ثمانية أشهر من الأخذ والرد والتجاذب بين الأطراف والتيارات، كانت كفيلة بخلق أكبر أزمة داخلية في تاريخ "هيئة تحرير الشام"، ووضع زعيمها "أبو محمد الجولاني" أمام تحديات مختلفة، قد تهدد عرشه وتهدم ما أسسه وعمل على بنائه منذ بروز اسم "جبهة النصرة" في سوريا قبل ما يزيد على عقد من الزمن.
يخيّم الصراع والانقسام الداخلي على المشهد ضمن "هيئة تحرير الشام"، بالتزامن مع انعطافة شهدها "ملف العملاء"، أو "خلية الانقلاب"، أو "الخلية الأمنية" داخل تحرير الشام، سمها ما شئت، فإن مجرد التضارب في وصف الأزمة واسمها هو مشكلة بحد ذاته للهيئة.
بعد مضي ثمانية أشهر على ظهور أزمة "العمالة" داخل التنظيم لصالح جهات خارجية، لم تنجح الهيئة بنسج رواية منطقية تقدمها للسكان ضمن مناطق نفوذها على الأقل، حيال حقيقة ما جرى وما قد يجرى، وعلى العكس، تركت تحرير الشام عناصرها قبل المدنيين العامّة، لقمة سائغة تتلاطمها قنوات "الإعلام الرديف" التابع للهيئة نفسها، وجعلت منهم رهينة لروايات وقصص هوليودية سرعان ما تتغير "حبكتها"، حسبما يتطلبه مسار الأزمة.
انعطافة في ملف "العلماء"
لن نعود إلى الوراء كثيراً للتذكير بأحداث أزمة "العملاء" داخل تحرير الشام، لكن من المهم التذكير ببعض المواقف والتصريحات الرسمية التي مهّدت إلى الانعطافة في الملف، وقلبته رأساً على عقب، لعل أبرزها كان على لسان الجولاني نفسه.
في شهر كانون الأول 2023، علّق الجولاني للمرة الأولى على أزمة العملاء داخل الهيئة، قائلاً إن "عدد المتربصين بالثورة كُثر، لذلك هي عرضة للاستهدافات، سواء العسكرية أو الأمنية (..) وأجهزة الاستخبارات في العالم تعمل على اختراق بعضها البعض"،كما أضاف: "أُطمئن الجميع، ليس هناك خطر كبير وعظيم كما يتصور البعض، والأمور قد سُيطر عليها، وقد أُحيط بالخلايا".
وخلال 28 من الشهر نفسه، قال جهاز الأمن العام التابع للهيئة: "استكمالاً للحملة الأمنية التي بدأها جهاز الأمن العام في شهر حزيران من العام 2023 ضد خلية جاسوسية تعمل لصالح النظام المجرم وحلفائه في المنطقة وجهات خارجية أخرى، وبعد التحقيق مع المجرمين المنتمين لهذه الخلية، تم التوصل إلى معلومات جديدة تفيد بتورط عدد من الأشخاص المدنيين معهم بالعمالة لصالح النظام المجرم، وقد تم اعتقال 20 شخصاً منهم".
بالتزامن مع ذلك، كانت إحدى قنوات "الإعلام الرديف" على تطبيق "تلغرام"، المسماة "مراقب المحرر"، تربط أسماء عدد من العسكريين المعتقلين بـ"غرفة عمليات دولية"، قائلة إنّه تم "تجنيد أبو ماريا القحطاني من قبل غرفة عمليات دولية ورسم خطة لإنهاء الثورة والجهاد، بعد وعود للقحطاني بالمناصب واستلام المشهد في المناطق المحررة".
بعد ذلك، أعلنت "تحرير الشام" و"جهاز الأمن العام" في بيانين منفصلين، عن انتهاء التحقيقات الخاصة بملف العملاء، وقد خلص بيان الهيئة إلى إدانة عدد من الموقوفين وإحالتهم إلى القضاء، وإيقاف من ثبت بحقه تجاوز الإجراءات المسلكية ضد الموقوفين.
