ألاحظ أحياناً، ولا بدَّ أنكم مثلي، أن هناك من يأخذ على السوريين أنهم يثرثرون ويدلون بآرائهم، وربما يتخذون مواقف حادة أحياناً، من أحداث لا شأن لهم بها لا من قريب ولا من بعيد.
يحيل أصحاب تلك الملاحظة الأمر غالباً إلى بُنية سوريّة عامة متطفّلة، قد تكون مَرَضيّة، تجمع بينهم. ولا يخلو الأمر أحياناً من أن نرى سوريين يوجهون تلك التهم بعضهم لبعض.
قبل عقود، كان الأسد الأب قد جعل من سوريا الدولة، أداة للاستخدام العالمي عبر تأديته، كنظامٍ وظيفي، لكثير من الأدوار التي تتجاوز الجغرافيا السورية.
في السجن، سجن الأسد على نحوٍ خاص، حيث لا محاكم ولا أحكام معلومة المدد، يعيش السجين من دون أية إمكانيّة لمعرفة مصيره، وبلا جدول زمني يُعينه على انتظار يوم محدد سيغادر فيه الأسر، كما يحدث في باقي سجون العالم.
من ضمن باقي عُدّة الحكم، فقد أورث حافظ الأسد لابنه تلك الخصيصة التي سبق أن استخدمها للسيطرة على السوريين وتأبيد نظامه، إضافة طبعاً لباقي العُدّة بما فيها من فروع أمنية وسجون، وجيش كامل الطاعة، وولاءات مدفوعة الثمن وغيرها. الأمر الذي جعل سوريا تؤثر، إبان حكم الأب، بما يجري في المنطقة وأحياناً خارجها. لكن بعد موته، حدث العكس، فتحوَّلت البلد بفعل ذات الخصيصة، لتتأثر بذاك المحيط الإقليمي والدولي، بحكم الضعف الذي أوصلها إليه الأسد الصغير. لتغدو ريشةً في مهبِّ ريح الأنواء الدولية.
ليس سرّاً أن مخابرات دول العالم الفاعله توجد اليوم على الأرض السورية، إما بصورة علنية، وعبر قوات عسكرية مقيمة كما في حالة القوات الأميركية والروسية والإيرانية والتركية. أو بصورة غير معلنة، ولكنها محسوسة ومعلومة للقاصي والداني، كحال معظم الدول الأوروبية والإقليمية بما فيها إسرائيل. كل هؤلاء باتوا مؤثرين في حاضر ومستقبل سوريا. الاستثناء الوحيد من التأثير والفاعلية هو السوريّ، معارضاً أو موالياً، الذي بات بلا حَوْل، وينتظر حلّاً من الآخرين، بعد أن خسر، أوسُلبت منه، كل الأوراق، فأضحت خيوط سوريا بأيدي آخرين يتجاذبونها بحثاً عن مصالحهم وليس للسوري في حسابات المصالح تلك أي شيء.
في السجن، سجن الأسد على نحوٍ خاص، حيث لا محاكم ولا أحكام معلومة المدد، يعيش السجين من دون أية إمكانيّة لمعرفة مصيره، وبلا جدول زمني يُعينه على انتظار يوم محدد سيغادر فيه الأسر، كما يحدث في باقي سجون العالم.
ولهذا، إضافة إلى القضبان التي تحيط به، سيمسي أسير أوهامه وأحلامه، فينتظر خبراً من هنا وشائعة من هناك، تغذّي لديه الوهم بأن يوم حريته قد اقترب. حريته التي لا يعلم عنها سوى أن آخرين سيقررون موعد حصوله عليها.
فتدور بين السجناء أحياناً تحليلاتٌ لقراءة حدث بعينه وكأنه محوري، وبناءً عليه تحديداً سوف يُقرر مصيرهم، وهو بالتأكيد ليس كذلك. نقاشات بالغة الجدّية، ستكون مدهشة لو سمعها أحد من خارج المكان، بل وستبدو له مضحكة وتثير الشفقة أحياناً. لكنها بالنسبة لأولئك السجناء حاجة ملحّة كي يحافظوا على بعض خلايا الأمل مُضاءة، علّهم يمررون ليلةً أخرى بين آلاف الليالي الباردة في السجن.
يتابع السوريون اليوم، كلٌّ من موقعه، الحرب الروسية الأوكرانية ويدخلون في تفاصيلها. هل حقاً استعادت القوات الروسية قريتين من منطقة "كورسك" التي احتلتها أوكرانيا قبل فترة؟ سيبدو السؤال مدهشاً من أناس تبتعد بهم الجغرافيا آلاف الكيلومترات عن تلك المعارك. السوري المعارض للنظام يتمنى أن تُهزم روسيا في أوكرانيا، فذلك سيضعف أحد أهم حُماة النظام، بينما يتمنى الموالي العكس، كي لا يخسر حليفاً قلَبَ موازين القوى في سوريا لصالح جيش الأسد، عندما تدّخل نهاية عام 2015.
