لم تكن زيارة الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي إلى دمشق وإجراؤه محادثات سياسية وأمنية واقتصادية مع بشار الأسد، بنت اللحظة. حيث إن الزيارة كانت مقررة منذ أشهر، لكن القيادة الإيرانية آثرت الانتظار ربطاً بمفاوضاتها مع السعوديين والخليجيين على ملفات إقليمية داهمة، ما يعني أن الجانب الإيراني وفق المحللين والمتابعين كان يتوقّع الوصول إلى نهايات سعيدة مع السعودية طوال المرحلة الماضية، وذلك على الرغم من المواقف والسقوف العالية المعلنة والتي كانت تدور بين الجانبين رسمياً وإعلامياً، والتي كانت توحي أن الجانبين لا يمكنهما الجلوس سوياً على طاولة واحدة تحت أي رعاية أو وساطة.
وهذه السياقات توحي بأن الجانب الإيراني كان مرتاحاً إلى مناخات التفاوض مع السعودية في العراق والصين، وإلى التحوّل الجاري على صعيد المنطقة، من خلال القرار السعودي القائم على إيجاد مساحات مستقلة عن سياسات واشنطن والغرب، والإمساك بزمام المبادرة والتحوّل من دولة خصمة إلى مركز جذب إقليمي وشرق أوسطي، لذا فإنّ هذا الانفراج الضمني يفسّر على الأرجح حرص حزب الله وحلفائه في لبنان على عدم تجاوز سقف معيّن في العداء مع المملكة، حتى في أكثر لحظات الصراع حدة وضراوة، وعلى الرغم من قدرة خصومه في السياسة والذين يدورون في فلك الرياض على انتزاع كلمة السر اللبنانية منه وخاصة في ملف الرئاسة.
السعي الإيراني لتتويج الزيارة إلى سوريا في هذه المرحلة، مرده الرئيسي هو أن تكون زيارة الرئيس الإيراني متزامنة مع مناخات التهدئة والحوار مع دول الخليج والمستمرة مع الأردن ومصر، وهذا يثبت فكرة مهمة أن الإيرانيين يحرصون على الإيحاء بعدم رغبتهم في السيطرة الكلية على سوريا بالشكل الفج المتعارف عليه، والتلويح بأنّ طهران تود إشراك السعوديين والقطريين في أي تسوية مستقبلية إلى جانب الأتراك والروس..
وكان لافتاً أنّ السعي الإيراني لتتويج الزيارة إلى سوريا في هذه المرحلة، مرده الرئيسي هو أن تكون زيارة الرئيس الإيراني متزامنة مع مناخات التهدئة والحوار مع دول الخليج والمستمرة مع الأردن ومصر، وهذا يثبت فكرة مهمة أن الإيرانيين يحرصون على الإيحاء بعدم رغبتهم في السيطرة الكلية على سوريا بالشكل الفج المتعارف عليه، والتلويح بأنّ طهران تود إشراك السعوديين والقطريين في أي تسوية مستقبلية إلى جانب الأتراك والروس، انطلاقاً من مكاسب تعتبرها طهران نافذة رغم كل الظروف وخاصة بعد حالة الاعتراف العربية الجارية ببشار الأسد ونظامه.
في الشق الاقتصادي للزيارة كان لافتاً حجم التلويح بالحضور القوى لطهران من خلال إنهاء أزمة خطّ الائتمان النّفطي، والذي كانت إيران تُزوّد سوريا بالمشتقّات النّفطيّة على أساسه، وهذا المسار يؤمن للنظام جزءاً من حاجته الرئيسية للمشتقات النفطية، لكنّ أهمّ ما في زيارة رئيسي على الصّعيد الاقتصادي يترجم من خلال الإعلان عن تأسيس بنك مشترك، والتعامل بالعملة الوطنية لكلّ طرف في التعاملات التجارية، وهذا المسار قد يكون الهدف منه دفع الدول العربية للتزاحم الاقتصادي على النظام.
في المقابل سعى رئيسي في زيارته إلى إطلاق النقاش حول إعادة إعمار سوريا من خلال رسائل عن حصص الإعمار ومحاولات حجز حصة في الخطط المحتملة للإعمار، ويبدو جلياً أن طهران تريد أن تحصِدَ ما زرعته عند تدخّلها لحماية النّظام منذ 2011. وهو أهم ما قد تجنيه إيران هو إعادة الإعمار وتشغيل شركاتها في هذه الورشة الكبيرة.
وعلى الرغم من حرص الجانب الإيراني على إشراك الدول الغنية في هذه الورشة بالتمويل والتحضير، إلا أن الجانب الإيراني بات يشعر بخشية لافتة من محاولات إقصائه عن مشاريع إعادة الاعمار، لذا فإن هذا الإعلان السريع مرده الأساسي هو حجزِ الحصة الإيرانية قبيل أي دولة أخرى. فهي لا تُريد أن يكونَ التّقارب السوري مع العرب والأتراك، على حساب حصّتها الاقتصاديّة، إلى جانب نفوذها السّياسيّ والعسكريّ.
