قبل أيام من موته في أول آذار 1969 كتب رئيس مكتب الأمن القومي في القيادة القطرية لحزب البعث وصيته التي ازدحمت بمفردات الثورة والجماهير والاستعمار والصهيونية والرجعية. وبدا فيها متشائماً بعد أن كرّس نفسه للقضاء على «الجواسيس والعملاء»، وأحرق كل مراكبه من رصيد «العلاقات الاجتماعية البالية» في حين تمسك بعض أفراد قيادة البعث بهذه العلاقات «من أجل دعم موقفه»، ففهموا حركة 8 آذار 1963 على أنها ثورة من أجل «المنصب والمكاسب ولإرضاء الغرور الشخصي».
لا يترك العقيد عبد الكريم الجندي قارئه في حيرة فهو يدل بوضوح على حافظ الأسد، وزير الدفاع حينئذ، مشبهاً إياه بنيرون الذي «سيدمر القضية ويدمر نفسه لأنه مغرور مرتبط مشبوه ينفذ بدقة مخططات الأعداء من كل الأصناف». مؤكداً أنه يشير إلى هذا الخطر الذي «يهدد كيان الشعب» بدافع الأمانة «للتاريخ وللأجيال ولكل مواطن كادح شريف» دون هدف شخصي، فقد «لا يكون جيلنا من القادة محظوظاً بالاستمرار في قيادة الثورة، وقد أكون أو لا أكون أنا لأنني غير مهم» وقد «لا أكون حياً». وهي النبوءة التي تحققت بعد أقل من أسبوع.
تحدر الجندي من عائلة إسماعيلية معروفة من بلدة سلمية التي ولد فيها عام 1932. انتسب إلى حزب البعث وتطوع في الكلية الحربية حيث التقى بصلاح جديد وصارا صديقين. وعندما كان الاثنان في القاهرة، أثناء الوحدة السورية المصرية، أصبحا عضوين في اللجنة العسكرية البعثية الشهيرة التي كانت بقيادة محمد عمران وضمت حافظ الأسد وأحمد المير، ولعبت دوراً بارزاً في انقلاب البعث وفي حكم سوريا بعد ذلك. انتقل الجندي من السلك العسكري، الذي كان يقود من خلاله قطعة مهمة في منطقة القطيفة، إلى وزارة الإصلاح الزراعي التي أتاحت له تنفيذ قناعاته عن المجتمع التعاوني الاشتراكي. وعندما قررت القيادة القطرية للحزب إنشاء مكتب للأمن القومي اختارته لرئاسته، بالإضافة إلى إدارته جهاز أمن الدولة، في السلطة التي تولت الحكم في النصف الثاني للستينات.
في عام 1969 وصل الخلاف بين أجنحة الرفاق إلى زاوية متوترة بعدما تركزت السلطة المدنية في يد صلاح جديد، الأمين العام المساعد للحزب، وحلفائه، في حين كان نفوذ الفريق حافظ الأسد يتغلغل في القوات المسلحة. وفي شباط من ذلك العام أنجز الأسد انقلابه الأول الذي سبق «الحركة التصحيحية» فسيطر موالوه، خلال أيام، على عدد من القطعات العسكرية المهمة وعلى التلفزيون والإذاعة والصحف الرسمية وعلى مواقع حزبية وإدارية كبيرة في الساحل.
كان رفعت، الشقيق الأصغر لحافظ، ذراعه الضاربة عبر «سرايا الدفاع». وكان العقيد علي الظاظا، رئيس شعبة المخابرات العسكرية، أحد الأذرع الكثيرة الأخرى. وفي مواجهة الجندي، رأس حربة جماعة جديد، بدأت حرب الأجهزة وتصاعدت المضايقات التي هدفت إلى تفريغ جهاز أمن الدولة وتجريد الجندي من قواته بالتدريج، حتى محاصرته.
