"لو أجريتَ تجربة انتخابية في مجتمع بدائي، يتكون أفراده من أكلة لحوم البشر، فإن خيارات الناخبين ستذهب للمفاضلة بين أكل لحمكَ مشوياً أو مسلوقاً". هذا الاقتباس، وهو من الذاكرة، كان أقسى ما قرأته سابقاً كمثال عن النظرة التحقيرية المتطرفة للديمقراطية، وهو لم يصدر عن شخصية دينية تكفِّر الديمقراطية. فاحتقار رأي الأغلبية ليس حكراً على المتزمتين دينياً فحسب، وإنما هناك ميل لدى آخرين إلى تحقير الناخبين (الرعاع) كما يراهم هؤلاء.
وليس مفاجئاً وجود تيار علماني يعتقد بتلك الفكرة. بما أن هناك صوتاً لكل مواطن مهما كان شأنه، في الصندوق الانتخابي، فإننا لن نعدم من يرى أن أولئك الأقل تعليماً وثقافة، سيشدّون النتائج والتجربة برمتها نحو الخلف، عندما يدلون بأصواتهم. هناك ما يتسرب بين الكلمات فيعبّر عن تحقير للناخبين في المناطق الأقل حضرية، وتوصيفهم بلغة استعلائية. خطاب، رغم أنني لا أتفق معه، بل وأعتبره تمييزياً، إلا أنني بتفكيك بعضه، أجد أنه جدير بالنقاش.
يعتبر العلمانيون أن استغلال المحافظين للمد الديني، تلاعبٌ زائف بمشاعر المواطنين الأقل تعليماً وثقافة. لكن بالطبع هذا لم يمنع ممثل اليسار لانتخابات رئاسة الجمهورية، من العزف على ذات الوتر في أكثر من محطة
بعد نتائج الانتخابات التركية الأخيرة، كان يتسرب من هنا وهناك، مثل هذا الصوت. فمراكز المدن الكبرى، منحت صوتها لليسار العلماني المعارض، بينما مناطق الأناضول منحت أصواتها للمحافظين، الذين استطاعوا بفضل تلك الأصوات، المحافظة على سلطتهم. طبعاً لمناطق شرق وجنوب الأناضول ذات الغالبية الكردية شأن آخر يتعلق بالبعد القومي والهويّة، وهو أمر تاريخي لست هنا بصدده.
يعتبر العلمانيون أن استغلال المحافظين للمد الديني، تلاعبٌ زائف بمشاعر المواطنين الأقل تعليماً وثقافة. لكن بالطبع هذا لم يمنع ممثل اليسار لانتخابات رئاسة الجمهورية، من العزف على ذات الوتر في أكثر من محطة، لاستقطاب الصوت المحافظ، فادّعى الرجل، للطرافة، أنه من نسل الرسول، بل وإنه مؤمن أدّى العُمرة. أما حين احتاج أكثر من ذلك في الدورة الثانية للانتخابات، فقد ذهب بعيداً في خطاب عنصري متطرف، لم يكن معتاداً بالنسبة له سابقاً، من أجل استقطاب القوميين الأتراك. علماني يساري مؤمن عنصري! يا لاتّساق الخطاب.
يرى العلمانيون الأتراك أن الحداثة والانفتاح والحريّات العامة، بل ومحاولة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أحلامٌ تضيع بسبب أصوات المناطق الأقل تقدّماً في تركيا، التي رجّحت وصول حزب ذي ميل إسلاميّ إلى السلطة، مما سيشكِّل سداً في وجه تلك الطموحات. إذاً يعاني أغلبية سكان المدن الأكثر حضرية من أصوات المناطق الأقل تحضراً. وإن وجود مثل هذا التفاوت الاجتماعي الثقافي بشكل ملحوظ في المجتمع التركي، تسبّب بوجود ملاحظات ليست بالقليلة على الآلية الديمقراطية برمّتها. وإن كان عموم الجمهور، أو غالبيته متفقون على أن الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة للاختيار، فإن نتائج الانتخابات الديمقراطية لن ترضي بالضرورة العموم، بل الأغلبية الفائزة فقط.
ظهر بعد الانتخابات خطاب متشنج على نحو ما، يتحدث أحياناً عن لا عدالتها. لم يكن القصد هنا التزوير أو التلاعب بالنتائج، بل هو توصيف للخلل في الإمكانات المتاحة لكل طرف وأدوات الخطاب، التي أوصلت المحافظين إلى أغلبية البرلمان ورئاسة الجمهورية. لم يكونوا قلّة، الأتراك الذين وصفوا الرئيس المنتخب، على الرغم من خضوعه لدورة الإعادة، بالديكتاتور، وكذا كان المنحى العام في الخارج الغربي عموماً، وهذا ما ظهر في العديد من الصحف الأوروبية والأميركية، رغم اعترافها في النهاية بنزاهة الانتخابات.
