بالنظر إلى مفهوم معاداة السامية ومقارنة الظاهرة التي أنتجته مع معاداة الصهيونية التي سحبت المفهوم من النسق التاريخي للظاهرة الأصلية، نجد أن الفرق هائل بين الظاهرتين والمفهومين من حيث التاريخ والجغرافيا والنسق الاجتماعي، فمفهوم معاداة السامية أُفرغ قسراً من دلالاته الأولى ليحمل معنى جديدا ينحرف تماما، عن معناه الأصلي. فالصهيونية حاولت أن تنزع ذلك المفهوم من تاريخه وتاريخيته وتتقمص عباءته عنوةً لتضفي على نفسها البراءة والمظلومية وكل الميزات التي أنتجت المفهوم الأصلي وهو ما لا يستوي مع أي قراءة متأنية لتاريخ نشوء مفهوم معاداة السامية. فمفهوم معاداة السامية كما يروج له اليوم من إسرائيل والمرتبطين معها بمصالح اقتصادية وجيوسياسية لم يعد يحمل دلالات منشئه وما كان يشير إليه منذ أن خرج إلى الوجود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكل التحليلات التي تناولت هذا المفهوم ومعناه كانت بعيدة كل البعد عما أصبح يحمله أو ما أُريد له أن يحمله هذه الأيام من سياسة مثقلة بعقدة ذنب أوروبية تحاول إزاحة المفهوم عن دلالاته الأولى وتحميله دلالات أخرى لكن بلبوس المفهوم الأصلي.
ولتوضيح الصورة عن المفهوم الأصلي لمعاداة السامية يمكن أن نعود إلى من عايشوا ونظّروا لهذا المفهوم وأعطوه أهميته الاجتماعية والفلسفية والنفسية ومنهم كبار المفكرين في أوروبا وأميركا الذين فسّروا وحللوا معاداة السامية كظاهرة ذات بعد اجتماعي نفسي تخص المجتمعات الغربية وأميركا، حيث انصب جل تفكيرهم على دراسة سيكولوجيا الجماعات والأفراد المعادين للسامية وإواليات الدفاع التي يجب أن يتبعها اليهود للمحافظة على الذات وبقائهم في مجتمعاتهم، "كعنصر نفي، (بالمعنى الفلسفي)، لأنه من دون هذا النفي يصل التاريخ إلى نهايته وتسود الشمولية" وذلك حسب هوركهايمر كما جاء في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبد الوهاب المسيري.
وسوف أركز على وجهات نظر وآراء بعض من مفكري مدرسة فرانكفورت معتمداً على كتاب "مدرسة فرانكفورت .. تاريخها وتطورها النظري وأهميتها السياسية" لمؤلفه رولف فيغرسهاوس والصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات؛ حيث أخذ فلاسفتها ومفكروها الأكثر حضوراً في تلك الفترة على عاتقهم دراسة مفهوم معاداة السامية والظاهرة أو الظواهر التي أنتجته، وكرسوا كثيراً من الوقت والجهد لتحليله في ظل حملات التحريض المعادية للسامية المنتشرة في ذلك الوقت في أوروبا وأميركا؛ وربما من الأهمية الإشارة إلى أن معظم هؤلاء المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس كانوا من اليهود أو المتعاطفين معهم؛ ولم يكن العداء للسامية من وجهة نظر هؤلاء المفكرين يحمل هدفاً بحد ذاته، ولا تخدم ممارسة هذا العداء أبعاداً اقتصادية أو سياسية أو حتى حضارية بالمعنى الشامل، بل كانت عداء أعمى وبلا غاية سوى أنه متنفس في زمن الاغتراب والتغول الرأسمالي، ولا يميز هذا العداء بين ضحاياه كما يقول هوركهايمر وأودرنو في جدلية التنوير حيث "وحده عمى معاداة السامية، أي غياب غائيتها، يعطي تفسيرها كمتنفس قدراً من الحقيقة. فالحقد ينصب على الضحايا دونما دفاع. ولأن الضحايا يمكن التبديل في ما بينهم تبعاً للظروف -غجر، يهود، بروتستانت، كاثوليك – فإن أياً منهم يمكن أن يحل محل القتلة، باللذة الدموية العمياء نفسها، حالما يشعر بالقوة كقاعدة"، وكأن في هذا القول أو الرؤيا شيئاً من استشراف للمستقبل، فعندما امتلك الصهاينة اليهود القوة حلوا محلَّ الجلاد ومارسوا أبشع أنواع العنف والاحتلال والعنصرية والتطهير االعرقي للشعب الفلسطيني.
