رغم كل الدعوات التي أطلقها المسؤولون الأتراك من أجل التطبيع أو إعادة العلاقات مع النظام السوري، لم تلقَ هذه الدعوات آذاناً مصغية.
يبدو أن هذا الأمر ليس من أولويات النظام السوري في الوقت الحالي، وخاصة بعد بدء إسرائيل حربها على حزب الله، وإدراك النظام السوري أن المجتمع الدولي قد يحتاج إليه في هذه الأحداث. وما زيارة مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي إلى دمشق إلا دليل على ذلك.
ولعل سياسة النأي بالنفس التي ينتهجها النظام السوري في خضم الأحداث الجارية قد شملت تركيا، التي هي في خلاف مع إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية بسبب الحرب على غزة.
فكرة التلويح بالضغط العسكري قد تكون الأكثر نجاعة في ظل الظروف الحالية، فالمنطقة كلها في حالة توتر سياسي وعسكري.
لكن هذا الأمر يبدو أنه لم يرضِ أنقرة، فقد طال الانتظار وتسارعت الأحداث. ولعلها فضّلت التلويح بالورقة التي يتمسك بها النظام السوري، وهي (انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية)، فقامت بتعزيز هذا الوجود عبر زيارة وفد عسكري رفيع المستوى قام بها قائد القوات البرية في الجيش التركي سلجوق بيرقدار أوغلو، وعدد من القادة العسكريين الآخرين، إلى قاعدة عسكرية في منطقة عمليات "غصن الزيتون" في مدينة عفرين. هناك أكدوا أن القوات العسكرية التركية في سوريا ليست في حالة انسحاب، بل في حالة استعداد لأي مستجدات عسكرية قد تؤثر في المنطقة، خاصة بعد الأنباء عن سحب حزب الله كثيراً من قواته من سوريا، واستهداف إسرائيل للميليشيات الإيرانية الموجودة على الأراضي السورية، مما قد يسبب فراغاً في حال انسحبت تلك الميليشيات من بعض مناطق الشمال الغربي لسوريا.
يمكن وضع هذه الزيارة في تفسير ثانٍ، وخاصة بعد الأحاديث المتداولة في الآونة الأخيرة عن تحضيرات عسكرية لمختلف الأطراف المحلية في الشمال الغربي السوري، استعداداً لأي صدام عسكري، سواء كان هذا الأمر صحيحاً وجاداً أم لا. وكأن لسان حال أنقرة يقول إنها مستعدة لهذا الأمر أيضاً، في حال لم يرغب النظام بالتجاوب مع المقترحات التركية، خاصة أن فكرة التقارب كانت مدعومة سابقاً من موسكو. لكن تصريحات سفير النظام السوري لدى روسيا، بشار الجعفري، عن عدم إمكانية لقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع رئيس النظام السوري بشار الأسد (على هامش قمة مجموعة بريكس التي ستقام في موسكو) ما لم تقم أنقرة بتلبية متطلبات النظام في دمشق فيما يتعلق بالانسحاب العسكري التركي من الشمال السوري، هي بمثابة شبه تغير في الموقف الروسي الذي دعم هذا التقارب سابقاً. فالوضع القائم في المنطقة ربما غيّر الحسابات الروسية، إضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي لتركيا. علاوة على ذلك، هناك فريق سياسي في تركيا يرغب بالتقارب مع دمشق بأي طريقة كانت ودون شروط.
تركيا متضررة ولا يمكنها التخلي عن مواقعها في سوريا. المنطقة غير واضحة التوجه، ولا يمكن انتظار المجهول دون الاستعدادات الميدانية.
فكرة التلويح بالضغط العسكري قد تكون الأكثر نجاعة في ظل الظروف الحالية، فالمنطقة كلها في حالة توتر سياسي وعسكري، وما تقوم به إسرائيل من أعمال عسكرية أشبه ما يكون بإعادة رسم خريطة توازنات في المنطقة بما يتوافق مع مصالحها والمصالح الأمريكية.
وقد تستفيد بعض الدول العربية من هذه الأحداث، لكن بكل تأكيد لن تكون تركيا مستفيدة من تلك التشكيلات المستجدة. بل إن المصالح التركية والإسرائيلية في شرق المتوسط على نقيض تام، وهذا ما جعل تركيا تعيد حساباتها في سوريا، وتحاول مراراً تحفيز النظام السوري على فتح باب الحوار معها، مستفيدة من تحسن علاقاتها مع العراق ودول الخليج العربية الراغبة هي الأخرى في هذا التقارب.
لكن في ظل البرود السياسي للنظام السوري تجاه المبادرات التركية، أعادت أنقرة التفكير في الضغط الميداني، والذي قد يكون تأثيره أكبر. شروط المفاوضات بين الطرفين مرتبطة بمدى استمرارية الحرب القائمة بين إسرائيل وحزب الله والمناوشات مع إيران.
فكلما طال أمدها، تراجع الحماس التركي للتطبيع مع النظام، الذي يتردد في هذا التقارب حتى لا يخسر حليفه الإيراني بالكامل. فسياسة النأي بالنفس أظهرت الخلاف بين الطرفين، وقد يزداد الوضع سوءاً في حال إعادة العلاقات مع تركيا، وهو الأمر الذي كانت إيران ترفضه سابقاً.
إضافة إلى ذلك، هناك الطرف الثالث وهو "قسد"، الذي ينظر من بعيد ويعلم أنه كلما زادت الأمور سوءاً، كان ذلك في مصلحته، إذ يعد العصا البشرية للولايات المتحدة الأميركية على الأرض السورية.
وفي كلا الحالتين، فإن تركيا متضررة ولا يمكنها التخلي عن مواقعها في سوريا. المنطقة غير واضحة التوجه، ولا يمكن انتظار المجهول دون الاستعدادات الميدانية، إضافة إلى الاستعدادات السياسية. فالمنطقة كلها في توتر خطير من غزة حتى الأناضول.