في ظل تصاعد الحروب في المنطقة، يستمر اللاعبون في التحرك على رقعة الشطرنج الجيوسياسية، حيث يسعى كل لاعب إلى تحسين ظروفه لتعظيم مكاسبه قبل الوصول إلى خاتمة هذه المرحلة الحرجة. الضغوط الحالية تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل المستقبل السياسي والاقتصادي للعقد القادم، وهو الذي لطالما أكد عليه هنري كيسنجر، الذي كان يرى أن الحروب هي المدخل الرئيسي لتأسيس واقع جديد.
في عالم التكنولوجيا والاتصال العالمي المتزايد التداخل، شهدت التيارات اليمينية صعودًا ملحوظًا، وهو اتجاه يُتوقع أن يستمر ويتصاعد مع تفاقم الأزمات الداخلية في بلدان "العالم الأول". إذ يبحث الناس عن بديل للقيادات الحالية ويلقون باللوم على المهاجرين لتدهور أوضاعهم.
في الشهر الماضي، حقق اليمين مكاسب كبيرة في انتخابات البرلمان الأوروبي، مما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة. إلا أن محاولاته لاستعادة السيطرة باءت بالفشل، حيث تراجع حزبه إلى المركز الثالث في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية، التي تصدرها الحزب اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان بـ 33% من الأصوات، تلاه تحالف الجبهة الشعبية الجديدة بـ 28%.
هذا الاتجاه ليس فريدًا لفرنسا فقط، بل يعكس حالة عامة في أوروبا، في ظل القلق المتزايد من احتمال عودة دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، خاصة بعد الأداء الضعيف للرئيس جو بايدن في المناظرة الأولى. وتؤكد القاعدة السياسية أن اقتراب المنافس من الصدارة، حتى وإن لم يفز، يفرض ضغوطًا كبيرة على الحزب الحاكم، قد تجبره على تغيير مساره لتجنب المزايدات.
من أهم جوانب صعود اليمين عالميًا البحث عن بديل، لذلك لم تسلم منه تركيا وهي التي تشهد في كل انتخابات تراجعًا لحزبها الحاكم إلى أن خسر الأخير بشكل واضح في الانتخابات البلدية هذا العام.
على الجانب الآخر، وتحت أعين الولايات المتحدة الأميركية، سمح النظام السوري وداعموه لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) وحزب العمال الكردستاني بالتمدد، ردا على الدعم التركي للمعارضة السورية. تلعب قسد دورًا كبيرًا في دعم النظام السوري اقتصاديًا، خاصة عبر توريد النفط، رغم العقوبات الأميركية المعروفة بقانون قيصر. هذا الدعم يثير قلق تركيا، التي تجد في القوات الكردية تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
رغم عدم تلبيتها للمطالب التركية المتعلقة بنفط قسد، لم تعارض الولايات المتحدة إجراء انتخابات محلية اقترحتها قسد، بل اكتفت بالضغط لتأجيلها. ترى تركيا في قسد والجماعات الكردية المسلحة تهديدًا كبيرًا، وتتخذ خطوات لتعزيز أمنها القومي على حدودها الجنوبية مع سوريا والعراق.
في هذا السياق، صرّح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للصحفيين قائلاً: "سنعمل معًا على تطوير العلاقات مع سوريا"، مؤكدًا أنه "من المستحيل تمامًا أن نقول إن ذلك لن يحدث غدًا، بل سيحدث مرة أخرى. ليس لدينا أي نية للتدخل في الشؤون الداخلية لسوريا".
تلقف رئيس النظام السوري بشار الأسد هذه التصريحات ليؤكد بأن "سوريا منفتحة على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة بين سوريا وتركيا والمستندة إلى سيادة الدولة السورية على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كل أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى". هذا الانفتاح التركي على النظام السوري وعلى الرغم من أنه يأتي في إطار التحرك على رقعة الشطرنج الكبرى إلا أنه مرتبط بشكل مباشر بصعود اليمين عالميًا.
من أهم جوانب صعود اليمين عالميًا البحث عن بديل، لذلك لم تسلم منه تركيا وهي التي تشهد في كل انتخابات تراجعًا لحزبها الحاكم إلى أن خسر الأخير بشكل واضح في الانتخابات البلدية هذا العام. عليه، أصبح صوت المعارضة أقوى وأعلى وأي تحرك للمعارضة مؤثر ويثير حفيظة وقلق العدالة والتنمية ويجبره على التفاعل معه بما يفيده في بعض الأحيان وما يضره في كثير منها.
في المحصلة، ليست تركيا بدعًا من الدول وإن المسار العالمي لا يدعو للتفاؤل وعلى كل لاعب صغيرًا كان أم كبيرًا أن يفكر في مصلحته وألا يتحول إلى "الكرة" التي تتقاذفها الدول الإقليمية والدولية.
إن تعاظم نفوذ وقوة المعارضة في تركيا جعل كلمتها أكثر قوة وتأثيرًا فساهمت بشكل كبير في دفع أردوغان لقطع الطريق على المعارضة والمزايدة عليه. لم يكتف الرئيس أردوغان بالتصريح، بل تم تشديد الإجراءات القانونية تجاه اللاجئين السوريين وهو ما أعطى زخمًا للحملات العنصرية في الطرقات.
ببساطة، ستنعكس تلك الإجراءات على تركيا كما انعكست سابقًا من خلال التوترات الأمنية وهجرة رؤوس الأموال العربية -خاصة أن الحملات العنصرية فيها لا تفرق بين عربي وآخر- وهو ما يتوقع أن يستمر، بل أن يتعاظم، وبالتالي يساهم في تعقيد الواقع التركي الداخلي أمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا ويؤثر على العدالة والتنمية وحكمه ومستقبله.
في المحصلة، ليست تركيا بدعًا من الدول وإن المسار العالمي لا يدعو للتفاؤل وعلى كل لاعب صغيرًا كان أم كبيرًا أن يفكر في مصلحته وألا يتحول إلى "الكرة" التي تتقاذفها الدول الإقليمية والدولية إن كان يريد الخير له ولمن يمثل.