في كثير من المحطات التاريخية الهامة نلاحظ أن الإعلام الدولي وحتى السياسيين في تصريحاتهم، يتمسكون بعبارات محدّدة، حتى تصبحَ لازمة تتكرر في كل مناسبة، وكأنها علامة تجارية "trademark"، وعلى العكس من ذلك، يبتعد هؤلاء عن بعض العبارات أو التوصيفات، حتى لو تورطوا بها سابقاً، وكأن هناك "مايسترو" قد أعطى التعليمات لتجنبها.
مع بدايات الحرب على غزّة ظهر تعبير معروف إنسانياً وحقوقياً، تداوله بعض الإعلام العالمي، يصف ما يحدث هناك على أنه "إبادة جماعية"، ثم فجأة توقّف استخدام هذا التوصيف، بعد أن صرَّح أكثر من مسؤول أميركي بأن ما يحدث ليس إبادة جماعية، وإنما حق مشروع لإسرائيل بالدفاع عن النفس، بمواجهة منظمة إرهابية قتلت واختطفت مدنيين منهم نساء وأطفال وعجائز في عملية "طوفان الأقصى"، وساد هذا التعبير حتى اللحظة.
اليوم، لا يمكن أن يوجّه مسؤول غربي أية ملاحظة، ولو بالغة اللطف، بمواجهة العنف الإسرائيلي المفرط، من دون أن يسبق ذلك إقراره بحق إسرائيل المشروع بالدفاع عن النفس!
في الحالة الإسرائيلية الراهنة هل حقاً يمكن وصف ما تفعله القوات الإسرائيلية بأنه دفاع مشروع عن النفس، وهو التعبير الأثير لدى السياسيين الغربيين؟
بالتأكيد إنّ "الدفاع عن النفس" يعتبر حقا مشروعا، بل وواجبا، بحسب الشرائع الدولية، وحتى الخاصة بكل دولة، وقد ورد في كثير من الأدبيات القانونية منذ القدم، وبدأ بالتبلور خلال العصر الروماني وما زال حتى اليوم، وقد تضمّنته معظم الديانات، ولكن في الحالة الإسرائيلية الراهنة هل حقاً يمكن وصف ما تفعله القوات الإسرائيلية بأنه دفاع مشروع عن النفس، وهو التعبير الأثير لدى السياسيين الغربيين؟
عندما يرد مفهوم "حق الدفاع عن النفس" إن كان على مستوى الفرد، أو على مستوى الدول، فإنه على الدوام يؤكّد على استخدام القوة الضرورية والمناسبة لدفع الأذى، بمعنى أن الأفراد أو الدول تستطيع استخدام هذا الحق، بما يتناسب مع الحالة التي تواجهها، ولو أدّى ذلك إلى قتل المعتدي، بهدف تحييد قدرته على العدوان. ولكن ما الذي تفعله إسرائيل اليوم؟
تخيلوا معي، لو أنّ مجرماً (مجرم وليس مقاوماً للاحتلال) هاجم بيتاً ما، فإن من حق صاحب البيت، بطبيعة الحال، الدفاع عن بيته وعائلته، ولو أدّى به الأمر إلى قتل المجرم المعتدي، وسيكون هذا مفهوماً ومقبولاً في كل الشرائع.
ولكن ليس من حق هذا الرجل (الضحية) بعدها، أن يذهب إلى عائلة المجرم ليقتل جميع أفرادها من الرجال والنساء والأطفال، ثم يهدم بيت ذاك المعتدي، وبيوت إخوته وكل من يمت له بصلة، ليصل بعدها إلى مدارس أطفاله ويدمرها، ثم يعود ليتحدث عن حقّه بالدفاع عن النفس. هنا لا يكون المُعتدى عليه شخصاً بريئاً يدافع عن نفسه، بل على الأرجح سيكون زعيم عصابة مافيا إجرامية يدافع عن مسروقاته.