ولم يكن البعد السياسي أوالاقتصادي فقط هو نقطة الانطلاق لمثل هذه الدراسات بل البعد المعرفي والحضاري والتدقيق في البنية النفسية للأفراد والجماعات وميولهم التدميرية حيث "اختار هوكهايمر وأدورنو صراحة نقطة انطلاق لدراستهما مناقشة الفرضيات التي وضعها العلم الحديث عن الميول التدميرية التي كانت أساس معاداة السامية" .
ولأن السيطرة والعنف تستهدف دائماً الضعفاء حسب هوركهايمر وأدورنو فإنهم اعتبروا أن "أخطر إوالية معادية للسامية، أن يؤكد اليهود بضعفهم التصور عن اليهودي الضعيف، ويعرضوا أنفسهم من جديد دائماً للاعتداء والعنف". وهنا لا يهم مدى صدقية هذا القول أو عدمه بل المهم التأكيد على زاوية المعالجة الاجتماعية النفسية التي اتخذوها في تفسير الظاهرة.
ولم تكن الآليات الاجتماعية للسيطرة والعنف فقط هي القاعدة للتفسير بل ركزت دراسات معاداة السامية بالنسبة لهوركهايمر على البعد النفسي فأخبر صديقه ماركوزة في رسالة جاء فيها "أنوي دراسة وجود نموذج السيطرة في ما يسمى الحياة النفسية، إضافة إلى غرائز الإنسان وأفكاره. وإن ميول البشر التي تجعلهم عرضة لبروباغندا الرعب هي ذاتها نتاج الرعب، والقمع الجسدي والروحي، الواقعي والمحتمل".
ذلك يستدعي القول إن مسألة العداء للسامية لم تناقش عند هؤلاء المفكرين كبعد حزبي أو تنظيمي يحمل أيديولوجيا كما يحاول كثيرون ممن لهم مصلحة مع إسرائيل اليوم أن يتعاملوا معها معتبرين معاداة الصهيونية كحزب عنصري شوفيني هي نفسها معاداة السامية بل ركزت دراساتهم على البعد النفسي الفردي والاجتماعي حيث "نُشرت محاضرة أدورنو " عناصر معاداة السامية " في عام 1946 في كتاب معاداة السامية: مرض اجتماعي الذي نشره زيمل، وضمنه محاضرات مشاركين آخرين، من بينها محاضرة لهوركهايمر وواحدة لأوتو فينشل- وهو محلل نفسي آخر فرّ من ألمانيا في عام 1933 – عنوانها "عناصر نظرية في التحليل النفسي لمعاداة السامية" توازي محاضرة هوركهايمر وأدورنو "عناصر معاداة السامية"، وتشبهها من نواح عديدة. كما ظهرت لاحقاً معالجة شاملة لأدورنو في الموضوع نفسه : "النظرية الفرويدية ونموذج الدعاية الفاشية".
وأكد هوركهايمر على البعد النفسي لمعاداة السامية حيث يقول "في اعتقادي أن التجاهل اليهودي لسيكولوجيا معاداة السامية ليس السبب الوحيد، لكنه بالتأكيد واحد من الأسباب الرئيسية القليلة لقصور الدفاع الأوروبي في مواجهته "500، واعتبر أن دراسة وتحليل معاداة السامية وقياسها يخص الظواهر الاجتماعية عموماً وليس ظاهرة معاداة اليهود تحديداً لذلك "سوف نكون قادرين على نشر كتاب حول تحليل معاداة السامية وقياسها. سيكون مثل هذا الكتاب مقاربة جديدة، ليس بالنظر إلى مشكلتنا النوعية فحسب، بل بالنظر إلى دراسة الظواهر الاجتماعية عموماً".
