الأسعار.
وبما أن صورة إحدى الفواتير المتداولة صادرة عن كافيه "سما" في مدينة اعزاز بريف حلب، إذ تحدث الزبون عن السعر المرتفع لبعض المشروبات مثل البيبسي والقهوة، تواصل موقع تلفزيون سوريا مع إدارة الكافيه، والتي قالت، إنّها أجرت تخفيضاً للأسعار منذ 20 يوماً شمل 80 بالمئة من المواد، بما يتوافق مع المصاريف العالية، مع تخصيص حسم للطلاب بنسب مئوية حسب قيمة الفاتورة.
وأضافت: "نحن نسعى دائماً لتلبية رغبات جميع شرائح المجتمع، وبالنسبة لسعر عبوة البيبسي أصبح حالياً 30 ليرة تركية، ونرحّب بجميع الملاحظات لعلها تنفعنا".
وأشارت الإدارة إلى أن القائمة الجديدة للأسعار حاولت أن توافق بين الواقع العام للسكان، ومصاريف المنشأة، التي تتضمن أجور الموظفين والكلفة التشغيلية ومواد تحضيرية وأولية، إضافة للكهرباء وغير ذلك.
من جهتها، قالت إدارة مطعم "طيبة" في مدينة الدانا شمالي إدلب: "مطعمنا كبقية المطاعم، هو مشروع ربحي بالنهاية، وبالرغم من ذلك فهو يؤمّن العمل لما يزيد عن 60 عاملاً، أي أكثر من 60 عائلة، ويعتمد تحديد الأسعار في مطعمنا على محددات ثلاثة، تشمل نسبة ربح معقولة بعد حساب أجور العمال وتكلفة المشروع والتكاليف الأساسية المعروفة، ومراعاة السعر الوسطي في السوق مع الأخذ بعين الاعتبار فرق الأوزان والجودة والتغليف وتوابع كل وجبة، وأخيراً، الاهتراء بالتجهيزات والديكور والحاجة لتجديده كل فترة.
وأردفت في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: "طبعاً الأسعار بالنسبة للوضع الاقتصادي لمجتمع يعيش في معظمه تحت خط الفقر قد تبدو مرتفعة لكنها أقل من المفترض لمشاريع تكلّف عشرات آلاف الدولارات، أما من يعمل بهذا المجال ولا يأخذ في اعتباره ما قد ذكرته سابقاً فكما نشاهد يؤول مصير مطعمه للفشل بعد فترة".
وختمت: "بالرغم من ارتفاع الأسعار فإننا نستقبل في المطعم والطلبات السفرية وتوصيل الطلبات للمنازل ما يزيد عن 450 زبون يومياً، وهذا دليل على جودة الطعام ومناسبة الأسعار للوجبات المقدمة".
"الحكومتان" تشرحان.. ما دورهما؟
على الرغم من أن بعض أسباب ارتفاع الأسعار في المطاعم والمقاهي خارجة عن إرادة الجهات المحلية، إلا أن البعض يعتقد بوجود دور مهم للمعنيين في معالجة هذه المشكلة، سواء عبر تنظيم السوق، ومراقبة الأسعار، وتقديم الدعم للمنشآت لتخفيف الأعباء عليها، وتتبع الممارسات التجارية غير العادلة وفرض الضوابط اللازمة.
بهذا الخصوص، قال مدير حماية المستهلك في وزارة المالية والاقتصاد بالحكومة السورية المؤقتة فاضل كنو، إنّ السياسات الاقتصادية المتبعة في مناطق نفوذ الحكومة، قائمة على مبدأ التجارة الحرة كما هو الحال في الدول المتطورة أو مبدأ العرض والطلب أو ما يسمى "اقتصاد السوق".
ذكر "كنو" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن الحكومة في هذه الحالة لا تتدخل في تحديد أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، فكل شيء يعتمد على العرض والطلب لكن بشرط توافر السيولة الكاملة للسلع والمواد، من دون احتكار.
وتفرض القوانين المتبعة الإعلان عن الأسعار من قبل المطاعم والكافيهات والمحال بشكل عام، حيث قال "كنو"، يجب أن يكون على طاولة كل مطعم قائمة بالأطباق والمشروبات الموجودة مع أسعارها، وإعطاء فاتورة للزبون قبيل مغادرته.
