زعيم حزب العمال الكردستاني، حين كان في سوريا (1979-1998)، وتحت سمع وبصر نظام الأسد الأب، وبدعم منه يشنّ الحرب على تركيا، كان عبدالله أوجلان يكيل المدائح لنظام الأسد ويعتبرهُ نظاماً مقاوماً للإمبرياليّة، وداعماً لحركات التحرر الوطني، ويحذّر من تركيا الأتاتوركيّة التي تريد ابتلاع العالم العربي وسوريا، وأن الأكراد كانوا دوماً الدرع والترس الذي يحمي العرب، ويدعو إلى دعم حزبه باعتباره ذلك الدرع والترس! أبعد من ذلك، كان أوجلان يعتبر الأسد صديقاً للشعب الكردي، رغم أن نظامه لم يكن يعترف بشيء اسمه أكراد في سوريا! وبل يقمع ويمنع الثقافة الكرديّة، ويلاحق النشطاء الكرد المعارضين لنظامه! واستمر أوجلان يشيد بالأسد الأب ونظامه في تصريحاته وأدبيات الحزب وجريدته المركزيّة، حتى بعد خروجه من دمشق، على خلفيّة توقع النظام السوري اتفاقيّة أضنة الأمنيّة مع تركيا! وسبق أن تناولتُ هذه التفاصيل في مقالات ودراسات، بشكل موثّق، ما كان يثير غضب حنق وهستيريا محازبي "الاتحاد الديمقراطي - PYD".
وبعد أن أصبح أوجلان تحت حماية الدولة التركيّة، عقب اختطافه سنة 1999 من نيروبي وإيداعه سجن جزيرة إميرالي، طرأ تحوّل جذري على أوجلان، حتّى قبل أن تحطّ الطائرة التي تنقله من كينيا على الأراضي التركيّة، حيث قال: إنه "يريد خدمة تركيا" وأن "جدّته تركيّة".
بعد أن أصبح أوجلان تحت حماية الدولة التركيّة، عقب اختطافه سنة 1999 من نيروبي وإيداعه سجن جزيرة إميرالي، طرأ تحوّل جذري على أوجلان
وبعد محاكمته ولقاءاته بوفود الحكومة وهيئة الأركان على زمن حكومة بلند أجاويد (1999-2002). وبالفعل، خطى أوجلان خطوات عمليّة في إطار تفكيك منظمته الحزبيّة، على الصعيد الآيديولوجي العقائدي، عبر تغيير دستور الحزب ومطالبه وجعله بالضد وعلى نقيض من منطلقاته النظريّة التي تأسس عليها الحزب سنة 1978؛ "كردستان مستعمرة، ويجب تحريرها وتوحيدها، تحت نظام اشتراكي". إذ صار الحزب يطالب بشكل هلامي من الحكم والإدارة، أقرب إلى الحكم الذاتي، وبل أدنى منه أيضاً، إلى جانب شيطنة الدولة القوميّة والفكر القومي عموماً والكردي منه على وجه الخصوص، على انه رجعي، متخلّف، وسبب الكوارث والحروب! وصار أوجلان يطالب الحكومة التركيّة بالإسراع في حل القضيّة الكرديّة، قبل خروج الحزب من تحت سيطرته، وخضوعه تحت سيطرة قوى أجنبيّة، إقليميّة (إيران) ودوليّة (أمريكا) خشية أن تقوم تلك القوى باستخدام الحزب ضد تركيا! ولكن لم تكترث الحكومات التركيّة المتعاقبة (حكومات العدالة والتنمية) بأي شيء من نداءات ومناشدات عبدالله اوجلان.
المقصد مما سلف أن أوجلان، ربما يكون على الصعيد السياسي، براغماتي، ويريد يخدمة شعبه وقضيّته، سواء أكان في ظلّ نظام الأسد، أو في ظلّ أي نظام آخر، ولكن على الصعيد الأخلاقي، والسياسة الأخلاقيّة التي صدّع رؤوس العالمين بها، في كتبه وتصريحاته، أوجلان وحزبه، هما أكثر من مارس السياسة اللاخلاقية والانتهازيّة لأبعد الحدود، تجاوز فيها أوجلان حتّى انتهازيّة أمام جلال طالباني، الزعيم الكردي الراحل، والرئيس العراقي السابق! وظهر ذلك جليّاً في السنوات الأخيرة، بعد اندلاع الثورة السوريّة على نظام الأسد الابن.