ويجمع المراقبون على وجود قلق إيراني من أي دورٍ محتمل في المستقبل للسعودية والإمارات وتركيا في إعادة إعمار المدن السورية. وخاصة أن الخليج يمتلك قدرات مالية ضخمة في ظل الطفرة المالية عقب أزمة الطاقة في العالم، في حين تركيا تمتلك المؤهّلات التّقنيّة والهندسيّة والموقع الجغرافي المُناسب على حدود سوريا للمشاركة في العمليّة مُستقبلاً.
لذا فإن الخيار الأكثر واقعية بالنسبة لطهران يبقى في التعامل مع الرياض وأنقرة وأبو ظبي كمستثمرين مشاركين في سوريا، أفضل الخيارات لتحقيق المكاسب، باعتبار أن الأرض السورية تمس كلاً من روسيا وتركيا، وليس سهلاً التشارك مع هذين الطرفين الطامحين أيضاً إلى تحقيق المكاسب الاستثمارية، وهما أصلاً يعانيان من أزمات اقتصادية لا تقل حدّة عن الأزمة في إيران.
وهنا يبدو أن السعوديين باتوا يفضلون إقامة "توازن إقليمي" مع طهران وهو الأكثر تطميناً لهم، خصوصاً أنه يتكفّل بسد الثغرة الأكثر إزعاجاً لهم في اليمن والجغرافيا الخليجية بشكل عام. ومن هذه الضمانة، يصبح ممكناً الانطلاق للتفاوض أو المساومة حول مسائل أخرى كالعراق ولبنان.
وفي الفترة المقبلة، سيكون الهاجس الأكبر لدى السعودية وإيران بعد قطع شوط مهم في الملف اليمني، هو التوافق حول سوريا وتوازنات القوى فيها. عبر تحديد دور بشار الأسد داخليا وعربياً، والنقاش حول حصص القوى الميدانية وتحديداً الروس والأتراك، لذا فستكون القمة العربية المقرر عقدها في الرياض بعد أيام، بمثابة الإعلان عن الرؤية السعودية للنظام وسوريا إذا ما تقرّر دعوة النظام للحضور على مستوى وزير الخارجية.
في المقابل فإنّ لبنان سيكون فعلاً الملف الأكثر تقدماً في سياقات المرحلة المقبلة، وهذا الأمر يتبدى في العديد من الإشارات الإقليمية الواضحة، أهمها دخول واشنطن الأخير إلى الملف الرئاسي منذ أسابيع قليلة عبر مداولات الكونغرس والرسالة القاسية التي وُجّهت لـ بايدن من قبل زعيمي الديمقراطيين والجمهوريين في مجلس النواب، وتحميل الإدارة مسؤولية تفرد الحزب ونبيه بري في قيادة العملية الانتخابية، مع تلويح مستمر في سلة عقوبات تطول مقربين من رئيس المجلس كرسالة على إمساكه المعهود في فصول اللعبة البرلمانية.
ويبدو أن إصرار بري على فرنجية ليس حبّاً بالحليف فحسب، بل في إطار تأمين خروج آمن له في المستقبل مع تهاوي "الدولة العميقة" مع رياض سلامة في تموز وسابقاً مع إزاحة سعد الحريري وما نتج عنه من رفع الغطاء السني عن المنظومة.
والاندفاعة القطرية في المشهد اللبناني تترجم فعلياً الخطوط العريضة لنظرة القوى الدولية والإقليمية لشكل الرئيس دوره ومواصفات السلطة السياسية المقبلة، باعتبار أن الدوحة هي التي ما تزال تمتاز بعلاقات متقدمة مع الأطراف كلها، على عكس الأطراف الخارجية، ومن هذا المنطلق تنظر الأطراف إلى الدور القطري على أنه يتكامل بشكل لافت مع الرياض وواشنطن، وخاصة أن الجانبين يلتقيان مع القطريين على ضرورة إنتاج طبقة حكم غير متورطة بالفساد والأزمات، وقادرة على خلق مناخ أن لبنان بدأ يتغير بعد توقيع ترسيم الحدود مع إسرائيل.
وانطلاقاً من كل تلك السردية السورية واللبنانية، بات من الصعب أن تصبح اللعبة في الشرق الأوسط محصورة بقدرات قوة إيران وروسيا وحزب الله، وخاصة في ظل العقوبات الاقتصادية المدمرة التي ضربت عمق البنية الاقتصادية لروسيا وإيران، وفي ظل استمرار الجانب الإسرائيلي من توجيه ضربات أمنية وعسكرية للحضور الإيراني والميليشيات في سوريا، وكان واضحاً أنه قبيل زيارة رئيسي لدمشق، تعمّدت إسرائيل توجيه ضربة لمواقع محددة في حلب. في حين لم تترك واشنطن وسيلة للتذكير بأن التسويات الشرق أوسطية إمّا أن تكون برعايتها وإمّا فإنها ستفجرها من الداخل.
لذا فإنه مهما كانت الصفقات الحاصلة، فإن القوى المتصالحة مع بعضها باتت تتعاطى مع تحركاتها على أنها جزء من الاتفاق الكبير الذي ستسعى لعقده مع واشنطن مستقبلاً، وعندما ستتم عملية المقايضة بين هؤلاء، سيحددون مصير سوريا ولبنان معاً دون الالتفات لمصالح اللاعبين الصغار.