هل بدا لكم أن المثال الذي أطرحه أعرجاً؟ نعم هو كذلك خصوصاً أنه يتحدث عن (صاحب بيت)، لكنّه يبقى ذا دلالة، رغم أنه يبسِّط قضية بالغة التعقيد، فيما لو طبقناه على ما يحدث في غزّة ثم لبنان اليوم، فتاريخ القضية الفلسطينية لم يبدأ يوم هاجم مقاتلو حماس مستوطنات ما يُدعى بغلاف غزّة، بل ابتدأ قبلها بعقود، على الأقل منذ 1948، يوم هجّرت إسرائيل مئات آلاف الفلسطينيين من بيوتهم وأراضيهم، ثم لم تقبل بإعادة ولو جزء من الحقوق للشعب الفلسطيني، من أجل بناء سلام بين الغزاة الذين تجمعوا من جهات الأرض جميعاً وبين أصحاب الأرض، الذين تم طردهم واقتلاع معظمهم منها.
لست ممن يرشّون على الموت سكّرا، ولا أريد بأي حال من الأحوال أن أغطي على الحقائق، كنت ذكرت في كتاباتي السابقة مراراً، ولن أكرّر هنا، انتقاداتي لعملية طوفان الأقصى، التي أضاعت فرصة كبيرة بتخليها عن فكرة نزاهة مقاومة الاحتلال، فذهبتْ إلى مدى أدّى إلى ارتكابات لا تليق بمن يناضل من أجل تحرير أرضه، وهي بهذا أعطت لإسرائيل فرصة أن تبدو بموقع الضحية أمام الرأي العام العالمي.
ولكن هل سيمنع هذا من القول بأن ما ارتكبته إسرائيل في غزة تالياً، كردٍّ على العملية، هي عمليات إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وإن القواعد القتالية التي حكمت قواتها خلال أكثر من عام، لا تقترب ولو قليلاً من مفهوم حق الدفاع عن النفس.
لا يمكن لأحد أن يجادل بأن احتلال أراضي الغير هي جريمة، وفي حالتنا هنا يمكن الحديث عن أي جريمة تالية أخرى، لكن ليس قبل الإقرار بأن الاحتلال هو الجريمة الأولى، ولا أحد يمتلك الحق في الدفاع عن جريمة الاحتلال، لكنهم للأسف يفعلون..
أن تنتقد عملية طوفان حماس وهذا حق، فستجد من يؤيدونك محلياً إلى حدٍّ ما، ودولياً إلى أقصى الحدود، ويعتبرونك مُحقا، وبالمقابل سيهاجمك كثيرون، لكن أن تتجاهل كل الجرائم غير المسبوقة، التي ارتكبتها إسرائيل بحق المدنيين، فلن تجد في صفك من الداعمين سوى صنف من الأبالسة المعاصرين، مهما بلغ عددهم، وفي كلتا الحالتين لن تكون بمنأى عن سهام الهجوم، في الحالة الأولى لأن هناك من يعمي عيونه عن أية جريمة إذا كان مرتكبها (منّا)، وفي الحالة الثانية لأن صبغة حقبتنا على المستوى الإعلامي الدولي هي إسرائيلية.
لا يمكن لأحد أن يجادل بأن احتلال أراضي الغير هي جريمة، وفي حالتنا هنا يمكن الحديث عن أي جريمة تالية أخرى، لكن ليس قبل الإقرار بأن الاحتلال هو الجريمة الأولى، ولا أحد يمتلك الحق في الدفاع عن جريمة الاحتلال، لكنهم للأسف يفعلون، وتبدأ الحكاية لدى كثيرين من الساسة والإعلاميين من صباح يوم عملية طوفان الأقصى، متناسين عقوداً من جرائم الاحتلال بالقتل والتهجير والحصار والتجويع.
بالعودة إلى أصل المفهوم، فإن مقاومة الاحتلال بالوسائل القتالية، هو ما ينطبق عليه مفهوم حق الدفاع عن النفس، وتنص عليه صراحةً جميع القوانين الدولية، وليس للاحتلال إن دافع عن جريمته، بحجة أن المقاومة قد أصابته بجرح بليغ ونالت من المدنيين، أن يتمسّح بهذ المفهوم، وليس لسياسيي العالم أن يرشّوا على الجريمة تعابير لا تبقي على صفتها الأساسية، وهي أنها جريمة، وإن كل ما تفعله إسرائيل إنما هو دفاع إجرامي عن الاحتلال وليس عن النفس.