في اجتماع موسع لأعضاء القيادتين القطرية والقومية للبعث ورؤساء أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وعدد من كبار رجال الدولة، للتشاور حول الأزمة التي كان النظام يمر بها في 1980؛ طرح بعضهم إعادة هيكلة أجهزة الأمن وتنظيم عملها. لم تعجب الفكرة حافظ الأسد، وأراد أن يوضح للحضور العقيدة المخابراتية التي يفضّلها فالتفت إلى ضابط أمنه الأثير، محمد ناصيف، طالباً منه تعريف المخابرات فأجاب الأخير: «هي جهاز خارج عن القانون لحماية القانون». مشيراً بيده، عند استخدام كلمة «القانون» الثانية، إلى رئيسه الذي ضحك وهزّ رأسه وقلّب نظره في الموجودين، واحداً تلو الآخر، مؤذناً بانتهاء الموضوع.
ولد محمد بن ناصيف خير بك، الذي سيشتهر بمحمد ناصيف، في عام 1937، لعائلة من وجهاء عشيرة المتاورة استقرت في قرية اللقبة القريبة جداً من مصياف بريف حماة. وبعدما أتم دراسته الابتدائية ألحقه والده بالمدرسة الشرعية في مدينة حماة، والتي كانت تقدّم لطلابها السكن. ولما حاز شهادتها الإعدادية التحق بدار المعلمين في حمص. وأيضاً كانت تمنح طلابها من خارج المدينة الإقامة الداخلية والوجبات وراتباً معقولاً، فضلاً عن الوظيفة الحكومية التي تنتظرهم بمجرد التخرج.
التحق محمد بالخدمة العسكرية الإلزامية في ما كان يُعرف بكلية ضباط الاحتياط في حلب. ولأن شهادة أهلية التعليم، التي كان يحملها، كانت تعادل الثانوية العامة عسكرياً؛ فقد خدم برتبة مرشّح، التي انقرضت الآن، وكانت تجمع بين مهام المساعد أول وامتيازات الضابط. وسُرّح برتبة ملازم بعد أن تجاوز الخدمة الإلزامية ودخل الاحتياطية لوقت قصير. والتحق بعدها بسلك التعليم في الجزيرة السورية.
في أثناء دراسته كان قد انتمى إلى جناح أكرم الحوراني الحموي في الحزب. وبعد أن قام الأخير بانقلابه في 8 آذار 1963 استُدعي، كالمئات غيره، ليسدّوا الفراغات التي نجمت عن موجات تسريح الضباط الانفصاليين والناصريين وسواهم في الأعوام الأولى لحكم البعث. فالتحق، وفق اختصاصه، بسلاح الإشارة في الجيش.
في أواخر الستينيات كان الشقاق يتسع بين وزير الدفاع حافظ الأسد وبين رفاقه في القيادة. وكان في حاجة إلى رجل موثوق يتولى مفصلاً هاماً في المخابرات العسكرية هو قسم الإشارة. فعبره يتم تأمين الخطوط الآمنة التي يحتاج إليها الأسد للتواصل هاتفياً مع شبكته من الضباط والمدنيين ليلاً ونهاراً. وقام النقيب محمد ناصيف، رئيس هذا القسم الفني في المخابرات العسكرية، بتلك الخدمة الثمينة بتفان وإخلاص. فضلاً عن مراقبة خطوط الخصوم من رجال الحكم. ولذلك كان له دور مركزي في إنجاح انقلاب الأسد، المعروف بوصف «الحركة التصحيحية»، في 16 تشرين الثاني 1970، وفي حمايته من بقايا مجموعات الضباط المعترضين في السنوات التالية.
يؤمن محمد ناصيف بحافظ الأسد إيماناً حقيقياً، ويواليه من دون تزلف، ويعرف حدوده كمنفّذ لا يتطلع إلى ما هو فوق ذلك. وقد أهلته هذه الصفات لأن يصبح الرجل المفضّل عندما حانت الفرصة.
