في نهار يوم الإثنين، 23 من أيار 2022، انهار نحو 40 في المئة من مبنى "متربول" في مدينة "عبادان" جنوبي إيران، خلال وجود الناس فيه رغم التحذيرات من إمكانية انهياره قبل أشهر طويلة من الحادث.
انهيار البناء المفاجئ تطلب تدخلاً سريعاً من قوات الإغاثة والدفاع المدني نظراً لاحتمالية وجود أحياء تحت الركام، لكنّ التأخر والتباطؤ دفع الناس للتدخل دون انتظار مساندة السلطات.
وراح ضحية الانهيار ما يزيد على 30 مواطناً ونحو 37 جريحاً، مع مقتل مفاجئ لصاحب البناية وتحويل رئيس البلدية للتحقيق بتهم فساد.
تعد هذه الحادثة عينة لسلسلة طويلة من الفساد المتراكم في إيران منذ نحو 4 عقود على انطلاق "الثورة الإيرانية"، وتغير النظام الحاكم في البلاد.
احتجاجات في طريقها إلى ثورة
ولعل الاحتجاجات الواسعة التي تجتاح المدن الإيرانية واحدة بعد أخرى بعد مقتل الشابة مهسا أميني (22 عاماً) في 26 من أيلول 2022، تعود إلى لب المشكلة وهي تحكم الاستبداد السياسي والفساد في مختلف أجهزة الدولة، وعدم قدرة أي جهة على ضبطها.
وفارقت مهسا أميني الحياة بعدما دخلت في غيبوبة في أعقاب إلقاء شرطة الأخلاق القبض عليها في طهران بسبب "زيها غير المناسب"، الأمر الذي أثار غضباً في أنحاء البلاد واحتجاجات في العديد من المناطق اتسعت لتشمل عشرات المدن بما فيها المدن الكبرى مثل "طهران وتبريز وكردستان وشيراز وجيلان ومازندران.
ورفع المتظاهرون شعار "الموت للديكتاتور" و"الموت لخامنئي" على قائمة الهتافات. كما تعالى صدى الشعارات المطالبة بإسقاط حكم "ولي الفقيه" في الكثير من المناطق.
وقال التلفزيون الرسمي إن 41 شخصاً على الأقل قتلوا في الاحتجاجات. في حين لم تعلن الوزارة الداخلية الإيرانية أي حصيلة عن القتلى والاحتجاجات. لكن الحصيلة قد تكون أكبر بحسب ما تُظهر تسجيلات الفيديو وبيانات منظمات حقوقية.
وأعلنت منظمة "حقوق الإنسان في إيران" غير الحكومية، ومقرُّها أوسلو، عن مقتل 54 متظاهراً على الأقل في الحملة القمعية إلى جانب إصابة المئات، واعتقال 1800 معتقل بينهم عشرات الصحفيين.
وعلى منوال الأنظمة الاستبدادية، حشدت الحكومة الإيرانية، مظاهرات مؤيدة في طهران ومحافظات أخرى تندد بما وصفتها بأعمال شغب شهدتها الاحتجاجات الأخيرة، وتطالب بإعدام مرتكبيها.
وردد المتظاهرون شعارات داعمة للنظام ومنددة بمن يقف وراء هذه الأعمال، ودعوا لعدم المشاركة في تلك الاحتجاجات مؤكدين استعدادهم للدفاع عن النظام.
وتعد الاحتجاجات المناوئة للنظام، هي الأكبر منذ احتجاجات عام 2019 التي قتل فيها 1500 شخص وفق إحصاء لوكالة رويترز.
أحد أكثر الأنظمة فساداً في العالم
يفيد أحدث تقارير منظمة الشفافية الدولية بخصوص مؤشر الوقوف على حجم الفساد في عام 2021، أن النظام الإيراني يُعدُّ أحد أكثر الأنظمة فساداً في دول العالم حتى في المنطقة أيضاً.
واحتلت إيران المرتبة 150 بين 180 دولة، من حيث حجم انتشار الفساد المالي، متساوياً في ذلك مع غينيا وغواتيمالا وطاجيكستان.
والحقيقة هي أن وضع الفساد المالي في النظام الإيراني أسوأ من الوضع السائد في بعض الدول من قبيل أوغندا وبنغلاديش وموزمبيق وأنغولا.
وتسارع سوء وضع الفساد في إيران، خلال السنوات الأخيرة، بشكل ملحوظ، بحيث تراجعت البلاد على سبيل المثال، بمقدار 20 درجة من حيث مؤشر الوقوف على حجم الفساد مقارنة بعام 2017 حيث احتلت في العام المذكور المرتبة 130.
وتعاني إيران من أزمات اقتصادية منها انهيار العملة الوطنية إلى مستويات قياسية، وارتفاع نسب التضخم، وارتفاع نسب الفقر والبطالة بشكل هائل.
جذور الفساد
تتصدر النخب الحاكمة من عسكريين ورجال دين قائمة الفساد في إيران، رغم أن النظام الجديد الذي تشكل إبان الثورة الإيرانية عام 1979، كان من أبرز أهدافه محاربة الفساد الذي وصم بها النظام السابق.