حتى إن مجموعة بيركلي التي ساهمت بشكل رئيسي بالدراسات حول معاداة السامية في أميركا قامت "بإنشاء مقياس لقياس الآراء والمواقف المعادية للسامية واكتشاف العلاقات بين معاداة السامية وبنية الشخصية" 501، وكانت دراسة البعد النفسي للأشخاص المعادين للسامية من أهم الموضوعات التي ركز عليها مشروع معاداة السامية بقيادة هوركهايمر وأدرنو حيث كان من أهم المواضيع في المجلدات الأربعة التي تحمل عنوان دراسات في معاداة السامية "دراسة سانفورد وليفينسون" مقياس لقياس معاداة السامية" التي كان قد نشرها غوردون آلبورت – وهو واحد من أشهر علماء النفس في الولايات المتحدة الأميركية، ومن أشهر المتخصصين في سيكولوجيا الشخصية – في مجلة علم النفس".
وعن قناعته بالعامل النفسي ودوره في العداء للسامية يقول هوركهايمر بأن الأمر يحتاج إلى تقصٍّ "تفاعل السيكولوجيا اليهودية ومعاداة السامية مع الرأسمالية بكليتها" ولم يبتعد فريدريش بولوك صديق هوركهايمر عن التركيز على هذا البعد حيث رد الأسباب إلى طبيعة اليهودي الشخصية وتنميطه والتي كان لها دور من وجهة نظره في معاداة السامية، حيث يقول "تبدو صورة اليهودي كأنها من حيث الجوهر هي نفسها بين الأغلبية العظمى لعينتنا. وفي حين أنهم يسلكون سلوكاً متبايناً، فإن نقدهم واستياءهم وعداءهم وكراهيتهم كانت موجَّهة إلى يهودي شبح. يبدو أن أغلبية العمال تنظر إلى اليهودي بوصفه صاحب متجر مخادعًا، أو ملّاكاً لا يعرف الرحمة، أو وكيل تأجير أو مسترهناً عديم الضمير، أو بائعاً بالتقسيط، أو جابي تأمين [……]، كل هذا لأن اليهود مهووسون بالمال، وأنانيون، وجشعون، ويقتصون منافع الغير، ويغشون، ويحتالون، ويكذبون، وهم بلا رحمة، وعديمو الضمير، وما إلى ذلك". وهنا يتضح أن بولوك يعزو معاداة السامية إلى وجهات نظر فردية يحملها الشخص أو الأشخاص نتيجة إرث اجتماعي رسّخ صورة نمطية سلبية عن اليهودي الفرد وليس كما تُصور الصهيونية اليوم أن تلك المعاداة كانت لأنهم شعب في حالة ضياع ويبحثون عن وطن يلم شملهم.
وبنظرة بسيطة يمكن أن نكتشف أهمية العامل النفسي والتركيز عليه من خلال العناوين الرئيسية للبرنامج النهائي لمشروع معاداة السامية مثل "كشف البنية الشخصية للأفراد الذين لديهم استعداد لمعاداة السامية"
"دراسة معاداة السامية بين الأطفال "، و"مسح حالات نفسية تتضمن كراهية عرقية" و"دراسة الخوف والعدوانية الاجتماعية بين المحاربين القدامى".
وتوصلوا في دراساتهم إلى أن معاداة السامية هي جزء من حالة عامة تسود المجتمعات الرأسمالية حيث تكون
"معاداة السامية جزءاً من موقف كلي لا يخص اليهود وحدهم، ولا الأقليات وحدها، بل يخص الناس عموماً والتاريخ والمجتمع والطبيعة، وهذا الموقف الكلي متجذر في بنية نفسية محددة، هي التي تقرر في النهاية إن كان لأحد ما شخصية فاشية، وكان من ثم معادياً للسامية أم لا".
وفهم أدورنو وهوركهايمر "معاداة السامية بأنها تمظهر للطبيعة العمياء، المشوهة والمتمردة، التي رافقت حضارة مخفقة وغير مكتملة كظلها تماماً".