يؤمن محمد ناصيف بحافظ الأسد إيماناً حقيقياً، ويواليه من دون تزلف، ويعرف حدوده كمنفّذ لا يتطلع إلى ما هو فوق ذلك. وقد أهلته هذه الصفات لأن يصبح الرجل المفضّل عندما حانت الفرصة.
ففي عام 1976 اكتُشفت حركة سرية في الجيش بقيادة الملازم أول رائق النقري وتم اعتقالها. ومن دون أن تكون له علاقة بها أطاحت هذه الحادثة بقريبه المقدم فريد النقري من موقعه الهام رئيساً للفرع الداخلي في المخابرات العامة (أمن الدولة). فقد توجه الأسد إلى إبعاد أبناء هذه العائلة المتنفذة عن المناصب الحساسة.
كان هذا الفرع، المعروف بالرقم 251، مركزياً في إدارة المخابرات العامة التي كانت تعاني من الترهل في عهد علي المدني في تلك الأيام. ولذلك كُلف المقدم محمد ناصيف بمهمتين؛ استلام الفرع المسؤول عن العاصمة وريفها، وتنشيط الجهاز ككل وإعادة هيكلته. وقد فعل ما طُلب منه بطريقة جعلته مديراً لمدرائه، فهو من يقترح تعيينهم وإعفاءهم. وفي الوقت نفسه توسّع في سلطات الفرع الداخلي مملكته الخاصة.
كان ناصيف على اتصال مباشر شبه يومي بالأسد. وكان يرشّح وزراء ومدراء عامين وسفراء وحتى قادة عسكريين في مواقع كبيرة. ومن جهة أخرى كان مؤتمناً حتى على الأسرار العائلية للأسد، مشرفاً على معالجة قضايا أولاده وتهيئتهم للحكم. فضلاً عن مهامه في حماية النظام من خطر الإخوان المسلمين، وبعث العراق، وحزب العمل الشيوعي، وسواهم ممن تسول له نفسه معارضة القائد.
وفي سبيل ذلك تفرّغ العقيد كلياً فأقام في الفرع الذي يقع في حيّ الخطيب الهادئ في دمشق، مستعداً دائماً، متخلياً عن حياته الشخصية، مكتفياً من متع الحياة بتدخين أنواع فاخرة من السيجار الكوبي والتعاطي المعتدل لخمور باهظة الثمن.
لم تتغير حياة اللواء محمد ناصيف إلا في عهد بشار الأسد، وكان قد أصبح عجوزاً على كل حال. فنُقل من فرعه إلى منصب مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الأمنية، ثم مساعد نائب رئيس الجمهورية حتى التقاعد. إلى أن توفي في 2015.
ومن الواضح أن هذه المهام كانت لا تنسجم مع رجل المهام الصعبة أبي وائل الذي قرر أخيراً أن ينجب الابن الذي تكنى به قبل أن يتزوج طبيبة سورية تعيش في أميركا وتحمل جنسيتها وتنتمي إلى عائلة موثوقة. فهي ابنة الدكتور محمود شحادة خليل الذي اغتالته «الطليعة المقاتلة...» في العام 1979 بعد أن اتهمته بالمساهمة في قتل مؤسسها، الشيخ مروان حديد، الذي كان معتقلاً في الفرع الداخلي حينها.
بدوره ينتمي محمد ناصيف خير بك إلى عائلة ركينة في النظام، أسهم في دعمها ولعبت دورها في تقويته. فأخوه الأكبر محمود صار عضو «مجلس الشعب» لعدة دورات، وأنجب ضابطين هما ناصيف، الذي انتقل من رئاسة فرع الأمن الجنائي بحمص حتى وصل إلى رئاسة فرع التحقيق في المخابرات العامة في عام 1980. وفؤاد الذي استلم من عمه محمد الفرع الفني (225) في المخابرات العسكرية، ثم خلَفه في الفرع الداخلي بعد سنوات فصل بينهما فيها بهجت سليمان. أما الأخطر من إخوة محمد فهو شقيقه الأصغر اللواء عصام، الذي تولى من ملفات النظام الخطرة ما هو أدق بكثير من وظيفته الظاهرة كمدير مكتب، وضابط تصرفات، وزير الدفاع مصطفى طلاس.