icon
التغطية الحية

عن فشل النظام السوري في إدارة الاقتصاد.. أسباب الانهيار

2023.09.13 | 14:33 دمشق

مصرف سوريا المركزي في العاصمة دمشق
"مصرف سوريا المركزي" في العاصمة دمشق
تلفزيون سوريا - رفعت عامر
+A
حجم الخط
-A

سوريا التي اشتهر نظام الحكم فيها بالاستبداد المطلق وحكم العائلة/الفرد لم تشهد بعد انقلاب الأسد الأب على الحكم عام 1970، إلى توريث الأسد الابن عام 2000، أي مؤسسات تعمل باستقلالية وبعقل مؤسّسي.

بل كانت الدولة شبيهة بمزرعة خاصة، البشر فيها ليسوا أكثر من "عبيد" يعملون لصالح المالك مقابل أجور بالكاد تكفي للبقاء على قيد الحياة لدى القاعدة الواسعة منهم مع بعض المزايا والعطاءات للقسم الثاني القليل منهم مقابل أدوارهم في حماية رأس الهرم من امتعاض "العبيد" أو تململهم باستخدام وسائل وأدوات متعددة منها: القمع والقسر المباشر، السجون والتعذيب, التشريد والتهميش، وغيرها من أساليب تعتبر ماركة مسجلة لعائلة الأسد في إنتاج واستخدام وتوزيع وتعميم القمع والعنف والإرهاب، مستخدماً كل الوسائل المعروفة في تاريخ نظم الحكم الاستبدادية والنازية إضافة إلى أنواع من التعذيب سيكتب عنها المؤرخون لاحقاً.

هل الانهيار الاقتصادي الحاصل في سوريا وتدهور قيمة العملة السورية كنتيجة لهذا الانهيار سيؤدي إلى سقوط النظام؟ هل يملك بشار الأسد من الموارد المالية ما يؤهله لخوض أية معركة جديدة مع الشعب السوري؟

في مثل هذه النظم كقاعدة عامة معروفة لا يسقط النظام السياسي بعامل تدهور الاقتصاد فقط، وإنما يزيد هذا التدهور في تفسّخه الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ويبقى رأس الهرم في السلطة ريثما تتوافر عوامل أخرى خارجية وداخلية، ذاتية وموضوعية، ثم تنهيه بضربة قاضية.

فهل هذه المتغيرات الدولية والإقليمية ستصب في مصلحة التحوّل من نظام الاستبداد إلى آفاق أخرى تصب في مصلحة السوريين، على عكس ما كان عليه الوضع عام 2011؟

سنحاول أولاً الإجابة عن أسباب انهيار الاقتصاد السوري وهي:

  • حجم الفساد الذي تحوّل من أحد أدوات الحكم والسيطرة عند "الأسد الأب" إلى فساد شامل ومعمم وقاعدةً للحكم عند الوريث الابن، حتى أنّ الداعمين له من روسيا وإيران فقدوا الثقة في أنّ الأموال التي تُرسل إلى النظام يمكن أن تحقّق المراد منها قبل أن تتم عمليات فلترة من قبل الدائرة القريبة من رأس النظام إلى حساباتهم الخاصة ومن ثم تذهب إلى المؤسسات الحكومية على شكل رواتب، أجور ونفقات جارية أخرى.
  • شكّل إفلاس البنوك اللبنانية ضربة قوية للنظام السوري، ليس فقط لفقدان مدخرات السوريين الموجودة في تلك البنوك وإنما لشبكات المال والعملات الصعبة الموجودة لرئيس النظام وحاشيته من رجال أمن وعصابات وأمراء حرب كانت تموّل عمليات النظام العسكرية والأمنية التي بلغت في إحدى التقديرات نحو 40 مليار دولار.
  •  تحوّل الاقتصاد السوري مع بداية الثورة عام 2011 تدريجياً إلى اقتصاد حرب ركّزت "الدولة" فيه كل الموارد لخدمة الآلة العسكرية والأمنية ونشأت على أنقاضه سلطات الأمر الواقع وأمراء الحرب وصولاً إلى عام 2015، ليتحوّل الفاعلون الأساسيون في مناطق نفوذ النظام إلى مافيات ومجموعات خطف ونهب وتشليح على حساب أي نشاط اقتصادي حقيقي في الصناعة والزراعة.
  • باع النظام كل الأصول السيادية من موانئ ومطارات وسكك حديدية وغيرها بعقود تصل مدتها الزمنية إلى 75 عاماً ولم يبق منها شيء مهم يذكر، وهذا ما يفسّر عدم قدرة النظام للاستدانة حالياً من داعميه الذين وإن كانت مصالحهم في بقائه، لكنهم في نفس الوقت لا يقدّمون المال مجاناً.

