منذ أن استنقعت الحالة السورية شاع بين جمهور الثورة توجيه اللوم إلى متصدّريها في المجالات السياسية والعسكرية والخدمية بوصفهم المسؤولين الأساسيين عما آلت إليه أمورها من هوانٍ على الدول وتشرذم في القوى وفساد وفوضى. وجرى النظر إلى هؤلاء، بمختلف اختصاصاتهم الحقيقية أو المزعومة، وكأنهم أعضاء شيطانيون في نادٍ شرير متضامن قائم على تبادل المصالح. في حين تستقر، في الكفة الأخرى من الميزان، أكثرية قليلة الحيلة من البسطاء، والفقراء والمهجرين وساكني الخيام، منتظري سلة الإغاثة وتبرّع محسن كريم لإجراء عملية جراحية طارئة.
والحال أن تشكّل هذه «النخب»، التي تخطت رقاب الجميع لتزاحم على الصفين الأولين، جرى بأوضح درجات الانتخاب الطبيعي. لقد مرّت سنوات عجاف كثيرة على ذلك ولكن لا مفر من التذكير ببوادر تجمع نوى التمثيل السياسي الذي استقر أولاً على «المجلس الوطني» ثم «الائتلاف»، وكذلك بتكوين المجموعات المقاتلة الصغيرة التي تبلورت في كتائب ثم ألوية حتى وصلت إلى يافطة «الجيش الوطني» العامة بعد طريق متعرج طويل. وقل مثل ذلك عن التنسيقيات الثورية التي دفعت بممثليها صعوداً، والمجالس المحلية، والتجمعات المهنية الحرة، ومنظمات المجتمع المدني.
ما يقال عن دور الأيادي الخارجية في تقديم هذا وتهميش ذاك فقد حصل بالتدريج وفي مرحلة لاحقة، والأهم أنه اختار حلفاءه، أو ممثليه أو عملاءه، من جوقة هؤلاء المتصدّرين فاعتمدهم
تفيد خلاصة هذه التجارب، لمن كان له عقل أو ألقى الذاكرة وهو شهيد، أن من نشتمهم اليوم كأبناء شبكة مغلقة من مراكز القوى إنما طلعوا من حارات الثورة المختلفة في السياسة والعسكرة وسواهما، ومن داخل البلد وخارجه. وقد رفعتهم إرادات شعبية متفائلة أو ظنذٌ حسَنٌ يتوّسم فيهم الإخلاص والخبرة بناء على انطباعات أولية. أما ما يقال عن دور الأيادي الخارجية في تقديم هذا وتهميش ذاك فقد حصل بالتدريج وفي مرحلة لاحقة، والأهم أنه اختار حلفاءه، أو ممثليه أو عملاءه، من جوقة هؤلاء المتصدّرين فاعتمدهم.
كما تدل نقطة أخرى على أن المشكلة أشمل من أن تُحصَر في الزعامات وأمراء الحرب والممثلين السياسيين. وهي أن مجتمع «النخبة» هذا شهد تقلبات دراماتيكية في الاثني عشر عاماً الماضية؛ فتحوّل قادة عسكريون، كانوا ذات يوم ملء السمع والبصر والعناصر، إلى لاجئين يخافون أن يتخطفهم الناس والقضاء الأوروبي بولايته العامة، وأحيل على التقاعد الكيفي «سياسيون» صار أكبر همهم أن يكتبوا مذكراتهم ليقاوموا ضجر الشيخوخة وبرد المنفى. وخلال هذه الانقلابات والإزاحات لم يلحظ المتابعون والناس عموماً حدوث تحولات ذات بال.
لا نعرف من الذي أشاع في العالم أولاً فكرة تقسيم الناس إلى نخبة ماكرة ومخادعة ومتلاعبة بالمبادئ، تتألف من السياسيين وكبار رجال الدين والإعلام والمال والقادة العسكريين، في مقابل أكثرية من البسطاء الطيبين الذين يقعون في أحابيل الطبقة الأولى على الدوام وبشكل متنوع الأساليب مختلف الأيديولوجيات. قد تكون هذه النظرة صحيحة في العصور القديمة والوسطى، عندما كان الحكام سلالات عريقة والطبقات مستقرة والنخب نوادي مغلقة أو شبه حصرية. أما في عهد الديمقراطيات، ثم في «عصر الجماهير» من حرفيي المدن وفلاحي الأرياف وأبنائهم، فقد صار طريق الصعود متاحاً على نطاق واسع، سواء بالطرق المشروعة كالتعليم والأحزاب والبرلمانات، أو قسراً عبر الانقلابات والالتحاق بالديكتاتوريات. ومن هنا صار يمكن النظر إلى الأنظمة المختلفة بوصفها تمثيلات لهذا الجناح الواسع أو ذاك من مجتمعاتها.
في الشأن السوري سيفيدنا أن نقرأ سلطات الأمر الواقع القائمة، بدءاً من بشار الأسد في دمشق إلى قائد أصغر فصيل، على أنها إفرازات قوى ترى فيها مصالحها واستمرارها وأمنها. وبهذا المعنى ليست هناك «طغمة» تتحكم برقاب الناس إلا باستخدام جزء منهم موالٍ لها أو متواطئ معها بدافع الطمع لا الخوف. وقد بيّنت الثورة أن قابلياتنا للوقوع في جاذبية التجبّر عالية، بدليل العدد الوافر والمتبدل من المستبدين الصغار وأعوانهم ومحاسيبهم.
هل يعني هذا أننا «فاسدون بالفطرة» وأنه لم يكن علينا أن نرفع إصبعاً في وجه الذل والظلم، كما يقول النظام؟ لا بالتأكيد. فقد ولّى عهد الإيمان بالسمات الجوهرانية للشعوب والجماعات، ومهما كان الخراب فينا عميقاً فإن مجرد الثورة عليه في عام 2011 علامة كافية على بداية مسيرة الألف خطوة لإصلاحه.
إن لم نعترف بأن «النخب» المرتهنة والصغيرة والطاغية التي «تمثلنا» هي منّا وفينا سنبقى في هذا التيه الذي يغذّيه رمي المسؤولية على الآخرين والتبرئة الطفولية للذات الفردية.
يستلزم هذا عوامل كثيرة في مجالات عدة. غير أن مِن أُسسها أن تكفَّ بعضُ الأصوات الحسَنة النيّة التي تتصدر مشهد التحليل السياسي عن هدهدة أوهام الناس عن أنفسهم، خاصة أنّ أوّل من يعرف مدى زيف هذه الأساطير حول البسطاء الطيبين، «أولاد البلد»، هم البسطاء المزعومون أنفسهم، متنافسين بضراوة على الموارد القليلة المتاحة، متنقلين من خيمة هذا المتنفذ إلى دبكة ذاك من دون اضطرار، ملتحفين بالفقر الذي رفعته تيارات ثقافية عديدة إلى منبع للفضائل رغم ما يتركه على النفس المحرومة من آثار سلبية غائرة قد يحتاج التخلص منها إلى أكثر من جيل يتمتع بالوفرة.
مشكلتنا أخلاقية بدرجة أولى، أو بواحدة من الدرجات الأولى على الأقل. وعنها تتفرع مشكلات سياسية وقانونية ومجتمعية. وإن لم نعترف بأن «النخب» المرتهنة والصغيرة والطاغية التي «تمثلنا» هي منّا وفينا سنبقى في هذا التيه الذي يغذّيه رمي المسؤولية على الآخرين والتبرئة الطفولية للذات الفردية التي تفاخر بأنها لم تتسخ، ولكن فقط لأنها لم تدخل في تجربة ولم تصارع الشرير.