شهدت الآونة الأخيرة تصريحات متعددة وواضحة من قبل مسؤولي الصف الأول في السياسة التركية، تعبر عن عزم الإدارة السياسية في أنقرة على التقارب تجاه مصر رغم جمود المباحثات الاستكشافية بين وفدي البلدين، لكن هذه التصريحات لم تقابل بنفس السوية والحماس من قبل الطرف المصري.
وتتعدد التساؤلات حول هذا الأمر وتحليلاته فرغم حصول انفراجة نوعاً ما بين الطرفين (قبل عامين) بدأت الملفات العالقة بينهما تصبح أداة تواصل مثل الملف الليبي وملف شرق المتوسط وما يتضمنه من مسائل متعددة كالحدود البحرية والطاقة وغيرها، وكانت سبباً لانتقال التواصل من المؤسسات الاستخباراتية بين البلدين إلى المستوى السياسي، ويمكن اعتبار ذلك خطوة إيجابية جيدة نحو الأمام، وحتى الحرب الروسية الأوكرانية وما تلاها من تبعات وتغيرات في الخريطة السياسية لكثير من الدول العظمى في العالم كان لهذه الحرب دور في إعادة قراءة المشهد السياسي في المنطقة ومع ذلك بقيت مصر هادئة في ردها الدبلوماسي لأنقرة.
بعد كل هذا الحشد الإعلامي ضد تركيا من الصعب فتح باب التصريحات على مصراعيه، مما سيشكل تناقضاً في أقوال حكومة القاهرة أمام مؤيديها وشعبها
لعل اختلاف التكتيك السياسي والإعلامي لكلا البلدين له دور في هذه المعادلة المتناقضة بين الطرفين، فأنقرة تتبع سياسة الإظهار والعلن عن خطواتها تجاه مصر وذلك لاعتبارات داخلية من مكاسب على الصعيد الحزبي والبرلماني وحتى الانتخابي، وحتى لا يقال إن الحكومة لم تتبع سياستها التي أعلنت عنها وهي (تكثير الأصدقاء وتقليل الخصوم) وأما في الاعتبار الخارجي فهي تظهر للعالم أنها جادة في هذا التقارب وربما أيضاً تحشر مصر إعلامياً أمام العالم بأن تركيا صادقة وتمد يدها نحو الأشقاء في مصر وتنتظر منهم الرد. أما التكتيك المصري فيعتمد الهدوء والكتمان في كثير من قضاياه الخارجية وخاصة في الملف التركي فبعد كل هذا الحشد الإعلامي ضد تركيا من الصعب فتح باب التصريحات على مصراعيه، مما سيشكل تناقضا في أقوال حكومة القاهرة أمام مؤيديها وشعبها في الداخل المصري ولذلك سياسة الهدوء والخطوة بخطوة هي الأرجح في هذه الحالة.
التكتل السياسي القوي الذي استطاعت القاهرة تشكيله (من أبو ظبي والرياض وتل أبيب ونيقوسيا وأثينا وباريس) هذا التكتل يثقل كاهل الخارجية المصرية للتقارب نحو أنقرة، وخاصة علاقتها القوية مع المملكة العربية السعودية واليونان وهنا لا يمكن إنكار نجاح الدبلوماسية التركية في اختراق هذا التكتل في إعادة علاقتها بشكل قوي مع دولة الإمارات العربية المتحدة وتحسن العلاقات مع إسرائيل واليونان وحتى فرنسا نتيجة المستجد الخطير وهو الحرب الروسية الأوكرانية، مما سيجعل حسابات مصر في هذا التكتل ومنتدى (منظمة) شرق المتوسط أكثر تعقيداً وخاصة أن المصالح الاقتصادية سوف تدلي بدلوها، فالغرب الآن يريد الطاقة في شرق المتوسط بعد فرضه عقوبات عل روسيا، ويريد التخلص من تبعات تلك العقوبات عبر زيادة وارداته وتنوع مصادر الطاقة، ومن أجل تلك المصالح زار رئيس وزراء اليونان الرئيس التركي وكذلك فعل الرئيس الإسرائيلي ولم يتبق سوى مصر من أجل إكمال تلك المشاريع وإنجاحها، وفي حال توافقت تلك العواصم على إنشاء مشاريع الطاقة من الصعب أن لا تنضم مصر إليهم وخاصة أن لها مصلحة اقتصادية كبيرة بعد تفاقم المشكلات الاقتصادية بسبب جائحة كورنا لمصر وغيرها من دول العالم.
الحسابات الدقيقة والمصالح الاقتصادية والمنفعة العليا تلك هي أسس التحركات التي تقوم عليها كل الدول الكبيرة ذات الفاعلية الإقليمية
ويمكننا اعتبار الولايات المتحدة الأميركية محوراً ثالثاً مهماً في مسألة التقارب بين البلدين، فواشطن يبدو أنها تريد أن تنتهي الخلافات بين دول شرق الأوسط فالأوضاع العالمية لم تعد تسمح لتلك الخلافات وتحديداً الآن بعد الحرب الروسية الأوكرانية، والمعروف أن مصر لديها تعاون وثيق وكبير مع واشطن وتعتمد على الأخيرة في كثير من مسائل السلاح وغيرها من معونات اقتصادية وقضايا سياسية أضف إلى ذلك ملف سد النهضة الذي يقلق مصر كثيراً وتحتاج إلى كثيرا من الدعم من قبل الدول الفاعلة لضمان أمنها المائي، لذلك من مصلحتها تقليل الملفات الخلافية مع دول المنطقة وتحسين الأجواء السياسية لكسب معركة المياه مع أثيوبيا التي هي الأخرى لها علاقات قوية جيدة ومفيدة مع الدول الفاعلة في المنطقة ومع الولايات المتحدة الأميركية مما يستدعي من القاهرة دراسة حساباتها السياسية بشكل دقيق، والاستفادة من الفرص السياسية السانحة الآن ومنها تركيا التي تسعى جاهدة لإعادة علاقاتها مع مصر، فما تكسبه في الوئام أضعاف ما تكسبه في الخصام ولا أظن أن مصر في وارد أن تكون على خلاف مع الولايات المتحدة الأميركية في هذا الملف وخاصة أنها تعرضت لضغوطات من قبل الأخيرة لأخذ موقف ضد روسيا بعد إعلانها الحرب على أوكرانيا.
الحسابات الدقيقة والمصالح الاقتصادية والمنفعة العليا تلك هي أسس التحركات التي تقوم عليها كل الدول الكبيرة ذات الفاعلية الإقليمية، ومصر من تلك الدول فهي رغم الخلافات السياسية بينها وبين تركيا إلا أن التبادل التجاري بين البلدين بقي قائماً وربما يزداد في حال تحسنت الأمور السياسية، ومع كل ما سبق هل ترفض مصر التقارب مع تركيا؟