لقد بلغت ديون النظام لروسيا وإيران مجتمعة قرابة 100 مليار دولار، سيضطر الشعب السوري إلى دفعها إذا سار الحل السياسي في سوريا ضمن مسارات أستانا.

  • فقدان الثقة لدى المستثمرين والمنتجين والمستهلكين في السوق بشكل عام يشكل أكثر من 50% في دوافع اتخاذ القرار، أما في سوريا وبسبب سوء الإدارة الاقتصادية (المالية والنقدية) فأوصلت عامل الثقة في العمل والنشاط الاقتصادي الرسمي في الأسواق إلى درجة الصفر، وأُخليت الساحة بالكامل للسوق السوداء بإشراف فروع الأمن وأمراء الحرب وزعماء المافيات "المصنّعة داخلياً".
  • فقدان القدرة على التنبؤ باتجاهات النشاط الاقتصادي لأسباب جذرها سياسي وأمني، مما يحبط أية محاولات للاستثمار في السوق السورية وينعكس سلباً على نسب البطالة التي وصلت إلى أكثر من 60% من دون حساب نسبة البطالة المقنعة.
  • تُغطى نفقات الموازنة العامة الجارية لحكومة النظام عن طريق التمويل بالعجز وتحديداً الطباعة النقدية بدون أي رصيد من العملات الصعبة أو على أساس حسابات النمو في الناتج المحلي الإجمالي مما سيدفع دوماً إلى التضخم النقدي وانخفاض قيمة العملة السورية مقابل العملات الأخرى.
  • لا وجود للبند الاستثماري في موازنة الحكومة السورية إلا على الورق مما يترك البنية التحتية للاقتصاد الوطني في حالة اهتراء متراكمة يصعب على هذا الأساس تحفيز النشاط الاقتصادي وخلق فرص عمل.
  • سياسة الإتاوات والتشليح والجباية التي حلّت كلياً محل السياسات الضريبية للحكومات تجعل من مناخ العمل والنشاط الاقتصادي بمجمله في دائرة الاقتصاد الأسود، الذي يشجع الفساد ويعمّقه لدرجة تعجز فيها "الدولة" عن قيامها بالأدوار المنوطة بها في خدمة المستثمرين والمنتجين والمستهلكين، وتتحوّل كل مؤسساتها إلى حاضنة للفساد الشامل.
  • غياب السوق كمنظومة استثمارية قانونية اجتماعية وسياسية لصالح شريعة الغاب المحكومة بهوامير المال الموالين للدائرة الضيقة للنظام، مما يبعد رجال الأعمال الذين لا ينضوون في هذه الدائرة.
  • مليونا موظف فيما يسمى بالقطاع العام، إضافة للأعداد الكبيرة في الأمن والجيش وهي في غالبيتها غير منتجة ولا تساهم في خلق أية قيمة مضافة للناتج القومي (البطالة المقنعة)، لكنها تهدف إلى ربط مصائر الناس والتحكّم فيها وجعلها تدور في فلك النظام الاستبداد، مدّعياً أنه يقوم بدور الرعاية الاجتماعية.
  • انخفاض العائد على تجارة "الكبتاغون" بعد دخول النظام في مسار التطبيع العربي.
  • صدور قانون محاربة الكبتاغون الأميركي بعد خطر انتشار هذه التجارة على الأردن ودول الخليج والعالم، مما ساهم في فقدان الأمل من هذا النظام في إيجاد حلول وتسويات اقتصادية مع الجوار ودول الخليج.
  • تدهور الإنتاج الصناعي والزراعي والسياحي والقدرة التنافسية للمنتج السوري كنتيجة حتمية لتلك السياسيات المتبعة من قبل النظام، والخطير في ذلك أن غياب الشفافية والوصول للمعلومة وتفشّي الفساد والمحسوبية يعطّل أي فرصة، ليست على الفاعلين الاقتصاديين في السوق فقط وإنما على النظام نفسه، لأن ذلك يجعل إمكانية توقفه عن هذه المنظومة وإعادة النظر بسياساته لو توفرت لديه النية لذلك أو كانت بضغوط وعوامل خارجية فهو أصبح مشلولاً وغير قادر على تسيير وتسليك الدورة الإنتاجية في البلاد.

نتيجة لتلك الأسباب انهار اقتصاد النظام السوري ولم يعد لديه رصيد في البنك المركزي وانخفضت عائدات التجارة بالمخدرات إلى أقل من النصف، في الأسابيع الأخيرة، ما دفعه إلى التخلّي عن سياسة الدعم كلياً ليس فقط كنتيجة طبيعية لتلك السياسات وإنما تصوّر أن ذلك سيكون حجة قوية أمام جامعة الدول العربية ودول الخليج تحديداً، للتسوّل وطلب الدعم.

