icon
التغطية الحية

الجولان المحتل.. بين ضغوط "الأسرلة" وصمود الجذور السورية

2024.09.06 | 05:43 دمشق

484
إسطنبول - تمارا عبود
+A
حجم الخط
-A

عادت أزمة الهوية في الجولان السوري المحتل للظهور بقوة مع تصاعد الحرب بين حزب الله وإسرائيل، حيث أصبحت المنطقة مسرحًا لمواجهات عسكرية متكررة. يجد سكان الجولان أنفسهم أمام ضغوط متزايدة للاختيار بين هويتهم السورية ومحاولات إسرائيل فرض الهوية الإسرائيلية عليهم. ويتمسك الكثيرون بجذورهم السورية رغم الضغوط، مما يسلط الضوء على الصراع الداخلي الذي يعيشونه في ظل التوترات الإقليمية المتصاعدة.

يبلغ عدد السوريين المقيمين في الجولان أكثر من 19 ألف نسمة حسب موقع وزارة الخارجية والمغتربين التابعة للنظام السوري، ووفق ما ذكر الصحفي الإسرائيلي شلومو مان في مدونته "ناموش"، يُقدّر عددهم حتى عام 2020 بـ 25 ألف نسمة، يحمل 12% فقط منهم الجنسية الإسرائيلية. بينما تشير منظمة "شوميريم" الإسرائيلية المتخصصة بالصحافة المعمقة الاستقصائية في تحقيق لها، إلى أن إجمالي عدد السكان السوريين يبلغ نحو 21 ألف نسمة، حصل 4300 شخص، أي 20% منهم، على الجنسية الإسرائيلية وفقًا لبيانات هيئة السكان والهجرة في يوليو 2022.

وأظهرت البيانات تزايدًا في طلبات الحصول على الجنسية من قبل السوريين خلال الفترة ما بين 2017-2022، فقد قفز عدد الطلبات من 75-85 في 2017-2018 إلى نحو 239 في 2021. كما تم تقديم أكثر من 200 طلب خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2022، وفقًا لما ذكرته المنظمة.

وأضافت في التحقيق أن عمليات تجنيس السوريين هناك جرت ببطء شديد منذ إعلان قرار الضم الإسرائيلي عام 1982، حيث تم تجنيس أربعة سوريين فقط في الجولان عام 2010. وفي السنوات الثلاث التالية، تراوح عدد المجنسين بين 14 و18 شخصًا فقط سنويًا، وبدأ العدد في الارتفاع ببطء بعد "الحرب السورية".

وفي ضوء إجابته على سؤال "ما الذي أدى إلى التغيير؟"، قال الدكتور في الجامعة العبرية يسري هزران لمنظمة "شوميريم" إنه لا توجد "أسرلة" كما حددها المجتمع في الجولان. "إن انهيار الدولة السورية والدمار دفع السوريين في هضبة الجولان إلى اختيار الخيار 'العقلاني' وهو الاندماج في الفضاء الإسرائيلي. هذا تكامل نفعي ذرائعي. يمكنني تلخيصه في أربع كلمات: استيعاب الواقع، وليس الصهيونية."

وأضاف أنه خلال استطلاع أجراه من أجل دراسة خاصة به تحلل الاتجاهات والتغيرات في المجتمع السوري في الجولان، "سألت عن التعريف الذاتي، ومعظم السكان يعرّفون أنفسهم على أنهم دروز سوريون أو عرب دروز. لذا، وعلى الرغم من الأزمة الكبيرة في سوريا، فإنهم يتمسكون بالهوية الوطنية السورية. فالتجنس بالنسبة لهم ليس تعبيرًا عن الأسرلة أو الصهيونية، بل هو خيار عقلاني يهدف إلى تحسين الوضع وجودة الحياة."

 تاريخ أزمة "الهوية الجولانية"

تعود جذور أزمة الهوية لأبناء الجولان السوري المحتل إلى أحداث نكسة حزيران أو حرب الـ67، كما تُعرف في بعض البلاد العربية. وهي الحرب التي قادتها جيوش كل من مصر وسوريا والأردن والعراق ضد الهجمات الإسرائيلية على الدول العربية في الخامس من حزيران عام 1967، وأدت إلى احتلال إسرائيل لسيناء في مصر وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية في فلسطين، بالإضافة إلى استيلائها على قرى وأراضي الجولان السوري بما فيها مدينة القنيطرة.

