في 1 شباط 1979 حطت طائرة "إير فرانس" خاصة في مطار طهران. لم تكن رحلة تلك الطائرة عادية؛ فمن أجلها تم إخراج الدبابات التي غطت معظم مدرجات مطارات إيران؛ لتمنع هبوط الطائرات أو إقلاعها. كانت تلك الطائرة تقل آية الله الخميني العائد من منفاه في "باريس"؛ ليقود ما عرف فيما بعد بـ "الثورة الإسلامية الإيرانية".
بعد تلك العودة انتشرت رواية الثورة المنتصرة، الرواية التي صيغت- كما تصاغ كل الحوادث من هذا النوع- بأسلوب عاطفي، وبزخم إعلامي مكثف يخفي الكثير من الحقائق، ويعطي بعض الأكاذيب صفة الحقائق الدامغة والمقدسة؛ فشيطنت شاه إيران السابق، وأُسبغت صفة الثورية والمجد على الخميني وثورته.
ولقد شاركت جهات كثيرة في هذه الرواية غير المنصفة، بما في ذلك أحزاب يسارية ودول علمانية ومثقفون أفذاذ. ولقد تجاهل هؤلاء جميعاً، أن ما حدث في إيران، هو: انتصار المؤسسة الدينية الإيرانية التي سيطرت على الدولة والمجتمع.
وقد أثارت تلك العودة حينها عدداً من الأسئلة، منها: كيف تخلت أميركا عن حليفها الشاه القوي؟ ولماذا سهلت تسليم السلطة لتيار راديكالي، يعلن عداءه لأميركا وإسرائيل جهاراً نهاراً؟ وكيف قبل الجيش، الذي تربطه بأميركا وبريطانيا علاقات قوية جداً، بأن تستلم المؤسسة الدينية السلطة؟ ولماذا سمحت هاتان الدولتان، وهما الأشد تدخلاً في تركيبة الدولة الإيرانية، بالتمكين لسلطة قد طرحت برامج وطنية وسياسات خارجية معادية تماماً لمصالح هاتين الدولتين؟ خصوصاً وأنهما من تدخلتا علانية، وأسقطتا حكومة مصدق- الزعيم الإيراني الوطني- بسبب محاولته تأميم النفط.
في تلك الفترة كانت الحرب الباردة مستعرة بين القطبين العالميين (أميركا والاتحاد السوفييتي) وكان الاتحاد السوفييتي يشكل تهديداً قوياً في المنطقة الأغنى بالنفط والمتحكمة بطرق التجارة ومنافذها، عبر نفوذه المتنامي في عدة دول من تلك المنطقة.
مع سيطرة المؤسسة الدينية الإيرانية على الحكم في إيران بدأت مرحلة جديدة في المنطقة كلها، مرحلة زجت المنطقة داخل صراع لا يمكن التكهن بنتائجه
كان شاه إيران حليفاً لأميركا، لكن الرفض الشعبي الذي بدأ يتصاعد ضده منذ الستينيات، والذي وصل إلى ذروته بعد منتصف السبعينيات، قد دفع أمريكا وبريطانيا إلى الاقتناع بأن استمراره في حكم إيران قد أمسى صعباً للغاية، وأن تجربة "مصدق" قد تعاد مرة أخرى، وهكذا كان عليهما أن تختارا بين ثلاثة خيارات: إما أن تعملا على بقائه في الحكم، وتحاولا امتصاص النقمة عليه، أو أن ترتبا انقلاباً عسكرياً عليه، على غرار ما فعلت حيال "مصدق"، أو أن تتحالفا مع المؤسسة الدينية التي كانت تحظى بتأييد شعبي، والتي يقودها آية الله الخميني.
ومن أجل ذلك بادرت إدارة " كارتر" (رئيس أميركا حينها) إلى الاتصال بالخميني (*1) في منفاه، خصوصاً وأن اتصالات سابقة، كانت قد جرت بين الخميني وإدارة الرئيس "كيندي" في الستينيات، عقب خروج الخميني من السجن (*2).
