"سوريا لم تُذكر في التاريخ إلا بعائلتين، آل أمية وآل الأسد. آل أمية جاؤوا من الجزيرة العربية ولا علاقة لهم بسوريا. فلا يتبقى في التاريخ سوى نحن آل الأسد. نحن عزّكم ونحن من رفعناكم، واليوم نحن من ننزلكم". هل بدا لكم الاقتباس سخيفاً ومتطاولاً على التاريخ؟ نعم هو كذلك بالتأكيد. لكن للحقيقة هو يعبّر تماماً عن المافيا التي تحكم سوريا، وقد جاء في سياق مراسلة لي، مع صفحة يسمي صاحبها نفسه "نسرين اسماعيل الاسد"، (الهمزة الناقصة كما هي مدونة في الصفحة). كان ذلك التحرّش المُسلّي بي قد حدث نهاية عام 2018. وأهم خلاصة منه كانت عن وضاعة المتملّق.
لطالما اعتقدت أن الانقلابيين العسكر هم خونة لما اؤتمنوا عليه في خدمة جيش بلد ما. حتى لو غضضنا النظر عمن ينقلبون عليه، إن كان فاسداً أو نزيهاً. ففي النهاية هم يمتلكون في ذواتهم نسبةً عاليةً من الخسَّة، سمحت لهم بحياكة مؤامرة على نحوٍ ما، بهدف الوصول إلى السلطة عبر القوّة.
حين أنظر لصور ضباط كانوا يقفون بزيّهم العسكري أمام أو بجانب رؤساء مدنيين سابقين، منتخبين أو غير ذلك، وعلى وجوههم ابتسامة تواضع وولاء مزيّف، أُصاب بالدهشة، ولن يخفف من دهشتي تلك تكرار مشاهدتي تلك الصور. في كل مرّة، أحاول قراءة الصور بحياد وبرود، ولا أصل سوى لنتيجة واحدة. إنهم خونة وضيعون.
يقدم هؤلاء المنقلبون الخونة أنفسهم على الدوام، أنهم بفعلتهم تلك، إنما كانوا يصححون خللاً ما، وفي كثير من الأحيان يصححون الأخطاء التي يرتكبها التاريخ
من تلك الصور التي طالما تأملتها كانت صورة حافظ الأسد مع (رفاقه) نور الدين الأتاسي رئيس الدولة، وصلاح الجديد رئيس الوزراء. إنه يقف قربهم بزيّه العسكري كرفيق وشريك لهم، ولا يبدو عليه إطلاقاً أنه كان سينقضّ عليهم بعد فترة وجيزة. بل لا يبدو عليه أنه كان يحمل في رأسه نواياه تلك، ليفعل بهم كل ما فعله. قتلهم في السجن، بعد أن أودعهم به أكثر من عشرين عاماً.
يقدم هؤلاء المنقلبون الخونة أنفسهم على الدوام، أنهم بفعلتهم تلك، إنما كانوا يصححون خللاً ما، وفي كثير من الأحيان يصححون الأخطاء التي يرتكبها التاريخ، خلال تطوّره الطبيعي. وفي حالات ليست بالقليلة، يُصلحون ما ارتكبه الشعب الذي لا يعي مصلحته، ولا مصلحة البلد، حين قام باختياراته، أو انتخب ممثلين له. ممثلون لا يرتقون للتنطّح للمهام التاريخية الجسام، التي سيحملها الانقلابي على كاهله.
هل أسخر؟ بالطبع أنا كذلك، ومع ذلك أحاول فهم كيف يمكن لعقل الانقلابي الخائن أن يتطور، لتترسخ فيه، شيئاً فشيئاً، قناعات مكتملة بعظمته وعظمة أفعاله. يبدو لي أن الأمر يتصاعد بمساعدة المتملقين. الديكتاتور كما تعلمون، يستقطب الجبناء والكذَبة والانتهازيين. هؤلاء الموالين الأوائل، عبر مداهنتهم للخائن، سوف يتحوّلون تالياً، إلى قدوة لمن يريد النجاح والصعود السريع في المناصب.
هكذا تتحول صفات الجُبن والكذب والتملق والانتهازية إلى وصفات سحرية للنجاح، وفي الطريق إلى ذلك سوف تتحول تلك القيم إلى ثقافة مجتمعية لن ينجو منها إلا قليلون. هل كنت لأغير رأيي لو أن النازي هاينرش هيملر مجرم الحرب المعروف، قد انقلب على سيّده هتلر؟ لا أعتقد. فرغم أن كليهما من طينة واحدة، فإن صفة إضافية فقط كانت سوف تلحق هيملر لو فعل ذلك، لتضاف إلى صفاته الخسيسة الأخرى، إنه خائن. المتملقون يؤسسون لجعل كل ما هو مناف للأخلاق لدى الديكتاتور، بمثابة ذكاء أو حكمة أو نبوغ وعبقرية حتى. هؤلاء سيسودون وتصبح ذهنيتهم هي المعيار للمواطن الحقيقي العاقل والصالح.
مثل كثيرين، تعرضت في السنوات العشر الأخيرة لبعض حالات التهديد، عبر رسائل من أولئك، الذين يتلطون في وسائل التواصل، خلف أسماء مزيفة. من تلك المراسلات ما كان يشي بأن الجهة التي كلفت المتواصل معي، على علم بأدق تفاصيل حياتي حيث أنا اليوم. ربما كان يجب عليَّ يومها، أن آخذ بعض تلك التهديدات على محمل الجد، لكنني حقيقة لم أفعل، ولم ألجأ لأي احتياطات من تلك التي يمكن للإنسان أن يأخذها.