كما يهتم السوريون بأدق التفاصيل حين يتعلق الأمر بما يجري في الداخل الإيراني، طبعاً إضافةً لتحركات إيران في العديد من دول المنطقة. يهتم السوري بالاقتصاد الإيراني ويتلقّف بسخطٍ أخبار الإفراج عن أموال كانت محتجزة تحت العقوبات الأميركية. وأخبار الاحتجاجات الداخلية في بعض القطاعات. يصغي بانتباه لتصريحات المسؤولين الحكوميين حول سوريا ولبنان والعراق واليمن وغزّة. كيف لا، وقوات الحرس الثوري تسكن بين ظهرانينا، عدواً مبيناً بالنسبة للبعض، وظهيراً محموداً بالنسبة لآخرين. فعلى أوضاع النظام الإيراني وسياساته تنبني كثير من المعطيات التي تؤثر جوهرياً في مستقبل سوريا.
صار العالم على اتّساعه قرية السوريين الصغيرة، ويجدون أن من واجبهم معرفة ما يجري في الحارة المجاورة من تلك القرية، حيث يقيم سوريون آخرون.
طبعاً لن أدخل كثيراً هنا بمتابعة السوريين للأوضاع في غزة والضفة الغربية، ولا حتى في لبنان والعراق، رغم أنها الأهم. فهنا يكاد الأمر يكون شأناً سورياً داخلياً منذ عقود. فإضافة لاعتبار السوريين أن القضية الفلسطينية واحدة من قضاياهم، فإنهم يعلمون جميعاً، ولو في دواخلِ بعضهم، أن إسرائيل التي ما زالت تحتل الجولان السوري منذ قرابة ستين عاماً، هي من حمت نظام الأسد كل تلك الفترة، وخصوصاً في السنوات الأخيرة. أما في لبنان فلنظام الأسد حلفاء ومناهضون، ومن شأن السوري متابعة مواقفهم وتغيراتها. وكذا في العراق، التي تدعم ميليشياتها الممولة إيرانياً نظام الأسد.
أما بالنسبة للشأن التركي فقد أصبح رفع أجرة المواصلات العامة من الأمور التي يناقشها السوريون، فضلا عن متابعة كيفية الحصول على وثيقة إقامة قانونية "كيمليك"، تُنجيهم من الترحيل إلى الشمال السوري. فليس قليلاً أن أكثر من ثلاثة ملايين من السوريين يقيمون اليوم على الأراضي التركية، بأوضاع قانونية مختلفة. ولا غرابة أن يتابع هؤلاء الانتخابات التركية، ليحدِسوا مصيرهم القريب والبعيد، ففوز العدالة والتنمية يختلف عن فوز المعارضة التي تطالب بترحيلهم فوراً. طبعاً فضلا عن أن القوات التركية تسيطر على أجزاء واسعة من الشمال السوري، الأمر الذي يعني السوريين من الضفتين.
الأمر ينسحب على الاهتمام بأوضاع دول الاتحاد الأوروبي. يتابع السوريون تفاصيل استطلاعات الرأي ليخمنوا أي الأحزاب سيحصل على الأغلبية في البرلمان. بماذا كان سيهمنا، قبل عقد من الزمن، أي الأحزاب سيفوز في الانتخابات الهولندية أو الدنماركية وغيرها، لولا أن مئات الآلاف منّا باتوا لاجئين فيها؟ في كثير من الحالات، صرنا نحصي أصوات الناخبين قبل ظهور النتائج، منحازين لفوز من نعتقد أنه لن يمسَّ أوضاع اللاجئين بسوء، ومتخوفين من فوز من يمتلكون خططاً مسبقة للتضييق عليهم، تصل أحياناً لترحيلهم إلى حيث الخطر الذي هربوا منه.
طبعاً من باب أولى، أن السوريين يتابعون اليوم الانتخابات التي تجري على أراضي سيّدة العالم أميركا. فهناك القرارات الحاسمة، فيما لو تغيّرت الموازين. وكي أختم بمثال متطرّف، فقد تابعت نقاشات سوريّة عن الأوضاع الاقتصادية، وعن قوانين الإقامة وشروطها في رواندا! أجل، رواندا ذاك البلد البعيد في شرق أفريقيا، حيث وصل بضعة مئات من السوريين.
اليوم، صار العالم على اتّساعه قرية السوريين الصغيرة، ويجدون أن من واجبهم معرفة ما يجري في الحارة المجاورة من تلك القرية، حيث يقيم سوريون آخرون. هل بدوت أنني أحاول التبرير لما يسميه البعض تدخلاً فيما لا يعنينا، بينما أصفه شخصياً بأنه من صلب اهتماماتنا؟ لا لست بوارد التبرير، ولكن أردت فقط القول أن حالة سوريا الأسيرة والكارثية منذ أكثر من عقد، هي من جعلت أنوف السوريين تطول لتنحشر في كل بقعة من العالم. أما عني شخصياً، فأنا مثل كل سوريّ، أقف متوجساً في نقطة تقاطع النيران العالمية تلك، وأعتاش على وهمِ أن بعض التغيّرات في تلك القرية ستصيبنا، بعد أن أَخرج الأسد مصير سوريا من يد أيّ سوري.