قضت المصادفة أن يتزامن احتفال الجيش السوري بذكرى تأسيسه الثامنة والسبعين، في الأول من آب كالمعتاد، في يوم الثلاثاء الماضي، مع افتتاح عزاء اللواء أسعد ميني، المتوفى قبل ذلك بيومين.
القليلون فقط يتذكرون ميني، لكن الحلبيين يتذكرون أكثر زوجته «أم زيدون» أو «الحجة» التي كانت مقصد تجار المدينة وصناعييها في الثمانينات والتسعينات لتأمين فرز أبنائهم، المقبلين على الخدمة العسكرية، إلى المعمل 790 من «مؤسسة معامل الدفاع» الذي كان يديره زوجها بريف حلب. ففي هذه الحالة يتاح للأبناء أن يعودوا إلى منازلهم يومياً بعد انتهاء الدوام، أو أن «يفيّشوا»، بالتعبير الدارج في الجيش، والذي يعني عدم الدوام نهائياً. لكن تلك صفقة أخرى يُتّفق عليها في حينها، وتتضمن مبلغاً شهرياً، أما الفرز فمبلغه مقطوع يُدفع لمرة واحدة، ذهباً أو نقداً.
ولد أسعد ميني عام 1935 لعائلة علوية في قرية طرجانو بريف اللاذقية. في الأربعين من عمره فُرز إلى «مؤسسة معامل الدفاع» المنشأة حديثاً في عام 1975، وتنقل بين معمل حماة، فالهامة قرب دمشق، ثم حلب التي وصل إليها في عام 1979 وارتبط بها رغم انتقاله، في منتصف الثمانينات، إلى دمشق ليتسلم الإدارة العامة للمؤسسة، مع احتفاظه ببيته في حلب التي لم ينقطع عنها، واحتفاظ زوجته بنفوذها في معملها، أضخم منشآت المؤسسة وأوسعها إنتاجاً وأكبرها كادراً وأكثرها رزقاً.
اجتمعت ظروف عديدة لتجعل من أم زيدون تلك الظاهرة التي صارتها واستحقت أن تحفظها ذاكرة المدينة. فمن جهة كانت حلب قد خرجت مهزومة من الصراع الذي خاضته، تحت راية الإسلاميين، مع سلطة حافظ الأسد. فقررت، منذ ذلك الوقت من الثمانينات، البعد عن «الدولة» دون الغناء لها، وتجنب شرور رجالها بالمال الذي صار علامة فارقة لأبناء حلب التي أصبحت المدينة الأولى في دفع الرشاوى المبالغ فيها أحياناً.
وكانت الخدمة العسكرية الإلزامية سنوات ضائعة من أعمار الشباب، يتقلبون فيها بين التعرض للذل والإهانة وبين شظف العيش وبين البعد عن وجبات أمهاتهم الدسمة. فضلاً عن تعطّل بناء مستقبلهم المهني في معمل الأب أو متجره أو حتى في الدراسة. وكان دفع مبلغ للخلاص من كل هذه الصعوبات حلاً مثالياً.
على المقلب الآخر كان الجيش قد شهد توسعاً عددياً كبيراً. واهتز انضباطه بعد تدخله في لبنان منذ عام 1976 و«تدخله» في حلب وحماة وسواهما إبان الصدام مع الإسلاميين. وكانت الثمانينات قد أسست لخلل الميزان بين متطلبات العيش وبين رواتب الموظفين الحكوميين، ومن بينهم الضباط، فعمد الأخيرون إلى استثمار ما بين أيديهم من بضاعة، وهي المجنّدون الإلزاميون، بدءاً من باكيت الحمراء الطويلة، مروراً بمختلف «الهدايا»، وصولاً إلى التفييش.
ومن جهة ثالثة انتبه حافظ الأسد إلى ترهل القطاع العام وبيروقراطيته المتصاعدة، والجيش ضمناً. ولأداء مهمات إنتاجية جادة وسريعة أنشأ عدداً من المؤسسات الفاعلة واستثناها، تقريباً، من القانون العام، وأطلق يد بعض الموثوقين فيها ليتصرفوا بما يرونه مناسباً شرط تأدية المهام المطلوبة بدقة وكفاءة عالية. وكان خليل بهلول، المدير العام لـ«مؤسسة الإسكان العسكرية»، أبرزهم.
