لم يكن تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو حول ضرورة "المصالحة" بين المعارضة السورية ونظام الأسد، هو السبب الوحيد لخروج مظاهرات حاشدة في مدن شمال غربي سوريا يومي الخميس والجمعة الماضيين، إنما كان شرارة أشعلت انتفاضة المدنيين، الذين طالبوا خلال مظاهراتهم بحلّ مشكلات متراكمة وأخطاء متكررة في إدارة المنطقة، قد يؤدي التغاضي عنها أكثر، إلى اندلاع احتجاجات غير مسبوقة.
وخلال شهر آب الجاري، شهدت منطقة ريف حلب الشمالي والشرقي احتجاجات متفرقة تحمل مطالب متنوعة، أولها للكوادر الطبية، احتجاجاً على تدنّي رواتب الأطباء والممرضين السوريين، وللمطالبة بالمساواة بين الأطباء والممرضين الأتراك والسوريين.
وقد تخلل هذه الاحتجاجات اعتداء قوات الشرطة على ناشطين إعلاميين، واعتقال اثنين منهم لوقت قصير، بسبب محاولتهما تصوير احتجاج الأطباء.
وفي السابع من شهر آب تظاهر العشرات من طلاب الثانوية العامة بريف حلب الشمالي، أمام مديريات التربية والتعليم التابعة للمجالس المحلية، اعتراضاً على نتائج امتحانات الثانوية، ونسبة الرسوب الكبيرة، وهو أمر يتكرر كل عام.
وبعد ذلك بيوم، تجمع عشرات الصحفيين أمام مبنى الشرطة في مدينة جنديرس بريف عفرين، للمطالبة بإطلاق سراح الناشط الإعلامي لؤي اليونس، بعد اعتقاله بشكل تعسفي من منزله، من دون توجيه تهمة واضحة له.
احتجاجات واسعة
أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، في 11 آب، أنه أجرى محادثة قصيرة مع وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز الذي عقد في تشرين الأول 2021، بالعاصمة الصربية بلغراد، وفي الوقت نفسه، قال: "علينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما، وإلا فلن يكون هناك سلام دائم"، لكن وكالة "الأناضول" التركية عدّلت تصريح جاويش بعد وقت قصير، من "تحقيق مصالحة" إلى "تحقيق اتفاق"، بسبب ما أثاره التصريح الأول من غضب شعبي شمالي سوريا.
ووصِفت الاحتجاجات التي أعقبت تصريح الوزير التركي، بأنها الأكبر على مستوى الشمال السوري، منذ تدخل تركيا رسمياً في سوريا عام 2016، حيث طالب بإنهاء القيود المفروضة على الفصائل العسكرية لتتمكن من استئناف المعارك ضد النظام السوري، وكف يد من سمّوهم "الفاسدين" عن إدارة المؤسسات الرسمية في المنطقة.
وعلى عكس المظاهرات السابقة، كان هناك مواقف واضحة لقادة فيالق الجيش الوطني السوري، داعمة للحراك المدني، ومؤكدة على رفض المصالحة مع النظام، بينما أصدرت عدة نقابات ومجالس وهيئات محلية بيانات تدين تصريحات وزير الخارجية التركي، كان أبرزها البيان الصادر عن نقابة المحامين الأحرار في سوريا، إذ دعا إلى "وقف كافة أشكال الوصاية التركية على الثورة السورية"، وإسقاط كل شخص أو هيئة تتابع المفاوضات السياسية مع النظام.
اعتقالات
معظم عمليات الاعتقال التي تنفذها قوات الجيش الوطني السوري، أو الشرطة، تتم من دون مذكرات اعتقال رسمية، وبطريقة غير قانونية، وبشكل تعسفي، حيث أكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، عدم صدور مذكرات قضائية من المدعي العام، تبيح اعتقال الأشخاص المطلوبين.
وأضاف عبد الغني في حديث مع موقع "تلفزيون سوريا"، أن هذه الاعتقالات تحتوي على سلسلة من الانتهاكات لحقوق الإنسان، موضحاً أن الكثير من المعتقلين لا يمكن التواصل معهم بعد احتجازهم أو معرفة مصيرهم، بينما يتعرض آخرون للتعذيب.
وأشار عبد الغني، إلى أن هذه القوى محسوبة على الثورة إلى حد ما، فلا يمكن لها أن تتبع ذات أساليب نظام الأسد، والتي تسببت بخروج ثورة ضده، مثل إهانة الكرامة، وانتهاك حقوق الإنسان، مضيفاً أن القوى مطالبة بأن تكون نموذجاً متقدماً عن احترام الحقوق، وحرية الرأي والتعبير.
ويرى مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن أغلب الاتهامات الموجهة للمعتقلين، غير مستندة إلى أدلة، كما أن انتقاد سياسة معينة، أو دولة معينة، لا يعد تهمة، كونه يندرج ضمن حرية التعبير.
تجدد الاحتجاجات
منذ أشهر تلوح في الأفق بوادر اندلاع احتجاجات في مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري، بسبب مشكلات تراكمية والفشل الإداري والانقسام الفصائلي، وسوء إدارة ملفات رئيسية كالتعليم والصحة والقضاء، وانخفاض الرواتب، وتلاعب شركات الكهرباء بالأسعار بما لا يتناسب مع دخل السكان.
وخلال الأسابيع الماضية، بدأ الحديث بشكل فعلي عن عواقب كبيرة لتجاهل الجانب التركي والمؤسسات المحلية لمطالب المدنيين ومعاناتهم، وعدم وفاء الائتلاف الوطني والحكومة السورية المؤقتة بواجباتهم تجاه المدنيين في المنطقة، وانحياز هذه الجهات بشكل واضح لمصالحها الخاصة.