مناسبة ما تمّ ذكره أعلاه، هو الترحيب بتصريحات أوجلان الأخيرة التي يدعو فيها إلى التهدئة ونبذ لغة العنف والسلاح والعسكرة، ويدعو إلى حل المشاكل في تركيا والمنطقة بالعقل والقوة الناعمة والوسائل الحضارية والديمقراطية والثقافية.
شخصيّاً، أي تصريح يدعو للتهدئة والحوار ولغة العقل، كائن من كان مطلقه، سأكون معه وأدعمه وأرحّب، بصرف النظر عن الاختلاف والاتفاق مع صاحب التصريح. سأكون مع هكذا مواقف وتصريحات، مع المحافظة على حق النقد والمراجعة. ذلك أن الحوار والسلام والحل الديمقراطي هو مطلب ومخرج حضاري لأزمات تركيا وكل بلدان المنطقة، على أن يكون حواراً من أجل الحلّ، وليس حواراً من أجل الحوار يفضي إلى إعادة تدوير وانتاج المشاكل والأزمات بصيغ أخرى.
وعليه، المشكلة ليست في تصريحات أوجلان، بل في تفسيرات وتأويلات الأوجلانيين، وفي موقف حزبه؛ العمال الكردستاني، من تصريحات زعيمه. ذلك أن بيان الحزب الذي أعقب بيان أوجلان، يعطي انطباعاً وكأنّ الحزب لم يكن راضياً عن زيارة المحاميين لأوجلان، ولم يكن راضياً عمّا تضمنه بيان أوجلان من الدعوة غير المباشرة لوقف الاضراب عن الطعام في السجون، أو أقلّه ألاَّ يلحق المضربون الأذى والخطورة بحياتهم.
المشكلة ليست في تصريحات أوجلان، بل في تفسيرات وتأويلات الأوجلانيين، وفي موقف حزبه؛ العمال الكردستاني
بينما بيان الحزب الذي شكك في النوايا التركيّة وشكك في السماح الحكومة التركيّة بزيارة المحامين لأوجلان، وأن الأسباب والمطالب التي بموجبها أضرب سجناء الحزب عن الطعام ما زالت قائمة، وأن خطاب أوجلان في بيانه كان موجّها للدولة والحكومة وحسب، وليس موجّهاً للعمال الكردستاني. وعليه، بيان العمال الكردستاني، أكّد مرّة أخرى، أن حزب (PKK) يعاني من انقسام غير معلن، وأن الرأس الحقيقي للحزب هو جميل بايك، ولم يعد عبدالله إوجلان.
وبالتالي، إذا لم تقم الحكومة التركيّة بإجراء إسعافي عاجل، وذلك بالافراج عن أوجلان، أو تخفيف الضغط عليه، ووضعه في الإقامة الجبريّة، وإفساح المجال أمامه أكثر، قبل أن ينتهي تأثيره نهائيّاً عن العمال الكردستاني!
على ضوء ما سلف، لا يمكنني نفي سعادتي ببيان أوجلان الأخير، بخاصّة الدعوة إلى نبذ العنف والكراهية والسلاح وأساليب الحرب والقتل، وضرورة مراعاة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" حساسيّات تركيا في سوريا. وأسباب سعادتي عدّة، منها:
أولاً: هذا الرأي والموقف الذي طالب به أوجلان في مطلع أيّار 2019، ليس بجديد. إذ طالبت به منذ 2011، (ومعي أشخاص كُثُر)، وذلك بعدم استفزاز تركيا، ورفض سلوكيّات وممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) وكأنّه حزبٌ من احزاب المعارضة التركيّة وليس حزباً كرديّاً سوريّاً! ورفض الإكثار من رفع صور أوجلان، واعتبار الحزب سلطته وإدارته "الذاتيّة - الديمقراطيّة" انتصاراً على تركيا...، ورفض كل مفردات وعبارات الأسطوانة الصدئة المشروخة المهترئة التي لطالما كررها الحزب عن انتصاراته الكونيّة على المشروع الأردوغاني في سوريا وتركيا وغواتيمالا ونيكاراغوا والسلفادور والمريخ!