بطريقته كان أسعد ميني واحداً من هؤلاء، في معمل حلب ثم في مجمل معامل الدفاع التي ظل 790 درة تاجها. فمن ناحية المساحة يكاد يبلغ حجم مدينة، بعد أن قام على استملاك أراضي أكثر من عشر قرى بريف حلب، قرب بلدة السفيرة التي تبعد 25 كم عن مركز المدينة. ومن جهة الطاقم كان يضم عدة آلاف من ضباط ومهندسين وفنيين وإداريين وموظفين وعمال. أما مهمته فكانت أولاً إنتاج طلقات المدافع بمختلف قياساتها وذخائر الدبابات، ثم امتدت إلى تنفيذ مشاريع مدنية لصالح بعض الوزارات، وإنتاج جرر الغاز والبطاريات الكبيرة والكمامات. ولإسكان ضباطه وموظفيه أنشئت، إلى جوار المعمل 790، مدينة «الواحة» من البناء مسبق الصنع، التي سرعان ما حوت مدارس ومرافق. وفضلاً عن هذا وذاك كان الضباط المفرزون والمهندسون والإداريون يحصلون على سيارات، ومن يؤدي عمله بإخلاص ينال مكافأة سخية.
اجتمعت هذه العوامل، إذاً، لتجعل من معامل الدفاع في حلب مطمحاً لكل هذه الفئات، وهدفاً لمن يريد أن يمضي خدمته العسكرية في بيته. ورغم أن أم زيدون كانت الباب الأبرز لذلك فهي لم تكن الوحيدة. فقد يميل هذا الثري إلى طلب تلك «الخدمة» من رئيس أحد فروع المخابرات نتيجة شراكة سابقة بينهما أو محسوبية راسخة. وربما يرغب آخر في نيلها من وزير الدفاع وقتئذ، مصطفى طلاس، المتزوج من حلبية. أو من أحد كبار الضباط الحلبيين في السلطة آنذاك، كرئيس الأركان حكمت الشهابي، أو نائب وزير الدفاع حسن توركماني.
من جانبه كان أسعد ميني عملياً فلم يرفض طلباً لأحد. وفي كل دورة سحب للخدمة الإلزامية كان ينضم إلى كادره عدة مئات من المجندين وصف الضباط، ربما كان نصفهم من ذوي الواسطات، وفق حصص تسعى لإرضاء كل النافذين، فضلاً عن حصته هو. أما النصف الآخر فكان يختارهم من أفضل الكفاءات الملتحقة بالجيش. فمن مفارقات ميني أنه كان حريصاً على أداء عمله بأفضل ما يمكن، وأنه كان يعامل كادره الفعلي بعناية، فيهتم بمشكلاتهم الشخصية ويزورهم في مناسباتهم الاجتماعية، ويبسط عليهم حمايته الأمنية إن لزم الأمر، فضلاً عن غياب التحيز الطائفي في تقييمه.
وقد حصد نتيجة ذلك؛ حزناً على رحيله من قبل عاملين سابقين معه، وتساهلاً عندما انفجرت ملفات الفساد في وجهه في منتصف التسعينات.
بدأت تلك القصة عندما رغب شاب أرمني حلبي، مفرز إلى المعمل و«مفيّش»، في السفر إلى أرمينيا لأيام! وبدا أن ذلك قابل للتحقيق، بسعر خاص طبعاً، طالما أن الهويات المدنية للمجندين إجبارياً تُحفظ في قطعاتهم. وبالتالي فهو يستطيع أن يأخذ هويته ويستخرج جواز سفر ويغادر ويعود دون أن يلحظ أحد. لكن المحذور وقع بطريقة ما، واكتُشف الأمر الذي تجاوز الحدود المعقولة للفساد هذه المرة، وشُكّلت لجنة لدراسة كل الملفات.
يروي بعض من عاصروا تلك الأيام في المعمل 790 أن وجوهاً غير مألوفة من ثقال الشبان «المفيّشين» صاروا يداومون بشكل يومي، بعد أن يركنوا سياراتهم الفارهة في الخارج، حتى انجلت الغمة بعد شهر. فقد كانت اللجنة برئاسة حسن توركماني، وضمّت حسن خلوف، معاون رئيس فرع المخابرات العسكرية بحلب، وبينهما وبين ميني تبادل خدمات ومصالح و«تفهم» أتاح له الاستمرار في منصبه حتى تقاعده بشكل طبيعي في عام 2002 على الأرجح.
عاش أبو زيدون، منذ ذلك الوقت، في بناء القيادة القومية بشرقي حيّ ركن الدين في دمشق، قريباً من أهل زوجته التي تنتمي إلى عائلة صغيرة في العاصمة من أصول عشائرية سنّية. سبقت أميرة عليّط زوجها إلى السماء بخمس سنوات، بعد أن أمضت شيخوختها تشرب القهوة وتدخن وتستمع إلى أم كلثوم وتتحلى بالذهب الباقي من «أيام اللولو». أما اللواء فلا نعرف رأيه، وهو الذي كان حريصاً على تزويد معامل الدفاع بأفضل خطوط الإنتاج المتاحة، في تحولها إلى منشأة لتصنيع البراميل البدائية التي تُرمى عشوائياً على الناس.