وهنا نلاحظ الجهد المبذول من قبل هؤلاء المفكرين وزاوية نظرهم ليتعرفوا إلى الأسباب الدفينة والعميقة لمعاداة السامية وكيف استعملوا كل معارفهم الفكرية الفلسفية النقدية وغوصهم في مصطلحات علم النفس من "الإسقاط"، إلى "الأنا الأعلى" إلى "الهو" إلى "اللاشعور" و"اللوبيدو" وإلى أريك فروم وغوصه في آليات الاغتراب والتشيؤ وفرويد ودراساته حول "علم النفس الجماعي وتحليل الأنا" لتفسير تلك الظاهرة والوقوف على ماهية مفهوم العداء للسامية المجبول بالكره الأعمى للإنسان وقناعاته، وذلك لأن المسألة بالنسبة إليهم كانت مركبة وذات أبعاد كثيرة وتحتاج لكل هذا البحث عن مسبباتها الحقيقية أما العداء للصهيونية باعتبارها أيديولوجيا عنصرية فاشية، فهو ليس عداء للإنسان ولا لقناعاته، ولا لليهود أو اليهودية كدين، وليست مسألة ذات بعد نفسي تحتاج للغوص باللاشعور لاستجلاء أبعادها العميقة، بل العداء لسياستها وعنصريتها واغتصابها لأرض الغير وتشريدهم في كل أنحاء الأرض، ومن هنا فعداء الصهيونية وأسبابه مسألة في غاية الوضوح وأي عاقل يستطيع بدون بحث ولا تحليل أن يكتشف مدى دمويتها بما تمارسه من قتل يومي للفلسطينيين وحصارهم وتنكيلهم على حواجز الموت وعلى أطراف المستوطنات، وبالتالي فإن الصهيونية بعدائها للقيم الإنسانية وقوانين المحافل الدولية تستجر العداء ليس من قبل الفلسطينيين بل لكل من يؤمن بالإنسانية بما فيهم الكثير من يهود العالم. حيث يقول أبراهام ملتسر في كتابه "صنع معاداة السامية، أو تحريم نقد إسرائيل" :أُعرف نفسي وبكل ثقة بأنني يهودي معادٍ للصهيونية […] إن موقفي منها هو موقف ازدراء وعدم احترام، لأنني أعتبرها أيديولوجيا غير إنسانية. وهذا ليس له علاقة بموقفي من اليهودية أو من اليهود كبشر".
وحتى عندما تطرقت دراسة العداء للسامية للبعد السياسي والاجتماعي فإن هوركهايمر اعتبر "البرهان العلمي على أن معاداة السامية هي عَرَض الخصومة العميقة تجاه الديمقراطية" ويتابع مؤكداً على هذه النقطة "قام ( المعهد) […..] بمساهمة جادة في الكفاح الكبير ضد معاداة السامية، من حيث تطوير الأدوات للبرهان العلمي على الجذور اللاديمقراطية لمعاداة السامية" وذهب آخرون إلى إعتبار أن الهولوكوست، وهو اللحظة الأكثر فجاجة في تطبيق مفهوم معاداة السامية، كان نتاج الحضارة الغربية حيث يقول كريستوفر براونينغ في كتاب "الحداثة والهلوكوست" لزيغمونت باومان "لم يكن قتل يهود أوروبا على أيدي النازيين نتاجاً تكنولوجياً أفرزه العالم الصناعي فحسب، بل كان نتاجاً تنظيمياً أفرزه المجتمع البيروقراطي ايضاً".
كل هذه الشواهد وكل هؤلاء المفكرين الذين ميزوا مرحلة نقدية في الفكر العالمي تعاملوا مع مفهوم معاداة السامية، في مرحلة تاريخية وجغرافية محددة، كمُعَبْر عن ظاهرة معاداة اليهود ودوافعها التي كانت بالنسبة لهم إما نفسية أو دينية أو عرَض من عوارض الحضارة الغربية وصعود الرأسمالية ووجهها الأكثر قباحة، الفاشية، وتأكيداً على هذا الرأي يقول أبراهام ملتسر في كتابه "صنع معاداة السامية، أو تحريم نقد إسرائيل"، "كما أن معاداة السامية بمفهومها الكلاسيكي قد انتهت مع سقوط الرايخ الثالث، لهذا فإن من السخف وعدم المسؤولية وضع أبسط انتقاد لإسرائيل على قدم المساواة مع معاداة السامية".
وهكذا يتبين أن مفهوم معاداة السامية لا من حيث المعالجة ولا من حيث النتائج يمت بصلة لمعاداة الصهيونية التي يحاول رموزها وداعموها اليوم السيطرة عليه ولَيّ دلالاته لتنسجم مع الاحتلال والاستيطان والأبارتهايد الذي يمارس فوق أرض فلسطين ويجعلوا من مفهوم معاداة السامية معادلاً لمفهوم معاداة الصهيونية، واعتبار كل نقد لسياسات إسرائيل والصهيونية هو عداء للسامية.