وأضاف: "نترك الباب مفتوحاً أمام الجميع لعرض أسعاره من باب التنافس، وبالتالي يستفيد المواطن من العروض وغيرها، لكننا لا نتدخل في تحديد الأسعار، ويأتي دورنا للتدخل في حالات محددة، منها احتكار مادة رئيسية من قبل تاجر ما بعد فقدانها من السوق، حيث نعمل على مصادرة البضاعة المفقودة في هذه الحالة وإعادة توزيعها في السوق لضمان توفيرها، أما المطاعم فتعتبر نوعاً من الرفاهية، ومع ذلك سنعمل على وضع تصنيف سياحي للمطاعم والمقاهي بهدف ضبط المسألة".
كذلك قال المدير العام للتجارة والتموين في "حكومة الإنقاذ" العاملة بإدلب محمد السليمان، إنّ "المديرية لا تلزم أصحاب الفعاليات التجارية بسعر محدد للسلع، وإنما تترك العمل للمنافسة التجارية، وتقوم الرقابة التموينية بمهمة مراقبة الأسعار وضبطها عندما تتعدى حد هامش الربح الطبيعي، وهنا نستقبل الشكاوى وننظّم الضبط اللازم ونحيله للجنة القضائية المختصة".
وأفاد السليمان في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، بأن المديرية "تلزم جميع الفعاليات التجارية بالإعلان عن أسعار السلع والمنتجات التي تعرضها للبيع، وبشكل واضح للمستهلك، وهذه تعد بوصلة لمديرية حماية المستهلك لمقارنتها مع الفواتير والتكاليف، ومع هامش الربح المحدد، وعليه يتحدد دور التموين بالتدخل وتنظيم المخالفة أو تركها للمنافسة بالجودة والسعر بين الفعاليات".
وعن سبب ملاحظة ارتفاع أسعار بعض المواد مقارنة بالسوق، أضاف السليمان: "بشكل عام هناك تفاوت بالسعر بين المحال التجارية والمطاعم وغيرها بسبب التكاليف الإضافية إزاء الخدمات المقدمة، كعدد العمال، وإيجار العقار، وأمور أخرى، فمن الطبيعي ستختلف الأسعار بين السوق والمطعم".
وأما عن تفاوت سعر المادة نفسها بين مكان وآخر، قال المتحدث: "كما ذكرنا سابقاً، يعود الفرق للخدمة المقدمة والجودة الموجودة والتنافسية، فيوجد فوارق بالسعر حتى بين المطاعم أو المقاهي، وتلزم المديرية جميع الفعاليات بإعلان السعر ليتعرف المستهلك على الأسعار قبل شراء السلعة أو طلب الخدمة".
وبشأن الخطوات المتبعة للتعامل مع التجاوزات، أوضح السليمان، أن "المديرية تجري جولات دورية لتراقب الأسعار وتقارنها بالجودة وبالخدمة وبالتكاليف وهامش الربح، والفواتير وحتى سعر الصرف، وعند وجود بيع بسعر فاحش تنظم ضبطاً وتحيله للقضاء"، مردفاً: "أرقام الشكاوى متاحة على مدار الساعة والفرق التموينية على استعداد تام لاستقبال أي شكوى ترد لمعالجتها بشكل فوري".
ويمكن الإشارة في الختام إلى آراء متباينة حيال ملف تسعير المأكولات والمشروبات في المطاعم والمقاهي، فوجهة نظر المستهلكين، ترى أن الارتفاع الكبير في الأسعار أثّر بقدرتهم على التردد إلى هذه الأماكن بشكل منتظم، أو حدّ من ذلك بالكامل، في المقابل، يؤكد أصحاب المطاعم أن الزيادات في تكاليف المواد الخام والمصاريف التشغيلية فرضت عليهم هذه الزيادة في الأسعار، وإلا لما تمكنوا من المحافظة على استمرارية أعمالهم، بينما تقول الجهات الحكومية، إنّ السوق هو من يحدد الأسعار وفقاً لآليات العرض والطلب، وأنها لا ترغب في التدخل بطريقة مباشرة لتحديد الأسعار، إنما تعمل على تهيئة البيئة التنافسية التي تصب في مصلحة المستهلك، ليبقى الأمر متروكاً لكل فرد لاتخاذ القرار المناسب له بشأن ارتياد المطاعم والمقاهي من عدمها حسب قدرته المالية وهامش "الرفاهية" الذي يتمتع به.