يقول الباحث تيسير خلف في كتابه "تاريخ الجولان المفصل" الصادر عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة، إن "العدوان الإسرائيلي على الجولان كانت نتيجته نزوح 30 ألفًا من السكان أثناء المعارك إلى دمشق ودرعا، ونهب مدينة القنيطرة. وخلال الأشهر الستة التالية، طردت إسرائيل بالقوة 90 ألف شخص بعد أن جردتهم من كل ما يملكون، وأبعدتهم عن الجولان ليلتحقوا بمن سبقوهم. ولم يبقَ سوى سبعة آلاف في القرى الخمس وهي مجدل شمس، عين قنية، بقعاتا، مسعدة، والغجر."وفي حين تعتبر "الغجر" القرية الوحيدة التي معظم سكانها ينتمون للطائفة العلوية تعد بقية من الدروز.

وفي مقال بعنوان "طرد السوريين من الجولان" للصحفي الإسرائيلي "شلومو مان"، نقل في سياق توثيق الاعترافات الإسرائيلية حول جريمة التهجير، العديد من الاعترافات من قبل عدة شخصيات إسرائيلية، بمن فيهم المؤرخة تابيثا باتران، التي أكدت بدورها أن إسرائيل طردت 95 ألف مدني من الجولان عبر تدمير وقصف المنازل. وسقط العشرات بين قتيل وجريح، كما أعدم مدنيون آخرون (في قرية الدردارة ومدينة القنيطرة).

كما تم قطع الإمدادات والمياه عنهم، وتم تعذيب وإعدام عدد من الأشخاص أمامهم. وتم ترحيلهم حيث تركوا كروم العنب وبساتين التفاح وحقول القمح، والأبقار والأغنام، ومخازنهم المليئة بالطعام. تركوا أيضًا ملابسهم وذكرياتهم الشخصية تحت تهديد الجيش الإسرائيلي.

 

يبيب
الجيش الاسرائيلي في قرية الزعورة، إحدى السكان المحليين تغادر منزلها. الصورة:أرشيف الجيش الإسرائيلي-مدونة ناموش

 

252
جندي من الجيش الإسرائيلي أمام أحد سكان قرية سوكوبيا. [ تصوير بنيا بن نون].- مدونة ناموش

 

حاولت القوات السورية استعادة هضبة الجولان المحتل كاملة خلال "حرب تشرين " عام 1973، لكن النتيجة اقتصرت على استعادة مدينة القنيطرة التي هدمها الجيش الإسرائيلي قبل مغادرتها في أيار 1974، بموجب اتفاق "فض الاشتباك".

 

545
لاجئون  سوريون يغادرون قريتهم.
[مصور غير معروف]. -مدونة ناموش-

 

وفي محاولات تشريع احتلالها للجولان وفرض الهوية الإسرائيلية على المكان وأهله، أقرت إسرائيل "قانون مرتفعات الجولان" أو ما يعرف عربياً بقرار الضم، في ديسمبر 1981، والذي فرض السيادة الإسرائيلية على هضبة الجولان، لتصبح جزءاً من الدولة الإسرائيلية، وهو ما رفضه مجلس الأمن حسب القرار رقم 497، واعتبره قراراً ملغياً وباطلاً على الصعيد الدولي.

أما الرفض الشعبي فجاء على شكل إضراب شامل أعلنه السوريون  في الجولان يوم 14 من شباط عام 1982.

وبحسب دراسة أعدتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان، "الحياة تحت الاحتلال: مرتفعات الجولان"، فإن محاولات "الأسرلة" المباشرة في الجولان لم تبدأ مع إعلان قرار الضم، وإنما تفاقمت في عام  1977، مع فوز حزب الليكود الإسرائيلي في الانتخابات.

بدأت الحكومة الجديدة آنذاك بالضغط على الناس لطلب الجنسية الإسرائيلية، فهي وبحسب الدراسة نفسها،  لم تُرد الضم من جانب واحد، بل "استجابة للرغبات المحلية".

وبدأت السلطات في هذه الفترة، وعلى نطاق واسع، الربط بين الجنسية والحياة اليومية: لم يكن في الإمكان الحصول على رخصة سياقة من دون حيازة بطاقة هوية شخصية مذكور فيها أن الجنسية إسرائيلية. ولم يكن في الإمكان السفر داخل إسرائيل من دون مثل هذه البطاقة.