طلبت أميركا من الخميني، لقاء إيصاله إلى السلطة، ثلاثة مطالب رئيسة: الأول هو استمرار تدفق النفط كما كان، وقد وافق الخميني على ذلك، لكنه اشترط إخراج إسرائيل وجنوب إفريقيا من القائمة العلنية للدول المستوردة للنفط الإيراني. وكان الطلب الثاني هو محاربة وقمع قوى اليسار الإيراني؛ لمنع احتمال وصول النفوذ السوفييتي إلى إيران، وقد وافق الخميني على هذا. أما الثالث فهو ضمان مستقبل الضباط وقادة الجيش وعدم المساس بهم، وقد وافق الخميني على هذا أيضاً، لكنه طلب أن لا يعيق الجيش انتقال السلطة إلى المؤسسة الدينية.
كانت الإدارة الأميركية تعتمد ضابطاً يدعى (روبرت هويسر)، كان مقيماً في إيران للتواصل مع قادة الجيش الإيراني، وكان يلتقي مطولاً مع قادة المؤسسة العسكرية، فأقنعهم بقبول عودة الخميني، ثم أبلغ قادته بما توصل إليه مع الضباط الإيرانيين.
أبلغت الإدارة الأميركية شاه إيران بأنها لن تقف معه في وجه المد المطالب برحيله، ونصحته بمغادرة البلاد ولو إلى حين على أقل تقدير، فقرر الشاه المغادرة لكنه قام بنقل صلاحياته وتسليم الحكم إلى "شهبور بختيار" الذي كان أقل الشخصيات قبولاً لدى الشعب الإيراني أولاً، ولدى قسم كبير من المؤسسة العسكرية ثانياً.
لم يكن بختيار من المقتنعين بعودة الخميني؛ فأصدر أوامره بإغلاق المطارات في إيران لمنع هبوط الطائرة التي تقله.
ولأنه لم يكن واثقاً من ولاء أقسام الجيش كلها؛ فقد أصدر أمره بوضع الدبابات في مدرجات المطارات لإعاقة هبوط- أو إقلاع- أي طائرة (كان الخميني قد أعلن موعد عودته عبر وسائل الإعلام) لكن انشقاقاً بدا يتضح داخل المؤسسة العسكرية؛ فاضطر إلى سحب الدبابات. وهكذا تمكنت طائرة الخميني من الهبوط.
لم تكن أميركا وبريطانيا تريدان من نظام طهران الجديد، فقط ما طلبتاه من الخميني على أهميته، فقد كانتا ترميان إلى أهداف أكثر عمقاً وأهمية، يمكن تلخيصها بما يلي:
1- إغلاق الباب أمام تمدد النفوذ السوفييتي في منطقة بالغة الحساسية. إضافة إلى أن قيام دولة إسلامية على جواره، قد يساعد على انتقال العدوى إلى الدول ذات الأغلبية الإسلامية داخل الاتحاد السوفييتي، التي تجاور إيران بعضاً منها، وهي: تركمانستان، وأذربيجان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان، بالإضافة إلى أفغانستان التي تجاور إيران، وهي التي كانت تحت سيطرة نظام موال للاتحاد السوفيتي حينها، (أرغم الجيش السوفييتي في نفس العام ديسمبر 1979 على التدخل المباشر فيها، تخوفاً من قيام دولة إسلامية على غرار إيران) الأمر الذي قد يدفع موجة المد الإسلامي إلى انتشار سريع داخل جمهوريات الاتحاد السوفيتي الإسلامية .
2- قيام دولة دينية شيعية تشكل قطباً شيعياً سيساهم في استنهاض الصراع السني الشيعي في المنطقة، وما يعنيه هذا من زج المنطقة في صراع جديد يستنزف اقتصادها، ويكبح إمكانية نهوض شعوبها وتطورها فترة طويلة.
3- إشعال المنطقة بهذا الصراع سيؤدي إلى إنعاش كبير لسوق الأسلحة، خصوصاً وأن معظم دول هذه المنطقة قادرة على دفع مبالغ كبيرة للتسلح بسبب وجود النفط فيها.
