سوريا.. "جمهورية الموز المارقة"

2024.11.07 | 08:58 دمشق

522222222222224
+A
حجم الخط
-A

رغم أنه واحد من أشهر كتاب القصة في تاريخ الأدب الأميركي، وقد ترجمت أعماله إلى عدد من اللغات، لكنه لم يحز شهرته العالمية الاستثنائية بسبب أعماله الأدبية المستحقة، بقدر ما نالها من نحته لمصطلح "جمهورية الموز" الذي دخل إلى الأدبيات السياسية قبل أكثر من قرن.

كان الأديب أوليفر هنري "Olivier Henry" واسمه الحقيقي "ويليام سيدني بورتر"، قد ترك الولايات المتحدة قاصداً هندوراس، بسبب قضية قانونية رفعها ضدّه أحد المصارف، نهاية القرن التاسع عشر. خلال وجوده لشهور هناك، تعرّف إلى تلك الدولة، واكتشف كيف أنها كانت جمهورية منزوعة السيادة، لصالح شركات الموز الأميركية، وعلى رأسها شركة "يونايتد فروت"، التي ستغير اسمها بعد نحو نصف قرن إلى "تشيكيتا"، حيث كانت تتحكم بسياسة الدولة واقتصادها، وقوانينها، عبر السيطرة على حكومة هندوراس الديكتاتورية الفاسدة، فتتمتع نسبة ضئيلة من السكان بالحصة الأكبر من الثروة والسلطة.

بعد سنوات سوف يكتب الرجل مجموعة قصصية بعنوان "الملفوف والملوك"، أصدرها عام 1904. وصف في إحدى القصص، دولة خيالية سمّاها "أنشوريا" باعتبارها "جمهورية الموز البحرية الصغيرة". رغم أنه لم يذكر هندوراس بالاسم، إلا أنه استند في كتابته على تجاربه فيها، حيث شاهد عيانياً هناك، كيف شيّدت الشركات الأميركية الطرق والموانئ والسكك الحديدية مقابل استحواذها على الأرض لزراعة الموز، وتصديره بأرباح فاحشة إلى الولايات المتحدة. وكان ذلك أول ظهور لذاك المصطلح الطريف ظاهرياً، بينما هو بحقيقته، يستبطن عذابات عمال المزارع الذين دفعوا أرواحهم في تلك الجمهورية.

بحسب موسوعة "بريتانيكا"، فإن تعبير "جمهورية الموز" من المصطلحات المُهينة والمسيئة للدول، التي تعتمد في إيراداتها على تصدير منتج أو سلعة واحدة، وتخضع لشركة أو جهة أجنبية. ومن خصائص تلك الدول أنها تضم بنية اجتماعية واقتصادية طبقية، حيث توجد طبقة حاكمة صغيرة تتحكم في الوصول إلى الثروة والموارد. دولة غير مستقرة سياسيا، تمتاز بهياكل حكم ضعيفة، مما يؤدي إلى انتشار الفساد والفقر، فتنعدم فيها المساواة. أُطلِق التعبير سياسياً، بداية استخدامه، على عدة دول في أميركا اللاتينية مثل كوستاريكا وغواتيمالا وهندوراس، ليغدو فيما بعد عالمي الاستخدام في الأدب السياسي.

نعم، كما تتوقعون، ذكرت كل ما سبق لأصل إلى سوريا. فالبلد اليوم يخضع اقتصادياً وسياسياً بشكل شبه كامل، لدولتين أجنبيتين على نحو خاص، هما إيران وروسيا، اللتان تسيطران على مناطق (يحكمها) الأسد في سوريا، وبالتالي على النظام الذي غالباً أن يستجيب لمصالحهما على حساب مصلحة السوريين. هذه الهيمنة أدت إلى تدخلات سياسية واقتصادية مفرطة في البلد

(المُضيف). لنجد في النهاية اقتصاداً هشّاً، والأدهى أنه بدل أن يعتمد على محصول أو منتج شرعي لاستمراره، فإنه، بحسب التقارير الدولية، يعتمد على مليارات الدولارات التي تأتي من تجارة المخدرات، حتى لقّب كثيرون سوريا بأنها "جمهورية الكبتاغون".

من الناحية السياسية، يشير مصطلح جمهوريات الموز إلى دول تفتقر إلى مؤسسات ديمقراطية حقيقية، وتعيش في ظل حكومات غير مستقرة، غالباً هي مدعومة من قوى خارجية، وتدين ببقائها لتلك الدول. ما يجعلها ضعيفة وغير مستقلة، فيسهل للجهات الأجنبية والدول الكبرى فرض سيطرتها وتحقيق مصالحها. أما من الناحية الاقتصادية، فإنها بسبب اعتمادها على سلعة أساسية بصورة رئيسية، وهي الكبتاغون في حالتنا، فإنها تضع نفسها في موقع مرهون للتقلبات العالمية والعقوبات الدولية، فتظل مقيدة اقتصاديًا ومتأثرة بشدة بأي تغييرات خارجية. مع بقاء شعوبها في حالة بؤس في كل الأحوال.

