منذ سنوات خرج السوريون جميعاً دون استثناء من دائرة الفعل فيما يخص مصيرهم ومصير وطنهم. وبغض النظر عن الأسباب التي أوصلتهم إلى هذا الحال، والتي يعرفها الجميع، فإن أول نتائج هذا الخروج الطبيعي هو ارتهان قرارهم للآخرين، وبالتالي تحكم الآخرين حتى بقرارات الدولة السورية السيادية. وها نحن اليوم نصل إلى انهيار شامل وكامل في لحظة بالغة الخطورة، فهل بدأت مرحلة تقاسم سوريا؟
طوال عقود طويلة، اعتاش النظام السوري على مقولة الصراع العربي الإسرائيلي، وبرر سياساته الداخلية والخارجية بشعار وهمي تحت حجة "المقاومة والتحرير". واليوم يمكن القول بوضوح إن هذه الصيغة القديمة التي قام النظام السوري عليها انتهت بالنسبة له، وما كان يكرره دائماً حول هذا الصراع أصبح اليوم منسياً. حتى مقولته المبتذلة حول "الاحتفاظ بحق الرد" تحولت اليوم إلى صمت مطبق، رغم أن ما تفعله إسرائيل اليوم هو احتلال معلن لمساحات جديدة من سوريا.
إن اختارت إيران المواجهة، فسوف تتحول هذه الأطراف إلى واجهة عسكرية لها. وإن اختارت الحل السياسي، فإنها لن تكون أكثر من ورقة ضغط بيد إيران لتحسين شروط تفاوضها. أما مصير ومستقبل هذه الأطراف فلن يكون مهماً لها.
باختصار، النظام السوري اليوم لم يعد حتى بوارد الاستمرار في مسرحيته الهزلية حول مواجهة إسرائيل. فقد أصبحت الأخيرة صاحبة القرار في مصيره، وفي قرار وجوده. وهي قادرة على استباحة سوريا بسهولة فائقة. وسوريا اليوم أضعف من حماس، وأضعف من حزب الله، وإسرائيل في انشغالها بسوريا إنما تنشغل بالوجود الإيراني وما يتبع له، ولا تقيم وزناً للنظام السوري.
بقراءة سريعة لمسار الحدث السوري خلال سنوات الثورة، يمكن بسهولة القول إن إيران ومعها حزب الله وغيره من الميليشيات التابعة لإيران وروسيا (أي القوى الأساسية التي منعت سقوط النظام السوري) لم تعد قادرة على حمايته. بل صار من مصلحتها المساومة عليه من أجل حماية نفسها، وهذا ما نلمسه اليوم بوضوح في السياسة الإيرانية التي تجهد لإنقاذ نظامها، وتسعى بكل ما تستطيع لتجنب أي مواجهة عسكرية بينها وبين إسرائيل ومن خلفها الغرب.
تشير وقائع الحرب التي شنتها إسرائيل بحجة الرد على ما قامت به حماس في 7 أكتوبر 2023، إلى أن الإدارة الإسرائيلية ترفض الدخول في مساومة مع طهران حول أذرعها ومناطق نفوذها، وأنها تُصِرّ على إنهاء تهديد هذه الأذرع بالقوة العسكرية. أي أنها تريد منع إيران من أن تقبض ثمن الساحات التي عملت عليها طوال عقود وصرفت عليها أموالاً طائلة. وهي – أي إسرائيل – تستند في غطرستها هذه إلى مرتكزات عدة، أهمها يقينها أن قوى كبرى عالمية، تأتي في مقدمتها أميركا وبريطانيا وألمانيا، لن تسمح بهزيمتها عسكرياً، وسوف تتدخل في أي حرب لنصرتها.