وقد كان البند الأخير، أي توقيف من تجاوز الإجراءات المسلكية ضد الموقوفين، بوابة للانعطافة في الملف، حيث أعقب بيان الهيئة خروج العشرات من عسكرييها وأمنييها وعناصرها ممن زجتهم في السجن بتهمة العمالة، بالتزامن مع اعتقال عدد من أفراد الجهاز الأمني، عُرف منهم شخص يدعى "أبو الجماجم" وآخر يدعى "أبو عبيدة منظمات"، بتهمة تعذيب المعتقلين بهدف انتزاع اعترافات وأقوال غير دقيقة منهم.
الإفراج عن العشرات واحتفلات بلا رقيب أو حسيب
من دون سابق إنذار، وفي ظل غياب أي توضيح رسمي من "هيئة تحرير الشام"، أُطلق سراح عدد من المعتقلين بتهم العمالة تباعاً، وذلك على دفعات، بعد التقاط صور جماعية لكل دفعة منهم إلى جانب "الجولاني".
وشملت قائمة المفرج عنهم، في بداية الأمر، العسكريين في الهيئة "أبو مسلم آفس" و"أبو خطاب الحسكاوي" و"أبو أسامة منير" و"أبو القعقاع فواز"، وقد اتُهم بعضهم بالعمالة لغرفة عمليات دولية، إذ وردت هذه الاتهامات في فيديو مدته 16 دقيقة نُشر على قناة في تطبيق "تلغرام"، تتهم بالتبعية للمكتب الإعلامي في الهيئة، لكن الفيديو جرى حجبه عن المتابعين (رابط يوتيوب) بعد إطلاق سراح المتهمين.
وكان آخر المفرج عنهم، أبو محجن الحسكاوي، الذي شغل منصب المسؤول الأمني العام لمدينة إدلب قبل اعتقاله، لكن أجواء الاحتفال بإطلاق سراح هؤلاء الأشخاص، تحتوي بحد ذاتها على رسالة تحدٍ من التيار العسكري في الهيئة تجاه الأمنيين، إذ يجري إطلاق الرصاص بكثافة وبشكل عشوائي في أجواء إدلب وما حولها، احتفالاً بخروج العسكريين من السجن، من دون أن يجرؤ جهاز الأمن العام أو وزارة الداخلية في حكومة الإنقاذ على التدخل ووضع حد لهذه الظاهرة التي تفاقمت وسببت خسائر مادية للمدنيين وبعض الإصابات في صفوفهم.
الاحتفال المبالغ فيه، وإطلاق الرصاص بشكل عشوائي من قبل عناصر في الهيئة، ضاربين بعرض الحائط قرارات جهاز الأمن العام وحكومة الإنقاذ بعدم استخدام السلاح بهذا الشكل، كل ذلك فتح المجال لشخصيات "شرعية" كان بعضها ضمن الهيئة، للمطالبة بإطلاق سراح مختلف المعتقلين في سجون الهيئة، سواء من عناصر فصائل المعارضة، أو المعتقلين على خلفية مواقف سياسية.
ويبدو أن إطلاق سراح عدد من المعتقلين من سجون الهيئة - ممن اتهموا بملف العمالة والتعاون مع القيادي المحتجز أبو ماريا القحطاني - قد تسبب بحرج للجولاني، الذي يحاول مسك العصا من المنتصف والموازنة بين تيارين داخل الهيئة، الأول هو تيار الجناح العسكري الذي يدعي مظلومية كبيرة على يد التيار الثاني المتمثل بجهاز الأمن العام. ويزيد على ذلك أن "أبو أحمد حدود" (الشخصية الثانية في الهيئة) يرفض التوجه الحالي بالإفراج عن المتهمين.
أجرى الجولاني جولات مكوكية على القادة العسكريين المفرج عنهم، إحداها شملت العسكري أبو مسلم آفس، إذ يقرّ الجولاني علانية أن الموقوفين تعرضوا للظلم والأذى على يد الجهات الأمنية داخل السجون، متعهداً بتدارك الأمر، بالتزامن مع الحديث عن تعويضات مالية تقدّر بآلاف الدولارات سيقدمها الجولاني لبعض العسكريين.