دمّر نظام الأسد، البنية التحتية الاقتصادية للبلاد بشكل كبير، ما أدى لانهيار العديد من القطاعات الإنتاجية، فحرم الاقتصاد من التنوع الذي كان مقبولاً إلى حدٍّ ما قبل عام 2011.

بخلاف الدعم السياسي الذي تتلقاه سوريا من حلفائها المهيمنين، فإن الدعم العسكري، عبر الوجود الفعلي على الأرض يبقى الأهم، ليزيد من غرق نظام الأسد في جمهوريته التي تتفوق بهذا على جمهوريات الموز، لتغدو سوريا

دولة محتلة تماماً، مسلوبة الحق في القرارات السيادية. فلا يستطيع نظامها تحريك ساكن إن كان داخلياً أو خارجياً من دون الإصغاء إلى مصالح حُماته ذوي النفوذ الأكبر في السياسة والاقتصاد.

خلال حربه على السوريين، دمّر نظام الأسد، البنية التحتية الاقتصادية للبلاد بشكل كبير، ما أدى لانهيار العديد من القطاعات الإنتاجية، فحرم الاقتصاد من التنوع الذي كان مقبولاً إلى حدٍّ ما قبل عام 2011. ليخسر بذلك ما كان يعرِّفه إعلامياً، في أوقات أزماته السابقة، بالاكتفاء الذاتي، وبات يحتاج إلى الدعم الخارجي من الحلفاء كي يستمر. طبعاً إضافة إلى انخراطه في تجارة الممنوعات.

الأمر الأهم لجهة السيطرة الخارجية، أن نظام الأسد رهن العديد من القطاعات للدول الأجنبية، وجميعنا يعلم عن عقود النفط والغاز والفوسفات والموانئ، ما أطاح بقدرته على السيطرة على اقتصاده، بعد أن سلّمه إلى دول وشركات أجنبية. ليأتي النهب العام والفساد، ثالثة الأثافي، فيؤدي، إلى جانب التضخّم وانخفاض قيمة الليرة السورية، إلى تركز الثروات في حسابات طغمة ضيّقة، وتدهور معيشة المواطنين واعتمادهم على الإعانات الخارجية ممن هُجروا قسراً خلال العقد الأخير.

مع كل العواصف التي تجتاح الإقليم خلال السنة الأخيرة، فإن للروس مواقف يدلون بها حول سوريا، وأكثر منهم الإيرانيون. الوحيد الذي اتّخذ وضعية "الصامت" حتى بدون "اهتزاز" هو نظام الأسد، رغم أن معارك الآخرين تجري على الأرض السورية ومحيطها! ورأس النظام

يسمع أصوات الانفجارات من قصره كل يوم تقريباً! إضافة إلى الطائرات من عدة جنسيات التي تخترق أجواءه، دون أي اعتبار لوجوده.

البلد اليوم يخضع اقتصادياً وسياسياً بشكل شبه كامل، لدولتين أجنبيتين على نحو خاص، هما إيران وروسيا، اللتان تسيطران على مناطق (يحكمها) الأسد في سوريا.

بالعودة إلى المصطلح المهين والمُسيء للدول القمعية الفاسدة، والفاشلة في السيطرة على السلطة التنفيذية، حيث يتولى الآخرون التعيينات الحساسة والمفصلية. فإن كانت حكومات دول أميركا اللاتينية الديكتاتورية قد استفادت مادياً بما يخص اقتصاد بلدانها مقابل منح الامتيازات، عدا بناء تلك الشركات لقطاعات النقل وغيرها، مقابل الحيازات التي قدمتها إلى شركات الموز، فإن روسيا وإيران لا تقدم اليوم شيئاً للاقتصاد أو لنظام الأسد سوى حمايته من السقوط.

يتساءل العرب في المثل الشهير "أحشفاً وسوء كيلة؟" للدلالة على من يجمع بين خصلتين ذميمتين ومكروهتين. فإذا كانت دول أميركا اللاتينية استحقت هذا اللقب الساخر للسمات المذكورة آنفاً، فإن الأسد قد دفع بالأمر أبعد، عبر اعتماد اقتصاده على التجارة غير المشروعة للمخدرات، الذي يتقاسم ريعها مع الفاسدين والقتلة. فاستحق إضافة لاحقة للمصطلح، تُظهر كم هو منبوذ دولياً وخارج عن القانون، عدا أنه يوزّع الشر على دول الإقليم وغيرها من دول العالم، فيتفوق في لا شرعية وجوده على كل حكومات دول أميركا اللاتينية في تلك الحقبة. ليكون جديراً بأن نطلق على سوريا الأسد "جمهورية الموز المارقة".