ثانياً: تصريح أوجلان، عرّى وفضح حزبه وفرع حزبه في سوريا، لجهة أن الزعيم غير راضٍ عن أداء الحزب، وأن أوجلان أكثر ميلاً لمصلحة ومنفعة تركيا في سوريا، بينما الحزب متخندق في مكان آخر، بالضدّ من المصالح التركيّة. وهذا التصريح يؤكد ويدعم الموقف التركي على أن (PKK) و"قسد" هما اللذان يتحرّشان بتركيا، ولا يراعيان حساسيّاتها! وأن تركيا هي المعتدى عليها، وليس العكس!
ثالثاً: هذا التصريح، عرّى أوجلان نفسه، لجهة أنه لم يتحدّث بكلمة واحدة عن الاحتلال التركي في عفرين. ولم يطالب بمقاومة هذا الاحتلال. وسكت تماماً عن هذا الأمر. ما يعني أنه يعتبر "المقاومة" التي يتحدّث عنها حزبه في عفرين، هي بالضد من موقف وقناعة أوجلان الداعية إلى مراعاة حساسيّات تركيا في سوريا، وعفرين جزء من تلك الحساسيّات.
والسبب الأخير الذي جعلني سعيداً بتصريحات أوجلان، أنه وضع محازبيه في "حيص بيص" من أمرهم، وجعلهم منهمكين في تفسير جودة طعم التصريح؟ والعبرة والحكمة الأوجلانيّة الكونيّة في إطلاقه؟ ولماذا الآن بالذات؟ وبهذه الطريقة؟ وصارت قرائحهم التحليليّة تتفتّق على بدائع الفانتازيا والخيال السياسي الخصيب في فنون التبرير لبيان أوجلان. ذلك أنه لو شخص آخر طالب بما طالب به أوجلان، لاعتبروه أردوغانيّاً وعميلاً ومشتركاً في المؤامرة الكونيّة على الحزب والشعب والقضيّة الكرديّة! وعليه وضع أوجلان محازبيه أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إمّا تخوين اوجلان وإعلان الطلاق منه! أو الاجتهاد في تفسير جودة ونكهة وعظمة وعبقرية كلام اوجلان، وخداع الذات على أن الزعيم يناور ويخدع تركيا، ولا يخدم الاجندة التركيّة ولا يدافع عنها في سوريا!
في شهر أيّار الماضي 2018، كتبت منشوراً على صفحتي في الفيسبوك، بعنوان "أوجلان الأردوغاني"، ذكرت فيه: هناك فجوة بين أوجلان وقيادة حزبه بدأت تظهر وتتسع. وصار أوجلان أقرب إلى العدالة والتنمية منه إلى حزب العمال الكردستاني وقيادته في قنديل. وذكرت أن حزب الشعوب الديمقراطي يعرف ويدرك مدى فداحة وكارثية الكشف عن هذه الهوّة بين أوجلان وحزبه، لأن هذا الخلاف بدأ يتسرّب داخل "الشعوب الديمقراطي" أيضاً، بين جناح ضعيف موالٍ لأوجلان وجناح قوي ومتطرّف، يتبع قيادة الحزب في قنديل. ولو تم الإعلان عن رفض قنديل أوامر أوجلان، سيفتضح الأمر على انه انشقاق بين الحزب وزعيمه. وإن الحزب بات يعصي أوامر زعيمه، في وقت عليه الآن أن ينفّذها بالحرف الواحد، كما كان الحزب ملتزماً بأوامر الزعيم في سنوات 1999-2013 وصار ينفذها بالحرف الواحد، في وقت لم يكن مجبراً على تنفيذ كل ما يصدر عن اوجلان!
هذا الرأي كان يزعج أنصار الكردستاني وأفرعه، وخاصة حزب الاتحاد الديمقراطي، ما دفعهم إلى رميي بتهم، ما أنزل الله بها من سلطان! وهدفهم من وراء ذلك، أن تبقى القواعد الجماهيريّة، والرأي العام الكردي والشرق أوسطي...، جاهلة بما يجري داخل الحزب، وألا تكون صورة زعيمهم اوجلان وصور قيادات الحزب في جبال قنديل عرضة للشك والشبهة وأن هناك صراع بين الزعيم ورفاقه الذين يمسكون بخناق وقرار الحزب.
