مع تصاعد التوتر العسكري الإسرائيلي مع حزب الله وتكثيف العمليات ورفع مستوى المواجهة، اندفعت الأطراف الدولية والإقليمية للعمل على خلق مسارات تهدئة ووقف العمليات والبحث عن صيغ تحول من دون نشوب حرب واسعة في المنطقة.
وعلى الرغم من إصرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو على مواصلة الحرب وتحقيق أهداف من خلال الضربات التي تم توجيهها منذ أكثر من أسبوع، فإن ذلك أعاق كل الاتصالات والمحاولات وفرغ الاجتماعات من مضمونها على هامش الجمعية العمومية في نيويورك.
واشنطن، التي أعادت سيناريو قطاع غزة بالحديث عن أهمية تفعيل المسار التفاوضي بين الأطراف، طالبت فرنسا بعقد جلسة لمجلس الأمن الدولي لمناقشة الحلول الممكنة والدفع باتجاه قرار يوقف التوتر العسكري ويلزم إسرائيل وحزب الله بالعودة لمسارات القرار الدولي 1701، وما قد يرافقه من تغييرات.
وعليه، فإن موقف الحكومة الإسرائيلية المعلن والذي تبلغه الأميركيون، وعمل المبعوث آموس هوكشتاين على تسويقه لدى اللبنانيين والإسرائيليين، يكتفي بطلب وقف النار في لبنان وضمان أمن السكان على الحدود الشمالية، وابتعاد مقاتلي حزب الله وصواريخه بضعة كيلومترات باتجاه نهر الليطاني. لذا، ففي أحسن الحالات يكون الخروج إلى ما وراء النهر تنفيذًا للقرار 1701.
الحقيقة المثلى هي أن نتنياهو يحاول الاستفادة من الفريق المتطرف في حكومته، والمتمسك بالحروب والعنف والطروحات التهجيرية.
لكن ما يفعله الجيش الإسرائيلي حاليًا في عملياته العسكرية لا يوحي بأنه سيكتفي بالطلب المعلن، وإنما يرفع السقف لتشمل الضمانات المطلوبة تعطيل أي قدرة لحزب الله على تنفيذ أي ضربة ضد إسرائيل، ولو في المستقبل. لذلك، اتسع نطاق الضربات الإسرائيلية ليشمل خصوصًا مخازن الصواريخ والمنصات في مناطق البقاع وبعلبك وجبل لبنان، إضافة إلى الجنوب.
ويندفع الإسرائيليون للتحذير من أن هذه المساحات الجغرافية المتوترة مرشحة للاتساع أيضًا لتشمل المخازن في مناطق أخرى بينها الضاحية الجنوبية وربما في مناطق شمالي لبنان. على الرغم من أن الإدارة الأميركية جادة في نقل تحذيرات شديدة اللهجة لحكومة اليمين المتطرف من مغبة ضرب الأحياء الكثيفة السكان، ما قد يؤدي إلى وقوع مجازر تفوق من حيث الضحايا بكثير تلك التي شهدها اليوم الأول من العملية العسكرية، والتي وفقًا لآخر الإحصاءات بلغت أكثر من 1700 قتيل.
وبدا أن مقاربة التيار اليميني الإسرائيلي المتطرف لخطورة بقاء قدرات حزب الله تقضي بتجريده من كل منظومته الصاروخية، ولا سيما الترسانة الدقيقة والباليستية، التي يمكن أن يستخدمها ضد المدن في إسرائيل، حتى ولو أقيمت المنطقة العازلة التي يبلغ مداها خط جنوبي الليطاني. أي أن تل أبيب تريد تعطيل الصواريخ التي يصل مداها إلى إسرائيل من وراء خط النهر. وهذا الطلب سيكون بمنزلة انكسار استراتيجي لحزب الله.
منذ بداية الحرب على قطاع غزة وفتح جبهات إسناد في لبنان واليمن، أشاعت مؤسسات ووسائل إعلام أميركية وأوروبية سردية تقول إن بنيامين نتنياهو يسعى لأن يكون الوجه الأكثر اعتدالاً في إسرائيل، في مقابل تيار كبير من المتطرفين في مطالبهم من حزب الله وحماس. لكن الواقع الحقيقي يخالف هذه السردية.
فالحقيقة المثلى هي أن نتنياهو يحاول الاستفادة من الفريق المتطرف في حكومته، والمتمسك بالحروب والعنف والطروحات التهجيرية لأسباب أساسية، أهمها أنه أساسًا قريب من هذه الخيارات منذ ثلاثة عقود على الأقل.
ثانيًا، لأن هوس الحروب يناسبه تمامًا لتحقيق طموحاته الخارجية وتجنب الاستحقاقات التي يمكن أن تقلم أظافره داخليًا وتبعده عن إدارة الأمور في إسرائيل. ولذلك، هو يرتاح إلى التعايش في الحكومة مع هذا الفريق المتطرف، ويبدي بسهولة استعداده للانقياد إلى خياراته المتوحشة.
وبناءً على ذلك، فإن مقاربة نتنياهو للعملية العسكرية في لبنان، في ظل التحضيرات التي واكبت خطابه في الأمم المتحدة، تعمد إلى إطلاق المواقف ببيانات متناقضة حول وقف النار، واستدراج العروض قبل أي حسم. في ظل التهافت والانقياد للتفاوض معه على وقف الجنون في لبنان والحديث معه عن أضرار ذلك.
التساؤلات الأهم تكمن أصلاً حول طبيعة التفاهمات بين الإدارة الأميركية وطهران، وهل هي التي تدفع نتنياهو لرفع سقوفه السياسية لمنع المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس من حيازة أوراق انتخابية رابحة، وبالتالي منح حملة ترامب المزيد من الدعم؟
وعليه، فإن التصورات لدى الفاعلين على خط الوساطة بين لبنان وإسرائيل تدرك أن هدف نتنياهو الحقيقي هو تصعيد القتال على جبهة لبنان حاليًا، وبشكل متدرج وقاسٍ، وليس ترسيخ مشروع الهدنة. يريد أن تؤدي عملياته إلى خلق أمر واقع على الأرض يجبر حزب الله ومن خلفه الإيرانيين على خفض سقف مطالبهم إلى الحد الأدنى.
وتؤكد تجربة المفاوضات في غزة مع حركة حماس أن نتنياهو وشركاءه سيقومون بإضاعة الوقت في مفاوضات عبثية، في حين هم يرسخون وقائع ميدانية بالمجازر والدماء لفرض الأمر الواقع المتخيل. والأساس أيضًا أن نتنياهو حريص على أن تؤدي تحركاته الميدانية إلى دفع الإدارة الديمقراطية للتورط أكثر في تحولات المنطقة التي يرسخها، في محاولة لسحب أي نقطة تقدم أمام الحزب الجمهوري، والذي بات واضحًا أنه يعول على عودة ترامب.
لكن التساؤلات الأهم تكمن أصلاً حول طبيعة التفاهمات بين الإدارة الأميركية وطهران، وهل هي التي تدفع نتنياهو لرفع سقوفه السياسية لمنع المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس من حيازة أوراق انتخابية رابحة، وبالتالي منح حملة ترامب مزيدا من الدعم؟ لذا فإن غالب الظن أن نتنياهو يسعى لتوظيف تحركاته لمصلحة الحزب الجمهوري. وهنا يكمن عمق أزمة المنطقة حتى لحظة إغلاق صناديق الاقتراع مطلع تشرين الثاني القادم.