بعد الحروب التي شنت على الشعب السوري، وشردت وهجرت ودمرت الاقتصاد، وبعد كورونا والكوليرا والزلزال الكبير، يعيش السوريون وقتا عصيباً، وضيقاً لم يعرفوه منذ وقت طويل جداً، أطول من حياتهم جميعاً.
بحسب الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية المختصة، تجاوزت نسبة السوريين الذين ليسوا متأكدين من تأمين الطعام لهم ولأسرهم، 80 في المئة منهم. أما الذين يحتاجون لمساعدة لتأمين طعامهم فتجاوزوا 15 مليون نسمة، أي 60 في المئة من السوريين.
هذه الأرقام المرعبة، غير المسبوقة منذ عرفت سوريا الإحصاءات، حولت رمضان لهذا العام إلى شهر لا يشبه شهر رمضان الذي تعود عليه السوريون طوال حياتهم.
مائدة السوريين خاوية في رمضان
مائدة رمضان التي كانت تعج بأصناف الطعام، باتت اليوم بالنسبة لغالبية السوريين، تضم صنفاً واحداً أو صنفين على أبعد تقدير. وكانت تشمل يومياً طعاماً فيه اللحوم بأنواعها، لكنها باتت إما خالية من اللحوم، أو تضم أرخص أنواع اللحوم، وهو الدجاج المجمد.
توجه موقع تلفزيون سوريا بالسؤال لمعلمة متقاعدة، فقالت طالبةً عدم ذكر اسمها: "أنا وأسرتي لا نأكل اللحم إلا في العيد الكبير، حيث تصلنا هدايا الأضاحي من الأصدقاء والجيران القادرين على ذبح الأضاحي، والذين يتناقص عددهم باستمرار. ولأن عيد الأضحى يأتي بعد رمضان بأشهر، فلا لحم على مائدتنا في رمضان. فقط نستطيع شراء لحم الدجاج المجمد، من وقت لآخر. ليس بصورة يومية، ولا حتى أسبوعية، وإنما مرة في الشهر".
وأضافت المعلمة التي أصبح كثير من تلاميذها أطباء ومهندسين وقضاة ورجال أعمال في مدينة حلب "نحن لسنا محرومين من اللحم فقط، بل نحن محرومون من أساسيات غذائية كثيرة، ولولا الصدقات والمساعدات، فإننا نجوع. نعم نحن نتلقى الصدقات باسمها الملطف الجديد (السلة)، يطرق أشخاص باب أناس متعلمين أعلى درجات العلم، يسلمون عليهم، ويقولون: السلة يا أستاذ، فيأخذها. السلة ليس فيها لحم. فيها السكر والأرز والزيت والشاي والسمن والمعكرونة.. نقبلها بكل مرارة، لأننا نجوع بدونها".
وعن الحلويات التي كانت تطفح بها موائد رمضان والعيد قالت المعلمة: "الحلويات غالية إلى درجة أن راتب المعلم المتقاعد الشهري لا يشتري سوى كيلو ونصف منها. إنها بالنسبة لنا شيء من الماضي، والبديل عنها حلويات رخيصة، فارغة من الفستق واللوز والجوز والقشطة وحتى الأجبان ومشتقاتها وحتى من التمر. فارغة كلياً، ورقيقة، هي فقط سميد أو طحين وقطر. ونسميها حلويات تجاوزاً، فقط لأن طعمها حلو، وحتى هذه لا نصنعها إلا في آخر رمضان لنأكلها في العيد ونوهم أنفسنا أننا عيّدنا، وأكلنا حلويات".
ماذا حل بتقاليد رمضان في سوريا؟
وليست موائد السوريين هي التي تغيرت في رمضان هذا العام، الذي بات البعض يسميه "عام الزلزال"، فبالنسبة لغالبية السوريين، وتحديداً ما بين 60 في المئة و 80 في المئة منهم، كادت عادات وتقاليد شهر رمضان تختفي من حياتهم. من تنوع الطعام، ونوعياته، وكمياته، والبذخ في الإنفاق عليه، وتنوع الحلويات، والبذخ في الإنفاق عليها، والأطعمة والحلويات والمشروبات الخاصة برمضان، كل ذلك تراجع كثيراً، وأحياناً اختفى كلياً. وتناقصت كمية الطعام الموضوع على المائدة. وأيضاً تراجعت وتكاد تختفي ظاهرة السكبة (إهداء الجيران أطباقاً من الطعام) التي كانت تضيف لمائدة رمضان تنوعاً كبيراً، لأنها في جانب منها تعبير عن المحبة والتضامن، وفي جانب هي نوع من أنواع استعراض النعمة والغنى، وإذا كان الطعام بالحد الأدنى كماً ونوعاً، فلا أحد يفكر باستعراضه، ولا إهدائه للآخرين.