وفي الوقت نفسه، حصلت القلة التي تعاونت مع السلطات على امتيازات خاصة مثل ضرائب مخفّضة، وحصص أكبر من المياه، وأجوبة سريعة تتعلق بتصاريح البناء".

مقاومة "الأسرلة" 

تصاعدت وتيرة المقاومة المدنية لأهالي الجولان تجاه التضييق الإسرائيلي خلال عام 1981،إذ صدرت "الوثيقة الوطنية للمواطنين السوريين في مرتفعات الجولان السورية المحتلة"في 25 من آذار 1981.

ونصت الوثيقة على إعلان أهالي الجولان تمسكهم بهويتهم ولغتهم العربية التي ليس لهم لغة قومية سواها، حسب ما جاء في الوثيقة، وأعلنوا كذلك رفضهم "لابتلاع شخصيتهم الوطنية". كما اعتبر الموقعون على الوثيقة أن هضبة الجولان المحتلة هي جزء لا يتجزأ من سورية العربية.

واعتبروا أن كل من يتجنس بالجنسية الإسرائيلية أو يخرج من مضمون هذه الوثيقة يكون مطروداً من مجتمعهم ويحرم التعامل معه، إلى أن يقر بذنبه حسب قولهم، ويرجع عن خطأه ويطلب السماح من مجتمعه ويستعيد اعتباره وجنسيته الحقيقية.

لعبت الوثيقة دوراً هاما في نجاح المقاومة المدنية لمحاولات "الأسرلة"، حيث بنت من خلال هذه البنود، الذاكرة النضالية الجمعية، ورسمت الخطوط الحمراء للمجتمع العربي السوري، كما وثقت الرابطة الاجتماعية على أسس وطنية واضحة جعلت التوجه نحو الاستجابة للسياسات الإسرائيلية لأي فرد أو جماعة توازي خطوة طرده من العائلة والمجتمع الذي تعد طبيعته القروية مناهضة لقدرة الأفراد على الانسلاخ الهوياتي والمجتمعي أصلاً.

7575

الإضراب الشامل 1982…"المنية ولا الهوية"

شعار أطلقه أهالي الجولان خلال إضراب  14 شباط عام 1982، تعبيراً عن رفضهم للهوية الإسرائيلية وبالتالي رفضهم لقرار الضم. 

وحسب ما ذكر الباحثان تيسير مرعي وأسامة حلبي في دراسة "الحياة تحت الاحتلال: مرتفعات الجولان" التابعة لمؤسسة الدراسات الفلسطينية، فإن رد الاحتلال على الإضراب جاء عبر فرض سلطات الاحتلال الحصار الشامل على الجولان يوم  25 شباط 1982، أوقفت خلاله كل أشكال المواصلات من المنطقة وإليها؛ ولم تسمح بإدخال الطعام أو الدواء؛ وقطعت الكهرباء والماء. كما قامت وحدات الجيش الإسرائيلي بالتنقل بين بيوت القرى لتوزيع الهوية الإسرائيلية لكل فرد، بدلاً من تلك العسكرية التي منحتها للأهالي عقب احتلال الجولان عام  1967 بعد سحب الهوية الشخصية السورية التي كانوا يملكونها آنذاك. لكن وبحسب ما نقلته الدراسة فإن المحاولة فشلت فشلاً ذريعاً، وسرعان ما تناثرت بطاقات الهوية المرفوضة في شوارع القرى الأربع جميعاً.

استمر الإضراب نحو ستة أشهر لينتهي يوم 21 تموز  1982، بعد فشل المشروع الإسرائيلي لتجنيس أبناء الجولان. ولا يرد في هوياتهم الحالية التي تُعرف "بالهوية الزرقاء"، ذكر الجنسية الإسرائيلية وإنما يُعتَبروا "مقيمين في إسرائيل".

ويحملون بطاقات تعريف إسرائيلية حسب ما ذكر الأسير السوري السابق في السجون الإسرائيلية "وئام عماشة" خلال استضافته في بودكاست "في الظل"، وأضاف، أن هذه البطاقات تحتوي على الاسم الشخصي الكامل ورقم الهوية، ولا يحمل بها جنسية معينة. مما يجعل مصطلح "بدون جنسية" ينطبق على حاملينها أحياناً. كما أنه يُعتَبر مقيماً في هذه الأرض رغم أنه صاحب المكان والحق التاريخي به، لكن أصبح المحتل هو المواطن وصاحب الحق، بحسب تعبيره.