ولكن هل هذا يعني أن الديمقراطية لا توصل أشخاصاً لا ديمقراطيين إلى المناصب؟ لا بالتأكيد، وهناك ما لا يحصى من الأمثلة في التاريخ الحديث. ومن هؤلاء من قد يفكر في تحطيم الصندوق الذي أوصله إلى السلطة، فيما لو لم يفز في الانتخابات التالية، إن لم تكن هناك تقاليد ديمقراطية راسخة تمنعه. على صعيد منطقتنا العربية تحديداً، فإن جماعة "الحاكمية لله" ومعظم الإسلام السياسي المتطرف يمكن وضعهم في تلك الخانة حسب ما يصرّحون بأنفسهم، رغم أن العسكر، هم الأجدر بهذا الموقع المعادي للديمقراطية، فهم من أثبتوا ذلك على الدوام، بتحطيمهم لصناديق الانتخابات النزيهة.
جرى ذلك في الجزائر قبل عقود، وفي مصر قبل سنوات، وليست تجربة ليبيا المتعثّرة ببعيدة عن ذلك في أيامنا الحالية. أليس الرئيس التونسي قيس سعيّد خير مثال عن شخص غير ديمقراطي، أوصلته الصناديق الانتخابية إلى موقعه؟ كثيراً ما شكّلت الانتخابات الديمقراطية سلّماً انتهازياً لغير الديمقراطيين. في هكذا حالة، وبأدواتها التنفيذية، فإن الديمقراطية ستبدو وكأنها تأكل من جوهرها وروحها، حين توصل مثل هؤلاء إلى السلطة.
الحقيقة إننا من موقعنا، كعرب عموماً وسوريين على وجه التحديد، ننظر بعين التمنّي إلى النموذج التركي فنبكي حال بلداننا. ولكن هل الأتراك مثلنا؟ بالتأكيد لا
بالعودة إلى التجربة التركية التي راقبها العالم، وطبعاً العرب بمن فيهم نحن السوريين، عن كثب. سيبدو ما جرى هنا حلماً بالنسبة لأي عربي لم يعرف هكذا تجارب، وحين عرفها في حالات نادرة، فإن أدوات تدميرها كانت جاهزة للانقضاض عليها قبل نضجها. ومن اطّلاع شخصي على المجتمع السوري في تركيا، يمكنني القول إن السؤال الرئيسي لدى السوريين للأتراك غير الراضين، وهو سؤال استنكاري بطبيعة الحال، كان: ماذا تريدون أفضل من ذلك؟
الحقيقة إننا من موقعنا، كعرب عموماً وسوريين على وجه التحديد، ننظر بعين التمنّي إلى النموذج التركي فنبكي حال بلداننا. ولكن هل الأتراك مثلنا؟ بالتأكيد لا. إنهم ينظرون للنموذج الأوروبي، وهو الأرقى ديمقراطياً بكل تأكيد، فيتذمرون من تجربتهم التي يعتبرونها قاصرة، رغم أن الآلية الانتخابية لا يشوبها أي قصور، فيعزون السبب إلى ما أوردته في بداية المادة، من أن الأغلبية الطفيفة في المناطق الأقل حضرية هي من تشدّهم إلى الخلف. متناسين في الكثير من الأحيان البرامج الانتخابية الفارغة، والقاصرة في أقل الأحوال، للمعارضة المهلهلة.
أما نحن فلنا في التجربة العراقية مثال قد يكون جيداً على دور ما دون الوطني، والنضج الحضاري عموماً، في عمل الآليات الديمقراطية الانتخابية، وهو وما يمكن سحبه على أي بلد عربي، فيما لو أتيحت له تلك التجربة. فليس هناك إيلاء اهتمام، سأجازف هنا وأقول بالمطلق، للبرامج السياسية والاقتصادية والإصلاحية، وكل التركيز إنما هو مُنصبٌ على انتماء المرشح العرقي والديني والطائفي.
لا بأس للناخب أن يكون مرشحه مشروع ديكتاتور، بل وأحياناً مجرم حرب، ما دام انتماؤه موائماً. ليس من فراغ هذا النزوع المتنامي من الولاء السني العربي للرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، واعتباره نموذجاً للقائد العربي المسلم، حتى بعد موته! فلا بأس أن يكون الحاكم فاسداً أو قاتلاً أو طاغية، على أن يكون منّا! إنه مثال يفقأ العقل قبل العين. ومثله تماماً، في الضفة الأخرى، الولاء الشيعي للديكتاتور خامنئي.
هل أريد القول مع القائلين بضرورة انتظار نضج المجتمعات قبل الوصول إلى مرحلة تطبيق الديمقراطية؟ بالقطع لا، فهذه أرذل الوصفات. المجتمعات لا تنضج في ظل الاستبداد مهما كان لونه. المجتمعات تنضج، وهي تنجح أحياناً وتتعثر أخرى، خلال ممارسة تجربة الحرية والديمقراطية وآلياتها المناسبة. إنها المعبر الإجباري الذي لا مهرب منه، حتى لو بدا مؤلماً للبعض. ولنا مثال واضح، في مجتمعات لا تختلف في درجة تطورها كثيراً عنا كالهند في آسيا، والعديد من دول إفريقيا وأميركا اللاتينية، التي تنجح أحياناً وتخفق أخرى، لكنها تسير بثبات لإنضاج تجربتها. علينا دوماً في بلداننا، ليس فقط أن نحلم، بل أن نمتلك الأدوات لنصل إلى تحقيق هذا الحلم يوماً ما.