icon
التغطية الحية

لماذا تنفق السعودية الملايين على معالجة سمع اللاجئين السوريين؟

2024.07.13 | 16:40 دمشق

الطبيب السعودي سامر الجطيلي برفقة الطفلة السورية ملك بعد إجرائها لعملية زراعة الحلزون في الريحانية
الطبيب السعودي سامر الجطيلي برفقة الطفلة السورية ملك بعد إجرائها لعملية زراعة الحلزون في الريحانية
The Telegraph- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

نظرت الفتاة التي ترتدي ثوباً بنفسجياً مستغربة إلى الطبيب الذي نقر على مكتبه بيدها، في تقدم مفاجئ جعل الغرفة المملتئة بالعناصر الطبية تضج بالهتاف.

فملك التي نجت من الحرب السورية وعمرها الآن وصل إلى ست سنوات سافرت إلى تركيا وذلك لتجري عملية هناك، وصار بوسعها اليوم أن تسمع لأول مرة في حياتها بفضل عملية زراعة الحلزون الجديدة، وعن ذلك تقول أمها، فاطمة عباس، وهي ترفع خمارها الأسود لتمسح دموع الفرح: "ممتنة جداً لأنها صار بوسعها أن تسمع أخيراً، فلقد انتظرت هذه اللحظة خمس سنوات".

احتشد الأطباء حول ملك في مشفى بالريحانية، وهي مدينة صغيرة تقع على الحدود مع سوريا، حيث يجري متطوعون قادمون من السعودية عمليات زراعة حلزون لأطفال لم يكتب لهم الحصول على تقنية تغير حياتهم لولا هذا الفريق التطوعي.

يهدف هذا المشروع الذي يعتبر الأكبر من نوعه إلى معالجة ما لا يقل عن 950 طفلاً خلال عامين ومن المتوقع أن تتجاوز تكاليفه عشرة ملايين جنيه إسترليني، ويتعهده مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية والذي يعتبر أهم مؤسسة تشرف على المساعدات في المملكة.

لطالما كانت المساعدات الإنسانية عنصراً أساسياً من عناصر السياسة الخارجية السعودية، فقد ساعدت تلك الأمور المملكة على أن تحظى باحترام على المستوى العالمي، ثم إن معظم ميزانية المساعدات الكبيرة تنفق على الشرق الأوسط حيث تتمتع المملكة بنفوذ اقتصادي كبير يسمح لها بممارسة هيمنتها وتأثيرها.

يعتبر الأطفال من أمثال ملك وشقيقتها البالغة من العمر سبع سنوات واللتين كانتا من أوائل من تبرعوا للخضوع لهذا النوع من العمليات ضمن برنامج عمليات زراعة الحلزون، من أهم المستفيدين من الحملة الإنسانية التي أطلقتها السعودية.

قد تصل كلفة عملية زراعة الحلزون التي خضعت لها ملك قبل يومين إلى نحو 20 ألف جنيه إسترليني في بريطانيا، حيث تتحمل وزارة الخدمات الصحية معظم تكاليف الأجهزة والعمليات الجراحية والعلاج، ولكن في سوريا فإن هذه العملية إما غير متوفرة أو باهظة التكاليف لدرجة تمنع الناس من الخضوع لها.

ولكن في ظل هذا المشروع السعودي، من المزمع لمئات الأطفال، وغالبيتهم من الشمال السوري حيث تسيطر المعارضة وتركيا، أن يخضعوا لعمليات زراعة الحلزون وما يعقبها من علاج ومراقبة مستمرة.

سجلت أول براءة اختراع لعملية زراعة الحلزون في الولايات المتحدة  في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وهذه العملية تتألف من جزأين: معالج صوت خارجي حجمه بحجم حبة الجوز والزرعة الفعلية التي توضع داخل الأذن الداخلية.

وقد صممت العملية لتحاكي وظائف الأذن الداخلية الصحيحة وذلك عبر تحفيز القسم الذي لا يعمل من الأذن بواسطة تيار كهربائي متوسط الشدة، مما يخلق إشارة يمكن للدماغ تأويلها، بيد أن هذه العملية تغير حياة الأطفال الذين يخضعون لها بما أن أغلبهم لم يسمع بحياته ولهذا لم يتطور الكلام لديه.

يعلق على ذلك الطبيب سامر الجطيلي من مركز الملك سلمان فيقول: "إن أثرها واضح، فهي تغير الطفل من طفل عاجز يعيش كل حياته بلا سمع أو كلام إلى طفل سليم".

تعتبر مشكلة فقدان السمع عبئاً اقتصادياً كبيراً على من يعانون منها، وعدم معالجتها تتسبب بخسائر سنوية على مستوى العالم تصل قيمتها في أقل التقديرات إلى 980 مليار دولار.

من بين 1.5 مليار نسمة يعانون من نقص في السمع على مستوى العالم، هنالك نحو 34 مليون طفل.

