تشكل لبنان بتفاصيله الحالية وحدوده المعروفة في لحظة تاريخية اتسمت بانحدار النفوذ الإسلامي وتعاظم النفوذ الغربي مع الاستعمار فشكل تحالف الموارنة مع الفرنسيين الحلقة الأساس لتبلور شكل لبنان الحالي من دون الانتباه لعوامل تفجر عديدة في هذا الكيان الصغير الهش والتي ما تلبث أن تتفاعل عند كل منعطف أو تتغير بميزان القوى الداخلي أو الخارجي.
لبنان وطروحات النظام الجديد
وصل لبنان اليوم لإحدى هذه الانعطافات ببلوغه الانهيار التام لتطرح كل الأحزاب وحتى الدول بشكل جدّي حلولاً لنظام لبنان السياسي، لكون الجميع يعتقد أن الخلل ينطلق من النظام نفسه، ولكن المشكلة تكمن في قراءة كل طرف لمشكلة النظام وبالتالي الحل.
يعود المسيحيون اليوم لقراءة الأزمة اللبنانية من البوابة الطائفية تحت مظلة القول باستحالة وجود حل مع حزب الله، والذي استحوذ وشريكه الشيعي على 95% من أصوات المقترعين الشيعية في الانتخابات النيابية الأخيرة، وبالتالي فالأفضل الانفصال وهو ما بدأت القوات اللبنانية تدرسه داخليا على أعلى المستويات وبدأت تطرحه شعبيا عبر الإعلام عبر طرح تقسيم بلدية بيروت بين شرقية (مسيحية) وغربية (مسلمة) ليس من باب إنفاذه بالفترة الحالية بل من باب إسماع الجميع بأن الطرح جدّيّ ويمكن أن ينسحب على كل لبنان.
لا تريد القوات اللبنانية الخروج للعلن بشكل كبير بطرح الفيدرالية إلا بعد إنجاز تفاصيله داخليا واختيار اللحظة المناسبة لطرحه بدلا من خروجه مشوّها، إلا أن القوات تؤكد أن الطرح ليس طرحها فحسب بل تجتمع عليه كبرى الأحزاب المسيحية كالتيار الوطني الحر الذي وعلى الرغم من اختلاف الأجندات يدعم مثل هذه "الحلول".
تاريخ من الانعطافات
بالعودة إلى الماضي اللبناني فأول انعطافة في التركيبة اللبنانية كانت مع إعلان الميثاق الوطني والذي أعطى شيئاً من التوازن الطائفي للنظام اللبناني لتأتي الصفعة الأولى مع أزمة الـ 1958 حيث انقسم لبنان بين الغربي والناصري لتطفوَ على السطح النزاعات الطبقية بالنكهة الطائفية. ومع أن الأزمة حلت سريعا فإن الجمر عاد ليشتعل في عام 1975 في حرب أهلية طاحنة استمرت 15 سنة خلفت وراءها آلاف الضحايا، والجرحى، والمهاجرين كما عمّقت الجراح الطائفية في لبنان إلى أن أوصلت ذروة الحرب الأطراف المسيحية اللبنانية ليقين باستحالة العيش المشترك وضرورة اعتماد التقسيم المقنع، أي الفيدرالية على الطريقة اللبنانية. لم تتغير هذه الفكرة لدى المسيحيين إلا عندما شعروا بإمكانية العودة لحكم لبنان، كل لبنان، بخاصة مع وصول الرئيس بشير الجميل للرئاسة ولو لأيام معدودة ليستمر حديث التقسيم يتأرجح بحسب الظروف.
انتهت الحرب اللبنانية من دون التقسيم بل مع التأكيد على العيش المشترك وإقرار استقلال لبنان النهائي ووجهه العربي. في ذلك الوقت استطاع حافظ الأسد الإمساك بسوريا ولبنان في لحظة من أفول نجم صراع الكيانات العظمى في العالم ودعم عربي قوي للطائف والمصالحة.
اختلاف الظروف
بعد أكثر من 30 سنة من تلك اللحظة التاريخية وبمعطيات دولية وعربية مختلفة يعود ملف الفدرلة إلى الواجهة ولكن بمعطيات عربية ودولية مختلفة بل معاكسة.
في ثلاثين سنة استطاع حزب الله إحكام السيطرة على لبنان كما عادت الأحزاب المسيحية للساحة السياسية مع تراجع الدور السني صاحب الحاضنة العربية التاريخية. شكل ذلك ارتفاعا لشدة المنافسة على السلطة السياسية في لبنان كما ارتفعت حدة الفساد لكثرة أطرافه.
طرح الفيدرالية اليوم يأتي بسياق طرح التقسيم في دول عربية مختلفة وإن بشكل مقنع كما في ليبيا، سوريا، العراق وغيرها. في هذا الجو المعنون بتصغير الكيانات واتجاه الدول الكبرى نحو تصغير الدول في المنطقة تتماشى الفيدرالية في لبنان مع مثل هذه الطروحات المدعومة.
على الصعيد الداخلي تقع إشكالية مثل هذا الطرح بكون حزب الله يمتلك البلوك المحاذي لفلسطين المحتلة وهو ما يقلق الدول الغربية ويجعلها تفضل شكل النظام اللبناني الحالي الذي يلجم، ولو بشكل محدود ومحدود جدا، تحركات حزب الله المجبور على البحث عن حلفاء وداعمين من غير طوائف.
أما حل هذه المعضلة فيكمن في عملية الترسيم البحري الجارية حاليا والتي سيتبعها الترسيم البري وبالتالي سحب فتيل النزاع بين حزب الله والكيان.
وعليه، فإن الاتجاهات الدولية ربما تدعم مثل هذه المبادرة في لبنان، إلا أن واقع الحال يؤكد صعوبة التنفيذ وطول أمده كون حزب الله وإيران لا تدعم مثل هذا الطرح كونها تحكم اليوم كل لبنان ولا يلائمها استئصال جزءٍ من نفوذها لمصلحة الآخرين والذي قد يفصل البقاع عن الجنوب أو يفصل الجنوب عن بيروت وهي من الخطوط الحمر للحزب. إضافة إلى ذلك، فالفيدرالية في لبنان تحتاج لسنوات وسنوات لبلورة معناها، فالدفاع والخارجية تكون مشتركة في الأنظمة الفيدرالية وهو ما يعني أن مواطن الخلاف الرئيسي في لبنان ستظل على حالها إلا إذا كان المطروح عنوانه الفيدرالية وفحواه التقسيم شبه التام وهو المتوقع. أما أصحاب الطرح وعند تقديم مثل هذا السؤال لهم تأتي الإجابة بأنهم لا يريدون التقسيم بل الفيدرالية التي تساعدهم على التنعم الاقتصادي بغض النظر عن الاحتقان الطائفي والسياسي وهو ما يثبّت اللبناني، خاصة المسيحي، في أرضه.
طموحات بعيدة المنال
في ظل الصراعات اللبنانية القائمة، من غير المتوقع أن تحدث تغيرات كبيرة في النظام أقلّها في الفترة القادمة ولا حتى الوصول لطائف جديد بل بتغييرات على مستوى أدوات عمل النظام، فتغيير النظام بحاجة لتوافقات كبيرة وهي لن تتوفر في سنوات. فطموحات التقسيم وإن كانت تتقاطع مع أجندات دولية في الفترة الحالية إلا أن إنزالها على أرض الواقع يبدو بعيد المنال لكنه يؤسس لأجيال قادمة من ناحية زرع ثقافة ومشروع ربما يبصر النور بعد عقود.