لم يكن رئيس مكتب الأمن القومي حسن النية، هو الذي يصفه عارفوه بالذكاء الحاد، وكان يعرف ما يمكن أن يفعله الرفاق ببعضهم مما سبق أن مارسه من تعذيب وحشي في حق زملاء «متآمرين». وهي التهمة التي كان ذلك العهد يستسهل إطلاقها بتأثير من اندفاعته الثورية الحمراء التي كان من معالمها توجه الجندي إلى التنسيق الأمني مع جهاز المخابرات السوفييتي KGB.
في مساء الأول من آذار 1969 كان غضب أبو حسين قد بلغ ذروته، هو الذي لا تنقصه حدة الانفعال والاعتداد بالنفس، فاتصل برئيس شعبة المخابرات العسكرية، محملاً إياه رسالته الاحتجاجية الدامية الأخيرة للفريق الأسد، وهي طلقة في الرأس سمعها الظاظا عبر الهاتف، تبعها صوت ارتطام، وصمت.
الشهود على المكالمة عديدون من فريق الأسد، كان بعضهم في زيارة الظاظا وذهبوا معه إلى مكتب وزير الدفاع الذي بادر، بحسب روايتهم، إلى الاتصال لإسعاف الجندي إلى المشفى الإيطالي ومحاولة إنقاذ حياته. أما جناح القيادة القطرية المضاد، الذي لم يكن مطلاً على الحادثة مباشرة، فقد فوجئ بها نسبياً رغم أن أفراده، من رفاق الجندي، كانوا يلحظون تصاعد الإحباط في نفس رجلهم القوي وسؤاله أحدهم عن الطريقة التي ينهي بها الساموراي حياته. لكن أكثر ما شكك في الحادثة هو عثور الطبيب الذي فحص الجثة على أكثر من طلقة في صدغ الجندي، مما أثار الريبة في رواية انتحاره وطرح احتمال قيام الأسد بتصفيته.
وهكذا ظل السؤال معلّقاً: هل انتحر الجندي أم قُتل؟ وبات مرتكزاً للشك في حوادث لاحقة أعلن فيها النظام عن انتحار محمود الزعبي، الرئيس السابق لمجلس الوزراء، في عام 2000، وغازي كنعان، وزير الداخلية، في سنة 2005.
للإجابة عن هذا السؤال ينقل لنا أحد المقربين من علي الظاظا ما سمعه منه قبل وفاته في 2018، ويزعم أنه الرواية الكاملة للحادثة التي بدأت بالمكالمة الهاتفية ولم تنته بطلقة الانتحار. فبعد أن ذهب الظاظا إلى مكتب وزير الدفاع وتلقى أوامره وهمّ بالخروج يقول إن الأسد استوقفه، بعد أن طرأت في ذهنه فكرة غريبة مفاجئة، فما دام الجندي قد مات ما الذي يمنع من استغلال الموضوع لإرهاب رفاقه؟ كان وزير الدفاع يريد الإشارة إلى أنه ما دامت قد تمت تصفية هذا الضابط القوي في معقله الحصين «فما في حدا كبير»، وكان هدفه أن تعيش القيادة في رعب بعد هذه الحادثة وهي تتساءل: من التالي؟ وهو ما حصل بالفعل!
ولذلك أمر الأسد رئيس مخابراته العسكرية أن يكلف عنصراً موثوقاً بدخول مكتب الجندي واستخدام مسدسه نفسه لإطلاق رصاصة على رأسه من جديد، وتكليف قسم الشائعات ببث رواية أن الجندي مات مقتولاً. وفي الوقت ذاته استمر الأسد علناً في إنكار المسؤولية عن الحادثة أمام خصومه، ومن الناحية الرسمية نعى الجندي قائلاً: «لقد فقدنا بفقده مناضلاً صلباً تمرس بالكفاح في سبيل قضية أمته... كما كان خلال خدمته العسكرية مثالاً في نكران الذات وفي أدائه للواجب».