زرع كل من الشاه محمد رضا بهلوي والأسرة الحاكمة في إيران جذور الفساد المالي عن طريق المؤسسات الخيرية الصورية التي لم يكن لها أي أساس من الوجود، ولكن استغلتها الأسرة الحاكمة لزيادة ثروتها من أموال المواطن الإيراني.
وأثبتت العقود الأربعة التي تلت عصر الشاه، أن النخب السياسية والعسكرية والدينية إلى جانب الفئة الاجتماعية التي حكمت البلاد استفادت من مناخ الفساد وثقافته.
وفي ظل ذلك أخذ الفساد أبعاداً كثيرة داخل إيران بسبب الضعف الموجود في هيكلية النظام الاقتصادي وضعف القدرة التنافسية والإبداعية مع هجرة العقول وهروب الكثير منهم إلى أوروبا وأميركا.مما أدى إلى نمو شبكة فساد كبيرة لا تقدم أي قيمة إنتاجية للسوق وتعمل على ازدهار السوق السوداء من خلال الاعتماد على العمليات التهريبية.
ومن ناحية أخرى، على الرغم من التقدم الكبير الذي وصلت إليه الصناعات العسكرية في طهران، إلا أنها فشلت في نقل هذا التقدم إلى الصناعات المدنية مما أدى إلى جعل الإنفاق العسكري عبئاً على الاقتصاد، أكثر منه مساهمة في العملية التنموية.
مكافحة الفساد !
انتشار الفساد في مؤسسات الدولة واستشراؤه إلى أبعد الحدود، وصولاً إلى أسماء كبيرة في الحرس الثوري الإيراني أو أجهزة الاستخبارات والجيش إلى جانب المؤسستين الدينية والقضائية، جعلت من مكافحة الفساد شعاراً انتخابياً استخدمه الإصلاحيون والمحافظون في حملاتهم للوصول إلى السلطة كان آخرها خلال حملة الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي.
وباعتبار أن السلطة التنفيذية لا تستطيع أن تمس بسلطة المرشد الأعلى علي خامنئي (ومن قبله آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية) وكذلك أعضاء لجنة صيانة الدستور وقيادات الحرس الثوري أو "الباسيج" ومن يحسب عليهم في عموم الدولة، تصبح مزاعم محاربة الفساد دون طائل منها.
كما أن الفساد لا يقتصر على مظاهر اختلاس المال والحصول على رُشاً، إنما يشمل وجود ثغرات كبيرة في مفاصل الدولة من الناحية الاقتصادية، إلى جانب القرارات الخاطئة التي تسهل عمليات الفساد وإهدار المال العام، الأمر الذي أسس لقوننة الفساد.
وقد أسهم الفساد في تحويل القطاعات الاقتصادية إلى حالة رأسمالية احتكارية تمنع التنافس مع نموذج السلاطين أو الملوك الذين يحتكرون سلعة معينة أو قطاعاً لصالحهم وتعود الأرباح على المتنفذين في الدولة، مثل سلطان السكر وسلطان الأرز وسلطان الاستيراد أو التوريد وغير ذلك.
وهذه النماذج تشبه الدول الريعية التي تصل بمواطنيها إلى الحدود الدنيا للفقر مع وجود 30 في المئة منهم تحت خطه أصلاً وفق التقارير.
وفي ظل ذلك تفشل الدولة حتى إن كانت صادقة في مزاعمها بمحاربة الفساد، حيث عمل الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي حين كان رئيساً للسلطة القضائية في البلاد في محاكمة فاسدين كبار أبرزهم كان نائب الرئيس السابق للسلطة القضائية، أكبر طبري، الذي حكم عليه بالسجن 31 عاماً بتهمة الفساد المالي وتلقي رُشاً كبيرة، فضلاً عن محاكمة آخرين.
وقامت السلطة القضائية بمحاكمة بعض هؤلاء، وإعدامهم، لكن ثمة انتقادات تؤكد أن هذه المحاكمات على الرغم من أهميتها، لن تحل مشكلة الفساد، وأن الأمر بحاجة إلى إرادة كبيرة وملامسة جذورها وسد الثغرات التي سهلت ظهور ما يشبه "المافيات" ولكن بشكل قانوني.
تأثير العقوبات
ولا شك أن للعقوبات تأثيرات ضخمة على الاقتصاد الإيراني داخلياً، نتيجة السياسات العدوانية التي تقودها إيران في المنطقة بحثاً عن المزيد من المكاسب وتوريد مشروعها للخارج.
ولكن ذلك لا يجعلها سبباً لمزيد من الفساد وتجمع الثروة في يد نخبة حاكمة، ألغت الطبقة الوسطى أو حدت من وجودها إلى حد كبير.
وتحاول الحكومة الإيرانية أن تلتف على العقوبات الأميركية والغربية عبر مسالك فاسدة ودفع المزيد من الكلفة من أجل التصدير أو الاستيراد.
وسبق أن كشف وزير الإسكان السابق عباس آخوندي في نيسان 2021، أن تكاليف الالتفاف على العقوبات خلال 16 عاماً ماضياً، تتراوح بين 300 و400 مليار دولار، قائلاً إن "هذا تسبب في فساد كبير"، متهماً البعض بالسعي للحفاظ على الوضع القائم، بحسب وكالة "إيلنا" الإيرانية.