على سبيل التسلية، سأعود إلى السيد/ة نسرين اسماعيل الأسد، فحسب التعريف في الصفحة هي خريجة جامعة تشرين، وتعمل في "رئاسة الجمهورية"، تدّعي، بما لا يتناسب إطلاقاً مع لغتها الركيكة والسوقيّة، أنها خريجة كلية الطب. بدأتْ المراسلة بسؤال متعال إن لم أصفه بأنه وقح، وجهته لي: هل قرأت كتاب اللواء عدنان الأسد، حتى تهرف بما لا تعرف؟
كنت في تلك الفترة أقدم فقرة تلفزيونية عن كتاب أختاره كل أسبوع. مباشرة ذهب ظني لعملي هذا، وطبعاً تعلمون أني لن أقدم على فعلة بتلك الرذالة، كأن أقدم وأتحدث عن كتاب لعدنان الأسد، ولا حتى للدكتور المتميّز فواز الأسد. بطبيعة الحال استنكرتُ السؤال، ومن ثم أنكرت أني أعرف أن لقائد سرايا الصراع السابق أي كتاب. الحقيقة كنت قد نسيت، قبل أن تداهمني بالدليل، أني وضعت على صفحتي في فيس بوك صورة غلاف كتاب للمذكور. كان تعليقي على الصورة: "كشف المجهول في الأنساب والفصول، عنوان كتاب القائد السابق لسرايا الصراع، الباحث عدنان الأسد. باحث! فعلاً عائلة خمس نجوم".
طبعاً اعترفتُ له/ها بالواقعة. وأضفت بأنني إطلاقاً لم أهرف بما لا أعرف، وأني فقط كنت أسخر من هذه العائلة التي جميع أفرادها باحثون ويحملون شهادات أكاديمية عليا، واستشهدتُ بالدكتور رفعت والدكتور فواز وغيرهما من العلماء الأفذاذ. مباشرة انتقل/ت لاتهامي بأني لدي الكثير من الحسد والحقد على عائلتها. ضحكتُ من شق الحسد لجانب العلوم التي حازها أفراد العائلة، لكني أقررت بالحقد.
كانت إجاباتي كلها مقتضبة وتحمل من السخرية أكثر مما تحمل من الجد. قلتُ: هتلر وستالين كانا يحملان مثل هذا الاعتقاد. الجريمة التي تسمينها انتصاراً، تحتاج إلى وحوش وليس إلى أذكياء
بعد أن أكدت لي أن اللواء حائز على شهادة دكتوراه "بالتاريخ والأنساب"، وهو إضافة إلى ذلك أديب وشاعر، بدأتْ بخطاب مختلف، وبلسان من يبدو فعلاً أنه من داخل العائلة، وأنا هنا أعيد صياغة لغتها العامية: "لتعلم أننا كعائلة مثقفون وأذكياء فعلاً، ولولا ذلك لما حكمناكم خمسون سنة، وإلى الأبد. ولما كنا انتصرنا في الحرب الكونية، التي شنتها أقوى الدول علينا، إضافة لكم أنتم الدواعش والإخوان".
كانت إجاباتي كلها مقتضبة وتحمل من السخرية أكثر مما تحمل من الجد. قلتُ: هتلر وستالين كانا يحملان مثل هذا الاعتقاد. الجريمة التي تسمينها انتصاراً، تحتاج إلى وحوش وليس إلى أذكياء. وطلبت منها من باب التواضع الذي هو فضيلة، لو أنها فقط تعترف بشيء من الخلل عند العائلة بما يخص شهادات الدكتوراه. فردّت بأنهم جميعاً جاؤوا من بيوت علمٍ وثقافةٍ وأدب، ولولا ذلك لكانوا سقطوا مثل الآخرين، وبأنهم أذكى وأقوى منّا. طبعاً، طمأنتها إلى أنهم سيسقطون يوماً ما، لكني اعترفتُ بأنهم فعلاً أقوى منّا نحن السوريين، فلم يكن هناك من معنى ودلالة لمخاطبتي بصيغة الجمع، لولا أنها تقصد السوريين.
في الختام طلبت منها إذناً أن أكتب مادة صحفية عن سهرتنا الجميلة تلك. بعد أن استغرق الأمر منها بعض الوقت لكي تعرف ماذا أقصد بمادة صحفية، وافقت بطريقتها الخاصة "أكتب ما تريد، لو بدنا نخاف من الأرانب ما زرعنا جزر". تقتضي أمانة النقل هنا، أن أسجل لها أنها حذرتني بأن الجهة المخابراتية الخارجية التي أقبض منها راتبي، قد تكون اكتشفت أني أتحدث مع الدكتورة نسرين، وقد توبخني وتقطع عني الدولارات. طمأنتها أنهم فعلاً قد اتصلوا بي قبل نصف ساعة ووبخوني، ولكني بسبب شجاعتي، فها أنا ما زلت أتابع الحديث معها.
طبعاً طلبت مني أن أرسل لها المادة بعد نشرها. للأسف مرت أكثر من أربع سنوات قبل أن أكتب المادة، واليوم حاولت أن أفي بوعدي، فقمت بالبحث عنها وعن صفحتها لكني لم أجدها، وطبعاً لا أعرف مصيرها، ولا في أي فرع كانت تعمل لكني لن أستغرب أن تكون استقالت من عملها في القصر الجمهوري، وركبت (البالم) إلى أوروبا، وتركت حقل الجزر بدون حراسة من الأرانب.