تصريح أوجلان، عرّى وفضح حزبه وفرع حزبه في سوريا، لجهة أن الزعيم غير راضٍ عن أداء الحزب، وأن أوجلان أكثر ميلاً لمصلحة ومنفعة تركيا في سوريا
بعد مضي 15 شهراً على اعتقاله، عرض الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي(HDP) صلاح الدين دميرتاش أول مرّة لاستجوابه أمام المحكمة الجنائيّة في منطقة سينجان التابعة للعاصمة التركيّة أنقرة، وذلك يوم 14/2/2018، وبعد أن ذكر الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي رفضه للمحاكمة ووصفه لها أنها "غير دستوريّة، بل سياسيّة" وأن رفع الحصانة عنه وعن رفاقه البرلمانيين الكرد، هو أيضاً "إجراء غير دستوري"، وأن لائحة الاتهامات أيضاً سياسيّة، وفي سياق إدانته للحكومة التركيّة ومحاولة ممارسة الضغط على حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) أشار إلى أن الضغوط على حزبه وصل بالحكومة على أوجلان كي يضغط عليهم! ولكنهم رفضوا كل هذه الضغوط. وأنه هذا هو السبب الحقيقي لهذه المحكمة. وبالتالي، السبب سياسي وليس جنائي او خرق للقانون. وبحسب دميرتاش أنه في الاستفتاء على تعديل الدستور سنة 2010، و2014 والانتخابات الرئاسية وانتخابات 7 يونيو السابقة، تعرضوا لضغوط مماثلة. وذكر دميرتاش أمام المحكمة أنه في استفتاء 2010، "جلب لنا وزير في الحكومة، رسالة بخط يد عبد الله أوجلان وتوقيعه أنه يدلي بـ{نعم} للاستفتاء. للضغط علينا، عبر أوجلان. لكننا قاطعنا الاستفتاء، ولم نقل: نعم أو لا!". ويضيف دميرتاش أن رسالة أوجلان لهم، تزامنت مع المفاوضات السرية التي كانت تجريها المخابرات التركيّة مع العمال الكردستاني في العاصمة النيرويجية أوسلو. وقال أيضاً: "في الانتخابات الرئاسية 2014، كنت مرشّح الحزب في مواجهة اردوغان، كانت هناك أيضاً وقتذاك مفاوضات مع سجن إيمرالي (الذي يوجد فيه اوجلان منذ 1999)، وقتها أيضاً، طلب منّي أوجلان سحب ترشيحي لصالح أردوغان. ولدي شهود هنا في قاعة المحكمة، بمن فيهم وفد التفاوض بين الحكومة وأوجلان وقنديل". وأضاف ديمرتاش أن كل ذلك كان يتم في إطار احتلال أردوغان السياسي لتركيا، وأنه كان يمارس الضغط على إيمرالي، حتى لا ندخل انتخابات 7 يونيو كطرف".
بعد مضي سنة على ذلك المنشور، يأتي بيان أوجلان، وبيان قيادة الحزب المعقّب عليه، ليؤكّدا الفجوة والخلاف الموجود بين العمال الكردستاني وزعيمه. ويبدو أن بيان أوجلان وبيان الحزب (المضاد) له، يشيان أن الحكومة التركيّة على وشك فتح صفحة حوار مع أوجلان والجناح الموالي له ضمن حزب الشعوب الديمقراطي، بمعزل عن جميل بايك وفريقه وجناحه الذي يقود العمال الكردستاني حاليّاً.
هذا الاحتمال، إن كان صحيحاً، سيحرج الحزب وبايك، ويضعهما أمام خيارين؛ إمّا الانخراط في أيّة تسويّة سلميّة بشكل كامل وغير مشروط، أو نسف هذه المفاوضات أيضاً، والدخول في صدام مع أوجلان ومن معه في حزب الشعوب الديمقراطي. بخاصّة أن بيان العمال الكردستاني المذكور آنفاً، تضمّن إشارات تقلل من أهميّة بيان أوجلان، على أنه ليس مؤشّر على وجود تفاهم أو مفاوضات أو أية صفقة بين الحكومة وأوجلان! في حين أن بيان أوجلان ألمح إلى مواصلة مرحلة 2013 (المفاوضات) وأنهم "يمرّون بمرحلة تاريخيّة هامّة"!