تعذيب وأجساد متفسخة وعظام مكسّرة
مع خروج المعتقلين بتهم العمالة من السجن، بدأت تنتشر قصصهم وصور آثار التعذيب على أجسادهم، إذ بدت أقدام بعضهم متفسخة من شدة الضرب والإهمال الطبي، كما كُسرت أيدي بعضهم من جراء الضرب على داخل السجون.
ما سر الانعطافة في الملف؟
الروايات غير الرسمية داخل هيئة تحرير الشام، وعلى لسان بعض الأشخاص ممن أُطلق سراحهم، تتحدث عن أن المحققين في "جهاز الأمن العام" كانوا يجبرون المعتقلين على الإدلاء باعترافات تدين قادة بارزين في الهيئة، من أجل اعتقالهم وتوسيع دائرة خلية العملاء.
تزعم بعض الروايات أن ملف "العملاء" لا وجود له بالأصل، لكن تصريحات الجولاني نفسه تؤكد أن ملف العملاء حقيقي، كما أن الرواية تتحدث عن مخطط انقلابي كان يقوده "الأمنيون" على التيار العسكري في الهيئة، عبر زجهم في السجن بتهمة العمالة، في سياق الصراع المحتدم بين التيارات داخل التنظيم على النفوذ.
لا يوجد أي تصريح رسمي من الهيئة يدعم هذه الرواية، لكن عددا من المفرج عنهم أقروا بها بالفعل، وأن الجولاني كشف المخطط بعد تكليف لجنة من الشرعيين للإشراف بشكل مباشر على اعترافات المعتقلين، إلا أن مناهضين للهيئة، يعتقدون أن الإجراءات الأخيرة في الهيئة، من اعتقالات لبعض الأمنيين وإطلاق سراح العسكريين، تهدف بالدرجة الأولى إلى تبرئة الجولاني من تهم التعذيب والقتل ضمن السجون، واختزال المشكلة بعدد من الأمنيين أمثال "أبو عبيدة منظمات" و"أبو الجماجم".
واضطر الجولاني للتعليق على الأحداث المتسارعة، بالقول: "هناك أصل لخلية العملاء، وخلال الأشهر الماضية وقعت بعض الإجراءات الخاطئة في التحقيق من قبل الأفراد الذين يعملون على مكافحة عمليات التجسس، ما دفع المتهمين إلى الإدلاء بمعلومات كاذبة وكثيرة جداً".
وتابع: "عندما تعمقنا في القضية، اكتشفنا هذا الخلل المتمثل باستخدام وسائل الضغط الممنوعة أساساً في الجهاز الأمني، وهذا ما دفع المعتقلين إلى الإدلاء بمعلومات كاذبة للتخلص من التعذيب والضغط الشديد".
وبحسب الجولاني، فقد "تفاعلت الهيئة مع المعلومات بنسبة 15 في المئة، فإذا ذُكر 1000 اسم، كنا نعتقل فقط 140 أو 150"، مضيفاً أن "تجاوز القوانين والقواعد الداخلية من بعض المحققين أدى إلى لصق تهمة العمالة بأشخاص لا علاقة لهم بذلك"، وأن "براءة هؤلاء هي دين في أعناقنا، فكما اتُهموا بالعمالة ولم تثبت عليهم، وجب علينا أن نبرئهم من هذه التهمة".
تحديات تضع "تحرير الشام" على المحك
يواجه الجولاني اليوم تحديات، هي الأكبر من نوعها في تاريخ هيئة تحرير الشام، أبرزها:
- الانقسام الداخلي في "هيئة تحرير الشام" وتعمّق الخلافات بين التيارات ضمن التنظيم، ما يعني تلاشي فكرة مركزية القرار شيئاً فشيئاً، واضطرار الجولاني لتقديم تنازلات لكل تيار بهدف الموازنة فيما بينهم.