وعلى الرغم من التقدم القني الذي يمكن أن يساعد من يعاني من تلك المشكلة، فإن منظمة الصحة العالمية أعلنت بأن المنتجات التي تساعد المصابين بضعف في السمع على أن يسمعوا لا تصل إلا لثلاثة في المئة منهم في الدول ذات الدخل المحدود والمتوسط، وهذا ما جعل الطبيب السعودي يقول: "من خلال عملنا على الأرض وشراكتنا مع جهات تركية، أدركنا بأن هنالك حاجة في الداخل السوري، لا سيما في المنطقة الحدودية القريبة من تركيا".

ولذلك تعاون مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية مع منظمات غير حكومية ومع المجتمع المحلي في الداخل السوري لمعرفة من هم بحاجة لعمليات زرع الحلزون، بما أن هذا المركز أنفق أكثر من ستة مليارات دولار منذ عام 2015 على الصحة والأمن الغذائي ومشاريع الصرف الصحي في عموم الشرق الأوسط وإفريقيا.

وبذلك جرى تحديد موعد عمليات لأكثر من 700 طفل، بحسب ما ذكره الدكتور الجطيلي الذي يتوقع معالجة الأطفال البالغ عددهم 940 خلال العام الأول من البرنامج، في حين ستجري معالجة المئات غيرهم خلال العام الثاني.

وستجرى العمليات الجراحية في الريحانية لكونها تتمتع ببنية تحتية وموارد أفضل بكثير من تلك المتوفرة على الجانب السوري من الحدود.

أتت السيدة عباس بابنتيها من أجل العملية من ريف حلب الذي يبعد ساعات قليلة بالسيارة عن مدينة الريحانية، بما أن حلب وريفها تعرضتا لتدمير كبير خلال الحرب السورية.

وفي الوقت الذي تخضع حلب كلها لسيطرة النظام السوري اليوم بعد واحدة من أطول وأشد فترات الحصار دموية في تاريخ الحرب الحديثة، ما يزال الريف الحلبي الشرقي والشمالي يخضع لسيطرة الجيش الوطني السوري المدعوم تركياً.

تؤوي تركيا نحو ثلاثة ملايين لاجئ سوري، لتصبح الدولة الأولى على العالم بالنسبة لعدد اللاجئين الذين تستقبلهم.

وخلال السنوات القليلة الماضية، حصلت الحكومة التركية على مليارات اليوروهات لتمويل الدعم المقدم للاجئين، ولكن مع تعرض تركيا لتضخم هائل وأزمة في تكاليف المعيشة، وجهت غالبية الشعب التركي نقمتها على السوريين.

وصلت السيدة عباس وغيرها من الأمهات السوريات اللواتي تقرر موعد عمليات أولادهن إلى تركيا خلال الأسبوع الماضي، أي قبل أيام قليلة من اندلاع أعمال شغب ضد السوريين في مدينة قيصري الواقعة وسط تركيا، ليكون ذلك أكبر تفجر للعنف الموجه ضد السوريين في البلد منذ سنين، فقد تعرضت آلاف المتاجر والبيوت والسيارات التي يملكها لاجئون سوريون للحرق أو النهب على يد جموع غاضبة في الأول من تموز الجاري، وعلى مدار بضعة أيام، وصل العنف إلى ولايات أخرى، حيث طعن أتراك سورياً فأردوه قتيلاً، ثم أعلنت السلطات التركية عن توقيف نحو 500 مواطن في هذه القضية.

ما تزال تركيا تحاول أن تتعافى من آثار الزلزال المدمر الذي ضرب البلاد خلال العام الفائت مخلفاً أكثر من 60 ألف قتيل، ولهذا بوسع المرء أن يلاحظ آثار الزلزال أثناء رحلته بالسيارة التي تستغرق ساعتين من غازي عنتاب إلى الريحانية، إذ ثمة أكوام من ركام المباني المدمرة تصطف على جانبي الطريق، بانتظار من يرحلها، ويتزامن ذلك مع تسارع وتيرة أعمال البناء لتقديم بيوت جديدة للمتضررين، وبجانبها ترى المخيمات الممتدة التي يعيش فيها من نجوا من الزلزال داخل حاويات شحن.

إن بعضاً ممن ستجرى لهم عملية زراعة الحلزون أتوا من تلك المخيمات التي بدت وكأنها دائمة، بعد إقامة مخابز فيها ومتاجر للبقالة ومساجد داخل حاويات أخرى ذات لون أبيض.

بيد أن معظم المرضى أتوا من سوريا التي يفصل بينها وبين تركيا سياج من الأسلاك الشائكة يمتد من سفح التلة، ويبعد مسافة رمية حجر عن الطريق الواصل إلى الريحانية.

أتى هؤلاء الأطفال برفقة أمهاتهم بما أن الذكور في عائلاتهم قرروا عدم السفر إلى تركيا وسط انتشار كثير من الأخبار حول الاعتقالات العشوائية للذكور من السوريين وترحيلهم.