4- استبدال الصراع السني الشيعي بالصراع العربي الإسرائيلي، الأمر الذي يسمح لإسرائيل بالانتقال من مرحلة العداء إلى مرحلة التطبيع في المنطقة، خصوصاً وأن اتفاقيات كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر كانت قد وقعت.
تستند الاستراتيجية البريطانية الأميركية على أن إبقاء السيطرة على هذه المنطقة، يتطلب الإبقاء الدائم للدين وصراعاته في عمق الصيغ السياسية لهذه المنطقة، يضاف إلى ذلك أن فكرة إذكاء الصراعات الدينية ونقلها إلى داخل الجمهوريات الإسلامية المنضوية في الاتحاد السوفييتي والمجاورة لإيران، قد كانت ضمن الرؤية البريطانية الأمريكية لهزيمة الاتحاد السوفيتي من الداخل؛ أي: إرغامه على الانكفاء لمعالجة مشاكله الداخلية.
من أجل هذا لم تمانع بريطانيا وأمريكا في انتصار المؤسسة الدينية الإيرانية، رغماً عما رفعته هذه المؤسسة من شعارات منذ لحظتها الأولى: قطع العلاقات مع إسرائيل، وفتح سفارة فلسطينية في طهران، ووقوف إيران إلى جانب الفلسطينيين، ومشروعها لتحرير القدس ورمي إسرائيل في البحر (*3)
يمكننا اليوم أن نلمس النتائج على الأرض، بعد أربعة عقود من انتصار المؤسسة الدينية في إيران، سواء في إيران ذاتها أم في كل الدول التي تدخلت فيها إيران؛ لنرى الدور الحقيقي الذي لعبته إيران.
في النتائج النهائية يمكننا أن نرى بوضوح عجز أنظمة هذه المنطقة و"ثوراتها المزعومة" عن إحراز أي نقلة نوعية في مجتمعاتها، رغم أن الممكنات اللازمة لإحداث هذه النقلة كانت متوافرة، بل إن ما حصل عملياً، هو: سحق الممكنات التي كانت متوافرة، وتكريس الدولة الفاشلة استراتيجياً في معظم هذه الدول.
ومع سيطرة المؤسسة الدينية الإيرانية على الحكم في إيران بدأت مرحلة جديدة في المنطقة كلها، مرحلة زجت المنطقة داخل صراع لا يمكن التكهن بنتائجه. لكن، ما يمكن استشفافه حتى الآن، هو: إن الخريطة السياسية للمنطقة برمتها قد يعاد تشكيلها، تشكيل لن يكون لمصلحة شعوبها، إنما لمصلحة الدول الكبرى.
هكذا يتجلى اليوم هذا الدور الاستراتيجي المرصود لمؤسسة إيران الدينية: فهي التي تتولى سحق ثورات الربيع العربي، وهي التي تقف عائقاً حقيقياً أمام أي انتقال ديمقراطي في بلدان عديدة محكومة بأبشع أشكال الديكتاتوريات.
1-الهامش: كشفت الخارجية الأمريكية مؤخراً عن جزء بسيط من المراسلات بين كارتر والخميني. وبالتأكيد إن ما ظل سرياً هو الجزء الأهم من الاتفاق.
2-الهامش: اعتقل الخميني في تلك الفترة بسبب رفضه لما سمي يومها "الثورة البيضاء"، التي حاول شاه إيران من خلالها تخفيف عداء القوى اليسارية له، فأصدر قراراته بتوزيع أراضي الإقطاعيين، ومنح النساء حق التصويت. وقد عد الخميني إعطاء النساء حق التصويت إهانة للإسلام، لا تغتفر؛ فاتهم شاه إيران بالكفر؛ واعتقله الشاه.
3-الهامش: بعد أقل من عامين على الحرب العراقية الإيرانية، تحديداً في عام 1981، بدأت إسرائيل بتأمين السلاح وتوريده لإيران خلال حربها مع العراق.