كل محاولات إيران التي قام بها الرئيس الإيراني الجديد "بزشكيان"، والتي أعلن عنها بوضوح أثناء وجوده في "أميركا" للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة حول رغبة إيران في انتهاج سياسة جديدة للعلاقة بين بلاده وبين الغرب، لم تكن لها جدوى. فما تطلبه أميركا وإسرائيل والغرب عموماً منها لا يمكنها تقديمه، سواء بالحد من نفوذها خارج حدودها أو بمصير مشروعها النووي. وإيران التي حاولت الاستقواء بأوراقها الخارجية، وحاولت الإسراع في المساومة عليها، تعرف أن هذه الأوراق ستسقط واحدة بعد أخرى، وأنها تفقد قيمتها، وأنها عاجزة عن المحافظة عليها. ليس هذا فحسب، بل إن إيران اليوم أصبحت تعيش هاجس منع وصول الحرب إلى داخلها، وتسعى جاهدة لحماية نظامها.
بين اتجاهين في إيران؛ أحدهما يرى أن مواصلة المواجهة مع إسرائيل عبر أذرعها هو الأفضل لها لتحقيق مكاسب سياسية في تفاوضها مع الغرب، والآخر يرى أنه من الأفضل الذهاب مباشرة إلى التفاوض على البرنامج النووي وعلى النفوذ الخارجي. وبين هذين الرأيين، يبقى مصير الساحات المرتبطة بإيران (سوريا، لبنان، العراق، اليمن) رهين مسار الصراع بين قوتين لا تزال المواجهة العسكرية بينهما هي الأكثر احتمالاً.
إذا كان النظام السوري وحزب الله وغيرهما من الأطراف التي ارتهنت لإيران قد ربطت مصيرها بمصير إيران في السابق، فإن إيران اليوم أمام استحقاق يدفعها للمساومة على مصير هذه الأطراف. وبالتالي، فإن مصيرها مرتبط بالمسار الذي سوف تسلكه إيران. الكارثة هنا أن أي خيار تختاره إيران سوف يفضي إلى إضعافها إن لم يكن إلى نهايتها. فإن اختارت إيران المواجهة، فسوف تتحول هذه الأطراف إلى واجهة عسكرية لها. وإن اختارت الحل السياسي، فإنها لن تكون أكثر من ورقة ضغط بيد إيران لتحسين شروط تفاوضها. أما مصير ومستقبل هذه الأطراف فلن يكون مهماً لها.
سوريا ليست قابلة للتقسيم، وإنما هي قابلة للتشظي، وهو الاحتمال الأكثر خطورة.
ما بين حزب الله المنهار، وإيران المتاجِرة، وروسيا الغارقة في حربها الأوكرانية، يقف النظام السوري الهش للغاية عارياً في مهب تحولات سياسية عاصفة تهدد المنطقة بكاملها، وتهدد بنسف الأسس التي ارتكزت عليها المنطقة لعقود. وهو – أي النظام السوري – الذي اقتصرت سياسته طوال فترة حكم بشار الأسد على هدف وحيد هو البقاء في السلطة مهما يكن ثمن هذا البقاء، يضع سوريا بكل مقومات وجودها في مهب الريح، لا بل ربما يضعها أمام تحدي البقاء. وما يتسرب اليوم عن نوايا إسرائيلية بالدخول عسكرياً إلى سوريا، وما قامت به أخيراً في اقتطاع جزء من الأرض السورية في الجولان السوري المحتل، يضاف إلى ذلك التصريحات التي أطلقها الرئيس التركي "أردوغان" حول الدخول الإسرائيلي وما يترتب على تركيا من رد، يدفعنا إلى التخوف بشكل كبير من احتمال تشظي سوريا. فسوريا ليست قابلة للتقسيم، وإنما هي قابلة للتشظي، وهو الاحتمال الأكثر خطورة.
لم يعد أمام السوريين ترف انتظار ما يقرره الآخرون لاستكشاف مصيرهم أو ما يجب عليهم فعله. فقد اتضحت إلى حد ما خطوط المصالح القادمة للأطراف الفاعلة في الملف السوري، وهذا يضعهم أمام مسؤولية تاريخية لا تحتمل التأجيل أو الانتظار مهما بدت النتائج قليلة أو حتى معدومة، لأن تشظي سوريا يعني استغراقها في فوضى العنف طويلاً، الأمر الذي يعني نهايتها تماماً. فهل فات الأوان على إنقاذ سوريا؟