الأسباب الفنية لانخفاض قيمة الليرة السورية أمام الدولار

قبل البدء في سرد العوامل الفنية التي أدّت إلى انهيار الليرة السورية، علينا التعرّض لفلسفة النظام وعقليته التي تحكم توجهاته وسلوكه ليس فقط في الجوانب السياسية والأمنية وإنما أيضاً في ممارساته لكل السياسات الاقتصادية كمنظومة متكاملة مصمّمة لتعمل فقط على بقائه في السلطة وليس لإنعاش الاقتصاد وتحسين دخل المواطنين، إذ أصبحت موارد "الدولة" كلّها موجهة لخدمة هذا الهدف الوحيد.

فعلى سبيل المثال، نقدّم هنا شرحاً موجزاً لآلية عمل السياسة النقدية للبنك المركزي السوري الذي تُبنى سياساته وقراراته من إدارات سياسية وأمنية في البلاد، فمن المتعارف عليه أن السياسات النقدية للبنوك المركزية في كل دول العالم قائمة على أربعة أهداف رئيسة وهي: ضبط الأسعار، الحد من البطالة، تشجيع الصادرات، تحفيز النمو.

غير أن البنك المركزي السوري لا يعمل بهذه الأهداف وإنما بهدف وحيد آخر هو تأمين العملة الصعبة من أجل تمويل الحرب، لذلك عمل على طباعة العملة السورية من دون أية حسابات اقتصادية لشراء أكبر كمية من الدولار من السوق الداخلية، ما زاد العرض النقدي لليرة مقابل الدولار وأدّى إلى انخفاض قيمتها وصولاً إلى السقوط الحر، في شهر آب الماضي، وتحكمه في ذلك عوامل عديدة:

  • بتوجهات نقدية محصورة بسعر صرف للمركزي قريب من سعر السوق بحيث يأتي إليه القسم الأكبر من الحوالات لتغطية آلة الحرب، وتوجه سياسي يهدف من خلال رفع سعر الصرف إلى إيجاد مبررات للتسوّل من داعميه والدول العربية التي أرادت تعويمه.
  • توجه أمني يُقصد من خلاله إثارة الشك والتوجس عند المواطن السوري على أن التجار وسماسرة المال هم المشكلة في تقلبات سعر الصرف وليس البنك المركزي، وبهذا يحوّل الاحتقان الداخلي نحو التجار وليس نحو الحكومة، من خلال هذا الفارق في سعر الصرف بين المركزي والسوق السوداء.
  • احتكار عمليات الاستيراد والتصدير باستخدام وسائل القطع الأجنبي المتوفرة في البنك المركزي وحصرها بأشخاص وجهات مرتبطة مباشرة بأسماء الأسد، ما ساهم في استخدام القطع المتوفرة للمضاربة والتربح من فارق الأسعار وليس لتوفير مستلزمات الإنتاج والاستهلاك من الأسواق الخارجية.

هذه الإجراءات وغيرها من إجراءات إدارية وأمنية في ضبط سعر الصرف دفع التجّار غير القريبين من دائرة "الولاء" في تأمين القطع الأجنبي لمعاملاتهم التجارية من السوق السوداء، ما أعطى الجهات الرقابية الحجة للتسلّط عليهم باستخدام أدوات الجباية والتشليح، التي لا تمت للضرائب بصلة مما دفع أخيراً مَن تبقّى من تجّار للخروج برؤوس أموالهم إلى الخارج.

وأخيراً وليس آخراً فإن صدور "القرار رقم 107" الذي ينص على تحويل العملات الصعبة حصراً عن طريق البنك المركزي ومنع تداوله بين المواطنين مع عقوبات جنائية تصل إلى الحبس 7 سنوات، ساهم بكل تأكيد في تقليل إرسال العملات الصعبة من المغتربين إلى أهاليهم.

هل بعد كل ذلك يمكن تبرير حجج النظام بأنّ العقوبات الاقتصادية على سوريا - خاصةً "قانون قيصر" - هي السبب في انهيار قيمة الليرة السورية، أم أنّ فساد منظومته وسوء إدارته هي السبب، فإن "قانون قيصر" لا يمنع استيراد الأدوية والمواد الغذائية ومستلزمات الزراعة، بينما تزخر السوق السورية بالموبايلات ومن أحدث الإصدارات وأغلاها، و"السيارات الفارهة التي يتباهى بها شبّيحة النظام في مسيراتهم المؤيدة".