وصلت إلى ولاية هاتاي شذا الحازمي التي تعود أصولها لجدة، وهي طبيبة متخصصة بمعالجة النطق درست في الولايات المتحدة وتطوعت للعمل لدى مركز الملك سلمان، وقد كان وصولها قبل بضعة أيام من بداية مهمتها التي ستستغرق ثمانية أيام والتي ستقدم خلالها استشارات للمرضى بشأن عمليات زراعة الحلزون قبل إجرائهم لها، بالإضافة إلى إشرافها على تشغيل الجهاز وما يتبع ذلك من عمليات لإعادة التأهيل.

وفي مرحلة لاحقة من البرنامج، سيستدعى أطباء سوريون لحضور ورشات، بما يتيح للأطفال الذين أجريت لهم عمليات زراعة حلزون في الريحانية الحصول على الرعاية والمتابعة بالنسبة للأجهزة التي تم تركيبها لهم وذلك عند عودتهم إلى بلدهم.

"لم تتوفر أي مساعدة في حمص"

دهشت الدكتورة الحازمي، 28 عاماً، عندما اكتشفت بأن الأمهات اللواتي عشن في منطقة حرب طوال فترة امتدت لأكثر من عقد كن على علم مسبق بفرص معالجة أولادهن، وهذا ما دفعها للقول: "إن الأهالي الذين قابلناهم متعلمون ومثقفون جداً، حتى مع عدم حصولهم على أي تعليم رسمي، وذلك لأنهم يعلمون بأمر عمليات زراعة الحلزون ولهذا أتوا وهم بغاية الاستعداد لها حتى ولو كان مصدر معلوماتهم هو غوغل فحسب، إذ على الرغم من أنهم يعيشون في منطقة حرب، فإن وضعهم النفسي والعاطفي تحول إلى مصدر إلهام مهم".

جلست ثلة من السوريات برفقة أولادهن في الممر خارج غرف المعاينة بانتظار دورهن على أحر من الجمر حتى يتم تشغيل الجهاز المزروع في آذان أولادهن.

تحدثت أغلبهن عن تضحيات بذلنها وعن جهود كبيرة قدمنها حتى يساعدن أولادهن في ظل حرب دخلت اليوم عامها الثالث عشر وقتل بسببها أكثر من نصف مليون إنسان.

حرمت ميساء علي من ابنها عدي وعمره ست سنوات بعد طلاقها من زوجها، وكان عمر عدي أربع سنوات عندما التم لم شمل الأسرة أخيراً، غير أنها اكتشفت بأن ابنها أصم.

وثقت منظمات إغاثية طوال فترة الحرب حالات الإعاقة الكثيرة بين الأطفال السوريين، والتي شملت حالات فقدان السمع من جراء التعرض لأصوات الأسلحة المتفجرة والتي بوسعها أن تضر بسمعهم بكل سهولة.

وبالإشارة إلى مدينة حمص السورية تقول الأم: "بحثت في كل مكان، فلم أجد أي مساعدة في حمص، إذ كنت أسجل على جميع البرامج، إلى أن وجدت رابطاً لهذا الموقع الإلكتروني وسجلت من خلاله".

تعرضت ميساء من جديد لانفصال عن عدي عندما هدد طليقها المتزوج من عدة نساء بتولي أمور حضانته في حال عودتها إلى سوريا مرة أخرى، وعن ذلك تحدثنا فتقول: "قال لي زوجي: إن عدت من تركيا فسأنتزع الطفل منك، لكن أهم شيء بالنسبة لي هو أن يتحسن وأن يسمع، فهذا ما سيفرحني حتى لو بقيت عزباء".

وبعد يوم على العملية، قام الأطباء بتركيب الجزء الخارجي من الزرعة خلف الأذن ثم شغلوا الجهاز للمرة الأولى، ليختبروا حدوده العليا، وليعلموا الطفل كيف يشغله قبل تخفيض الصوت.

يحتاج الدماغ إلى وقت ليتكيف مع تدفق المعلومات الجديدة بحسب ما شرحته الدكتورة الحازمي، وقالت: "في البداية سيسمع الأصوات العالية فحسب" ثم تابعت من غرفة المعاينة أثناء انشغال عدي باللعب بلعبة الحلقات: "لذلك، نعطي الدماغ وقته حتى يتكيف، وخلال ثلاثة أشهر سيبدأ باكتشاف الأصوات العالية عند الحديث، وبعد مرور ستة أشهر سيبدأ باستيعابها".

بحذر شديد وضع أحد الأطباء الجهاز الخارجي الأسود في راحة يد عدي ليريه شكله قبل أن يضعه خلف أذنه، وأثناء وصله للجهاز بسلك موصول إلى حاسوبه المحمول، بدأ يرفع الصوت رويداً رويداً من خلال البرنامج الموجود على حاسوبه، وهو يراقب الطفل ليرى رد فعله.

وعندما نظر عدي إليه، هتف الطبيب باسمه، فارتجف الصغير وردد اسمه، فضجعت الغرفة بالتصفيق والضحك.

وبعد مرور لحظات، بدأ صدى حالة البكاء فرحاً يتردد عبر جدار الغرفة المجاورة وذلك عند تشغيل جهاز لزرعة أخرى، ليعطي ناجياً صغيراً آخر من الحرب السورية فرصة ليسمع ما يدور حوله في العالم.

المصدر: The Telegraph