هل يتحاشى النظام الاصطدام مع أمراء الحرب الذين اقتصر نفوذهم الأخير بعد انحسار المعارك على إدارة التهريب؟ أم يحاول تذويبهم عبر حلقاته الاقتصادية الموزعة بدقة بين رجالات أعماله؟ أم يحاول التعمية عن عجزه بتأمين ابسط السلع الضرورية للمواطنين بخلق المزيد من الأزمات، ومحاولة تحميلها للتجار؟.
النظام يعاقب المواطن والتاجر الصغير
سؤال تطرحه حملات مكافحة التهريب المستمرة منذ شهرين تقريبا مصحوبة بشعارات أطلقها عماد خميس رئيس حكومة النظام، "سورية خالية من التهريب" و"مكافحة التهريب من المعبر إلى المتجر"، ولكن كما هو الحال دائما وفق طريق النظام وأسلوبه المعروف، فقد ركزت الحملة على آخر حلقات التهريب وهي تاجر المفرق عوضا عن استهداف حيتانها وقوافلها المكشوفة والمعروفة بالاسم والتبعية.
وكان خميس في وقت سابق قد أكد دعم الجمارك بكل ما يلزم من الأسلحة والسيارات والذخيرة والبنزين لتأدية عملهم، الذي اقتصر على مداهمة الأسواق، والمحال التجارية والمستودعات ليتحمل صغار التجار العبء الأكبر من المصادرات والغرامات دون أن يلحق أي أذى بشبكات التهريب الكبرى وأماكنها التي استعصت على النظام، كما حدث في قمحانة في ريف حماه منذ شهرين حين منعت الميليشيات المحافظ وقوات الجمارك من دخولها وتفتيشها، ليعود المحافظ إليها -مسرحيا- قبل أيام بمؤازرة كبيرة ليجد المستودعات خاوية تماما، بعد أن تلقى المهربون إخبارية بزمن المداهمة.
وكانت خطة النظام لمكافحة التهريب قد تضمنت إلغاء تراخيص المعامل السورية الواقعة في أماكن لا يسيطر عليها النظام، وإيقاف التعامل معها تجاريا، عدا بعض المواد الغذائية الضرورية، كما شملت إلغاء تراخيص نقل المشتقات النفطية بين المدن.
المالية والجمارك فوضى وارتجال
انعكس الإرباك والارتجال في قوانين وزارة المالية والضابطة الجمركية على الأسواق السورية التي باتت تتعامل كل يوم مع قرار وآلية مختلفة عن سابقها، فبعد أن أعلنت الجمارك أنها لن تدخل المحال التجارية وأن عملها سيقتصر على المعابر الحدودية، وذلك إثر الضجة التي أحدثتها إغلاق بعض المحال في العاصمة على خلفية وجود مواد مهربة فيها، وبعد اجتماع لمسؤوليها مع أعضاء غرفتي التجارة والصناعة في دمشق، تراجعت الجمارك عنها قائلة إنها لن تدخل إلا المحلات التجارية، لتعلن لاحقا أنها لن تدخل إلا المحلات التي تتأكد من وجود مهربات فيها.
وفي اجتماع ثان له في العاشر من الشهر الجاري مع غرفتي الصناعة والتجارة، أكد مدير عام الجمارك فواز الأسعد قرار منع إيقاف أي سيارة تنقل البضائع ضمن المدينة، من قبل دوريات الجمارك، ومشترطا في الوقت ذاته على التجار أن يدلوه على مستودعات التهريب، معتبرا أن الحملة الأولى لمكافحة التهريب في العام الماضي قد فشلت بسبب التهاون مع التجار، وأنهم "خانوا الأمانة".
وفيما أقر مأمون حمدان وزير مالية الأسد في الاجتماع المذكور بعدالة بعض مطالب التجار إلا أنه لم يتخذ أي إجراء لصالحهم مكتفيا بالقول:" إن التهريب والتهرب من الضريبة توأمان"، بدوره عبر سامر الدبس رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها عن انزعاج الصناعيين من دخول الجمارك إلى مصانعهم مطالبا حكومة النظام بضبط تلك التصرفات والكف عنها باعتبار الصناعيين هم أكثر المتضررين من التهريب، ومن جهة ثانية احتج التجار بشدة على قرار جمركي يعتبر أي بيان جمركي قبل عام 2016 ملغى بما يعني أن البضائع الموجودة لديهم قبل هذا التاريخ ستعامل بحكم المواد المهربة مهما كانت طبيعتها كهربائية أو نسيجية أو غيرها.
دوافع سياسية واقتصادية
وفيما يرمي النظام من خلال الحملة الجمركية إلى تأكيد سيطرته على الحدود كحالة رمزية "للسيادة" بعد أن بات يسيطر على نحو ثلثي سوريا، فإن الدوافع الاقتصادية المتعددة هي الأكثر وضوحا من خلال الحديث عن إيرادات الجمارك التي بلغت في العام الماضي 300 مليار ليرة، ودورها في رفد الخزينة المتهالكة، والحديث عن دور التهريب في التهرب من الضرائب التي باتت المورد شبه الوحيد للنظام، في ظل أزمة موارد خانقة يعيشها ويتحملها المواطن السوري على شكل اختناقات وشح في المواد الضرورية، وعجز عن تأمين أبسط حاجات بقائه الضرورية.
ومن جهة ثانية، ومع استبعاد صراع حقيقي بين أمراء الحرب العاملين في التهريب، وبين حيتان المال لدى النظام لاعتبار المهربين بعضا من استطالاتهم وأذرعهم التي خلقوها وتعاونوا معها، فإن حاجة حرس النظام الاقتصاديين إلى إعادة جدولة حصصهم وحصرها ضمن أفراد محددين، وإضفاء المظهر الشرعي على أعمالهم يفترض إزاحة بعض المهربين من الواجهة وتذويبهم ضمن أعمالهم المقوننة، أو تغيير أدوارهم أو حتى ولاءاتهم.
هذا التوجه تؤكده قرارات سلطة النظام التي باتت تعمل بشكل مكشوف لدي حيتانها وشركاتهم القابضة، وتصدر قراراتها تبعا لمصالحهم الخاصة، كما في قرار منع تراخيص جديدة لمعامل الحديد، وتوجيه إنذار لبعضها الآخر، في مسعى لجعل محمد حمشو الذي يعمل كواجهة لماهر الأسد والفرقة الرابعة المسيطر الحصري على صناعة وتجارة الحديد، ومن المعروف أن الفرقة المذكورة تملك حصرية تجارة الخردة والسكراب التي رفع النظام أسعارها في الفترة الماضية من 30 ألف إلى 75 ألف للطن الواحد.
ضمن هذا الإطار تأتي حملة الجمارك المسعورة التي تهدف في النهاية إلى إحكام رجال النظام على كامل المفاصل الاقتصادية وتطويبها لهم ضمن التقاسم "المافيوي" المتعارف عليه بينهم، كما يأتي ضمن هذا الإطار، وتأكيدا له، إعلان خميس عن اجتماع أسبوعي له مع المستثمرين ورجال الأعمال، للتشاور والتنسيق بينهم، بما يشير إلى خضوع حكومة النظام بشكل تام لتوجهات ومصالح المافيا الاقتصادية القديمة الحديثة، بعيدا عن هم المواطن في تأمين الخبز والغاز والتدفئة وباقي مستلزمات البقاء على قيد الحياة.