يقول السيد أسامة المحمد لتلفزيون سوريا حول سكبة رمضان: "السكبة أيام زمان كانت تعلم الأطفال على المحبة والكرم، وتوطد الأخوة في المجتمع، إضافة إلى أنها كانت عبارة عن تباري بين الجيران في التباهي بنوع الطعام وما يحويه من مواد كاللحمة وغيرها، أما الآن فهذه العادة اندثرت".
السيدة صفية الحسن من أهالي مدينة الحسكة لها رأي مخالف، تقول: "رغم الفقر ومرارة العيش وضيق الحال لا زالت عادة سكبة رمضان مستمرة بين الجيران في حينا، ما زلنا نتقاسم الطعام فيما بيننا، ولو أنه صحن برغل حاف".
ومن العادات التي تراجعت، عادة العزائم، أي دعوة الأهل والأصدقاء للإفطار أو السحور، والتباري في إعداد أفضل وأطيب وأكثر الأطعمة والحلويات. وكانت من العادات التي ترقى لدرجة الواجبات الملزمة التي لا غنى عنها بين الأهل والأقارب. فكل رب أسرة يجب أن يعزم (يدعو للإفطار) أسر إخوته وأخواته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته، وأهله هو وأهل زوجته.. وكل هؤلاء يجب أن يعزموه ليردوا له عزيمته لهم. هذه العادة تراجعت كثيراً، وانقرضت بالنسبة للفئات الأفقر. وصارت من جانب واحد في الأسر التي فيها فقراء وأغنياء، وباتت أحياناً تحمل معنى الصدقة أو المساعدة حيث يعزم الأغنياء أقاربهم الفقراء، ولا يرد الفقراء العزيمة، لأنهم غير قادرين على ردها.
السيدة عزة البيطار من أهالي مدينة اللاذقية تقول لموقع تلفزيون سوريا "كلفة عزيمة رمضان باتت غالية الثمن، لا تقل عن 400 ألف ليرة سورية، وذلك بسبب ارتفاع أسعار جميع المواد الغذائية. إذ إن كيلو لحم الغنم بات سعره 100 ألف ليرة سورية وكيلو لحم العجل 85 ألف ليرة سورية، والفروج 46 ألف ليرة وسفط البيض ب 25 ألفا".
وأضاف السيد أحمد المحمد من اللاذقية: "نواجه تدنيا في مستوى معيشتنا ورواتبنا باتت نحو 100 حتى 150 ألف ليرة سورية فكيف لنا أن نقيم عزيمة رمضانية!؟ ".
من جهتها قالت السيدة أم محمد إنه وعلى الرغم من ارتفاع تكاليف "عزيمة رمضان" فإنها أقامتها، لكن لمرة واحدة فقط، واقتصرت على نوع واحد من الطعام، فالقصد هو بحسب قولها "اجتماع الأهل وليس استعراض كميات الطعام ونوعياته".
عادات وتقاليد رمضان أصبحت "عملاً خيرياً"
الكثير من العادات الرمضانية انقلبت إلى "نشاط إنساني" يحمل معنى المساعدة أو الصدقة، بدل المعاني الاجتماعية والدينية التي كانت لها في الأصل. مثلاً الموائد الرمضانية الكبيرة في المساجد وفي الساحات كان هدفها التجمع والتضامن وإظهار الفرح الجماعي وممارسة واجب الصيام الديني بشكل جماعي، وباتت الآن في معظمها مجرد إطعام للمحتاجين والجياع والفقراء، الذين هم الغالبية الساحقة من المجتمع السوري في كل مناطقه.
آخر العادات التي سيحز في نفوس السوريين غيابها، أو تراجعها الكبير، عادة شراء ثياب جديدة في آخر شهر رمضان، استعداداً لاستقبال العيد بلباس كله جديد خاصة بالنسبة إلى الأطفال.
ملايين من الأطفال السوريين لن يلبسوا ثياباً جديدة هذا العيد، لأن أسرهم لا تستطيع شراء ثياب جديدة لهم، ما سيفقد العيد كثيرا من بهجته وخصوصيته بالنسبة لهؤلاء الأطفال، وسيخلق غصة أخرى من نوع جديد في نفوسهم عندما يجدون قلة منهم تتمتع بلباس جديد، فسابقا لم يكن أحد يحرم من لباس جديد في العيد، ولم يكن أحد يشعر بالتمييز الطبقي بهذه الصورة الفجة في العيد.
وليست كل أسباب تراجع عادات رمضان اقتصادية، فجزء من عدم الرغبة بمد الموائد والولائم والعزائم يعود لأسباب نفسية، منها الغربة، ومنها فقد الأحبة.
السيدة أم فراس من أهالي مدينة إدلب شمالي سوريا تقول بحسرة: "الله يكون بعون الناس كل منهم لديه هم. نحن مثلاً لم يتبق من عائلتنا الكبيرة إلا 5 أشخاص، لأن قسما منهم هاجر إلى أوروبا، وآخرين اعتقلوا وآخرين توفوا بسبب قصف طائرات النظام الأسدي".