ويؤكد ما سبق، أمين سر نقابة المحامين الأحرار في سوريا، المحامي يوسف حسين، إذ قال إن تصريحات وزير الخارجية التركي الأخيرة، كانت السبب المباشر في اندلاع المظاهرات شمالي سوريا، لكن هناك أسباب غير مباشرة، وهي "الفساد في مؤسسات الثورة والفصائل ورهن القرار الثوري الوطني إلى جهات خارجية لتحقيق مصالح تلك الدول، والتهاون في الدفاع عن الثورة وتحرير المناطق المحتلة".
وعن حوادث الاعتقال الأخيرة شمالي حلب، قال المحامي في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إن اعتقال أي شخص بسبب التظاهر هو مدان قانوناً ومنافٍ لمبادئ الثورة التي خرج الشعب لأجلها، مضيفاً أن قيام بعض الأجهزة الأمنية باعتقال الشباب من دون توضيح الأسباب، مخالف لكل القوانين والمبادئ الثورية، ولو كان السبب لا يتعلق بالتظاهر، يجب على الأجهزة الأمنية بيان الدوافع.
من جهته، أكد الصحفي ماجد عبد النور، أن معظم عمليات الاعتقال، تتم بسبب منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، كما يتم أحياناً تفتيش الموبايلات الشخصية على حواجز الجيش الوطني أو الشرطة العسكرية، في انتهاك واضح للخصوصية.
وأكد عبد النور، في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن تصريحات وزير الخارجية التركي ما هي إلا شرارة للمظاهرات التي عمّت الشمال السوري، مشيراً إلى أن التجاوزات والاعتقالات والقمع والفساد، هو من أسباب تعبئة الشارع ودافع له للاحتجاج، وفي المحصلة سينفجر السكان غضباً بسبب سلطات الأمر الواقع وتجاوزاتها.
مطالب المدنيين
يقول الناشط السياسي السوري، المهندس محمد أبو النصر، إن الشمال السوري تحول إلى كانتونات متشرذمة، حيث يوجد في كل قرية مجلس محلي (يشبه الدولة)، دون أن تتبع هذه المجالس لحكومة تنسق بينها.
وبحسب السياسي السوري، فإن رواتب قطاعي التعليم والصحة بريف حلب الشمالي، لا تتجاوز الـ20 بالمئة من الحد الأدنى للأجور في تركيا.
ومن المشكلات التي رصدت خلال الفترة الماضية:
- فشل الإدارة وغياب التنسيق بين المؤسسات، سواء العسكرية أو الخدمية والمدنية.
- تدني رواتب الموظفين بشكل عام، إضافة لرواتب عناصر الجيش الوطني السوري والشرطة.
- تهميش المعلمين والأطباء وعدم التجاوب مع مطالبهم.
- الاعتقالات التعسفية من دون مذكرات قضائية أو تهم واضحة.
- انتشار المخدرات ودخول جزء كبير منها عن طريق معابر التهريب التي تشرف عليها بعض فصائل الجيش الوطني.
- تساهل القضاء من المجرمين ومروجي المخدرات وإطلاق سراح الكثير منهم.
- عجز الجيش الوطني السوري، وتحول اهتمامه من محاربة نظام الأسد بالدرجة الأولى، لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
- انتشار الحواجز بشكل عشوائي، ومن دون إدارة موحدة لها، واستغلال بعض القائمين عليها للمدنيين بهدف تحصيل الأموال.
- إقدام شركات الكهرباء الخاصة على رفع الأسعار بشكل دوري، في مخالفة للعقود الموقعة مع المجالس المحلية.
وبعد الاطلاع على آراء عدد من القاطنين في الشمال السوري، يمكن القول إن أهم المطالب تتمثل بالآتي:
- إنهاء الاعتراف بالمؤتمرات السياسة كأستانا وسوتشي، واللجنة الدستورية السورية التي اختزلت مطالب السوريين بكتابة دستور جديد للبلاد.
- تشكيل حكومة حقيقية تدير منطقة الشمال السوري مع مراعاة تمثيل جميع المحافظات والأطياف.
- دمج الجيش الوطني السوري بشكل حقيقي ورفع الحماية عن الفصائل التي ثبت عليها انتهاكات وفساد.
- تحديد جهة واحدة واضحة من قبل الجانب التركي مهمتها التنسيق مع المؤسسات المحلية في إدارة المنطقة، وعدم تجزئة المناطق حسب الولايات التركية (كليس - هاتاي - أورفا - غازي عنتاب).
- تشكيل جهاز أمني مركزي لحماية السكان من أي هجمات تهدد أرواحهم.
- الحزم مع مروجي المخدرات ومحاسبة فصائل الجيش الوطني المتورطة في إدخال المواد المخدرة للمنطقة.
- الاهتمام بقطاعات التعليم والصحة والخدمات وزيادة رواتب الموظفين بشكل عام، والاستفادة من واردات المعابر الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني لدعم هذه القطاعات.
- تحديد آلية قانونية للاعتقال بعيداً عن الاحتجاز التعسفي بتهم كيدية.
ولا يمكن إغفال أن المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب، تشهد أيضاً احتقاناً شعبياً، بسبب الاعتقالات، واحتكار الهيئة للتجارة، لا سيما المحروقات، وارتفاع الأسعار مقارنة بمنطقة ريف حلب الشمالي، والضرائب، والقبضة الأمنية المشددة على السكان، بما يقيد حرية الرأي والتعبير، وصعود طبقة معينة مقربة من الهيئة، على حساب ارتفاع نسب الفقر بين المدنيين.