وتطرق في الوقت نفسه، لمسألة المساحات الجغرافية المفتوحة للتنقل لحملة بطاقات التعريف، حيث ذكر أنهم لا يحملون جوازات سفر. ومن أراد السفر منهم، يتم منحه بطاقة عبور محددة بفترة زمنية معينة ولها نظام قانوني مختلف في الدوائر الإسرائيلية.

أما بالنسبة للاعتراف الدولي فيها، ذكر عماشة أن الأمر مقتصر على الاتفاقيات الدولية مع إسرائيل بخصوصها.

وأضاف، مؤخراً، سمحت السفارة المصرية لأصحاب هذه البطاقة بالدخول للأراضي المصرية مثلاً. بينما حامل الجنسية الإسرائيلية يستطيع السفر وزيارة أي مكان بالعالم بشرط ألا يكون من الدول المعادية لإسرائيل.

ولا تقتصر التضييقات على السفر، بل تمتد لتفاصيل الحياة اليومية لمن لا يحمل الجنسية الإسرائيلية. كما يُعتبر محروماً من حقوقه السياسية مثل الترشح لانتخابات السلطات المحلية.

مصير الهوية السورية في الجولان المحتل

بعد مرور  57  عاماً على احتلال الجولان و 42 عاماً على إصدار الوثيقة الوطنية، شهدنا الإصرار على الموقف الشعبي السوري الرافض لإسرائيل خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة للجولان، على خلفية أحداث مجدل شمس، حيث احتشد عدد من أهالي القرية احتجاجاً على زيارته يوم 29 تموز 2024، وبحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية، رفضت عائلات الضحايا في القرية مسبقاً طلب نتنياهو ترتيب لقاء يجمعهم بهدف التعزية بينما استقبل الرئيس الروحي للطائفة الدرزية الشيخ موفق طريف، بنيامين نتنياهو في بيت التراث الدرزي في قرية جولس الجليلية في نفس اليوم، بحسب ما نشر ديوان رئاسة الوزراء الإسرائيلية.

757
صورة من اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالشيخ موفق طريف وعدد من وجهاء الطائفة

 

ينعكس هذا التباين في موقف الأهالي وموقف القيادة الدينية الدرزية في الأراضي المحتلة على الشارع السوري في الجولان بطبيعة الحال، بين مؤيد ورافض للتقارب العربي الإسرائيلي في هضبة الجولان المحتل وكذلك بين مؤيد ورافض للهوية الإسرائيلية، ولكل أسبابه.

وفي سياق الجدل الحاصل حول جنسية سكان الجولان، خلال مؤتمر صحفي للناطق بلسان الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري بخصوص أحداث مجدل شمس، أشار في حديثه عن الضحايا إلى كونهم "مواطنين من دولة إسرائيل" في حين قاطعه مراسل القناة  12 الإسرائيلية آفري جلعاد بقوله "ليسوا إسرائيليين". وكتب المراسل بعد ذلك على صفحته في الفيسبوك أنه كان يتحدث لزميله ولم يقصد توجيه كلامه للبث لأن الميكروفون يكون مغلقاً عادة في وقت التصريحات وأضاف في المنشور نفسه، " كنت أعني أنهم سكان وليسوا مواطنين لأنهم على حد علمي مواطنون سوريون.أفهم أيضًا أن العديد من سكان مجدل أصبحوا مواطنين، وأيضًا أن التصريح يعتبر مسيئًا".

من جهته، قال الشيخ سامي أبي المنى، شيخ عقل الموحدين الدروز خلال مقابلة خاصة على قناة الجديد عقب أحداث مجدل شمس، أنه لا يمكن للدروز في أي مكان الخروج من الثوب العربي الإسلامي "هذه هويتنا، هذا هو انتماؤنا، هذا هو إرثنا وهذا ما يجب أن يرسخ في ذهن أبنائنا وأجيالنا، لمقاومة المخططات الإسرائيلية…مهما تطورنا ومهما تعاطينا مع الواقع لكننا لا نقطع جذورنا".