- تبين أنّ الجهاز الأمني في هيئة تحرير الشام متمرس على ارتكاب الانتهاكات بحق المعتقلين، وعلى لصق التهم بأشخاص قد يكونون أبرياء، وهذا ما حدث مع أفراد الهيئة نفسها حسب الروايات المتداولة، مع ارتكاب الجهاز لجرائم تعذيب قد تؤدي إلى الموت، وبعد إقرار الجولاني ذاته بذلك، وتكشّف كامل التفاصيل للعامّة، بات من الصعب اعتقال أحد بتهم ما، وإقناع الناس بالتهم المعتادة لتبرير الاعتقال، كـ العمالة للتحالف أو السجن بقضايا أمنية.
- اهتزت الصورة الإعلامية للهيئة لدى كثيرين، خاصة بعدما نُسجت أفلام تتهم قادة ضمن التنظيم بالعمالة لتبرير اعتقالهم، ثم حذف هذه الفيديوهات بعد الانعطافة في مسار الملف، بالتالي تبيّن أن جميع القصص التي كانت تنسجها الهيئة ضد خصومها من الفصائل قبل الهجوم عليها، بلا معنى وتفتقد للدليل والمصداقية.
- انعكاس الملف بشكل سلبي على تمدد هيئة تحرير الشام ضمن نفوذ الجيش الوطني في ريف حلب الشمالي، خاصة بعد سجن وانشقاق أبرز أدواتها للتغلغل في المنطقة، ولا سيما أبو ماريا القحطاني، وأبو أحمد زكور.
- تُشكّل نقمة المعتقلين المفرج عنهم، من الأمنيين، تحدياً للهيئة، خاصة إذا ما أسفر ذلك عن تفجر المواجهة بين قطبين داخل التنظيم (العسكري - الأمني).
- إمكانية تراجع الدعم العشائري لهيئة تحرير الشام، رداً على ممارسات الهيئة ضد أبرز وجوه العشائر (القحطاني - زكور).
- هناك مخاوف جدية من تأثير سلبي محتمل على الملف العسكري في إدلب بشكل عام، خاصة أن معظم المعتقلين بتهمة العمالة هم من العسكريين، خاصة إذا ما قرروا عدم العودة إلى مهامهم في المجال العسكري، عقب إطلاق سراحهم.
- تنامي السخط الشعبي من "هيئة تحرير الشام"، إذ بات العامّة أكثر جرأة على انتقاد ممارساتها عقب التطورات الأخيرة، سواء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو من خلال التظاهر والاحتجاج السلمي.
- ارتفاع الأصوات داخل الهيئة، المنادية بتنحي الجولاني عن القيادة، وإطلاق سراح جميع مَن هم في السجون ممن اعتقلوا لأسباب سياسية وفصائلية.
- تراجع الثقة الشعبية بـ جهاز الأمن العام أو حكومة الإنقاذ أو الهيئة نفسها، بعدما اتخذت هذه الجهات موقف المتفرج حيال إطلاق الرصاص بشكل يومي بين تجمعات المدنيين احتفالاً بخروج دفعات من المعتقلين، من دون اتخاذ أي إجراء بحق من يهدد سلامة السكان، لمجرد أن مطلقي النار لهم نفوذ عسكري لا يمكن المساس به.
أما عن سبل خروج "هيئة تحرير الشام" من أزمتها الحالية، تدور العديد من الأفكار في أذهان المتابعين للقضية وتفاصيلها، لكن القرار سيكون في نهاية المطاف بيد الجولاني ومن يحيط به ضمن التنظيم، فهل يقرر السير في مغامرته حتى النهاية مهما كانت الأسباب؟ أم يفضل سماع الآراء من حوله وتلبية المطالب الداعية إلى تنحيته؟ وهذا الخيار يبدو مستبعداً نوعاً ما.
كثير من الخيارات مطروحة على الطاولة، فبينما يتمنى البعض في إدلب، أن يكون ما جرى بوابة لمكاشفة يُقدم عليها الجولاني، ويعترف من خلالها بأخطاء الماضي ويعمل على تصحيح المسار، هناك من يعتقد أن هذه المطالب مجرد أحلام، أمام المسار الضبابي الحالي، والنتائج والانعكاسات المبهمة للأزمة، على تحرير الشام بشكل خاص، ومنطقة إدلب وشمالي غربي سوريا بالعموم.