طمرت طبقات التاريخ الحديث للمنطقة واقعة كانت، في وقتها، شديدة الأهمية والتأثير. وهي أنّ تدخّل الجيش السوري في لبنان ابتدأ بمناصرة اليمين، المسيحي، ضد معسكر يساري كان يضم المقاتلين الفلسطينيين المتحالفين مع أحزاب وتيارات انضوت تحت عنوان «الحركة الوطنية اللبنانية» بحواضن مسلمة.
وفي أثناء صراع القوات السورية مع «منظمة التحرير الفلسطينية» وقواعدها في المخيمات ارتُكبت فظائع عدة كان أشهرها المقتلة التي يوثقها كتاب «مخيم تل الزعتر: وقائع المجزرة المنسية» لمحمد داود العلي، والذي صدر قبل نحو عام عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وفيه اعتمد الباحث على مراجع معروفة، ووثائق محفوظة غير منشورة، والأهم على مقابلات مع شخصيات فلسطينية ولبنانية معنيّة بهذا الملف، وشهادات قادة عسكريين وسياسيين وحزبيين، وناجين رووا وقائع ما جرى. ولذلك جاء كتابه غنياً بالتفاصيل، مدعماً بالجداول والخرائط والملاحق والصور، مما سنركز منه على دور الجيش السوري الداعم لمنفذي المجزرة.
أنشئ مخيم تل الزعتر في عام 1949 إثر النكبة. وعندما شنت إسرائيل غاراتها على الجنوب اللبناني في عام 1975 أصبح مقصداً للفلسطينيين من المخيمات الأخرى وللبنانيين الشيعة من أهل الجنوب الذين لجؤوا إليه وإلى حزام الفقر المحيط به، فتوسع على نحو أقلق سكان الأحياء المارونية المجاورة له وتصاعدت الاحتكاكات، لا سيما أنه قد سبق ذلك انتقال سلطة إدارته من الدولة اللبنانية إلى التنظيمات الفلسطينية.
في المرحلة الرابعة ارتكبت الميليشيات مجزرة في حق المدنيين والفرق الطبية في 12 آب 1976، لم يقرّ أحد بالمسؤولية عنها ولم يُعرف بعد مصير المئات من مفقوديها
مر اقتلاع المخيم بمراحل أربع: حصار تمويني فرضته الميليشيات اليمينية ووحدات الجيش اللبناني الموالية لها في مطلع عام 1976 واستمر سبعة أشهر. استهدف 30 ألف إنسان في تل الزعتر والأحياء القريبة منه، وتبعته مشكلات نقص المياه وانقطاع الكهرباء وضعف الخدمات الطبية. وثانياً هجوم عسكري محكم من الجهات كلها لاثنين وخمسين يوماً، وضع خطته المقدم، حينذاك، ميشال عون. ثم خروج متزامن للمقاتلين باتجاه الجبال واستسلام السكان. وفي المرحلة الرابعة ارتكبت الميليشيات مجزرة في حق المدنيين والفرق الطبية في 12 آب 1976، لم يقرّ أحد بالمسؤولية عنها ولم يُعرف بعد مصير المئات من مفقوديها.
بعد ذلك أصبح تل الزعتر موضوع قصائد وأغان ومقطوعات وأفلام أنجزها الكثيرون، كمحمود درويش ومظفر النواب وثنائي أحمد فؤاد نجم-الشيخ إمام ومارسيل خليفة وزياد الرحباني الذي روى، في أكثر من مقابلة تلفزيونية، شهادته على إشراف الضباط السوريين على قصف المخيم وزياراتهم، أثناء ذلك، لمنزل ذويه عاصي وفيروز.
أوكل حافظ الأسد إدارة الملف اللبناني إلى ثلاثة من كبار مسؤوليه وقتئذ؛ وزير الخارجية عبد الحليم خدام ورئيس الأركان حكمت الشهابي وقائد القوى الجوية ناجي جميل. أما على الأرض فبرزت أسماء ضباط موثوقين كالعقيدين، في ذلك الحين، محمد الخولي من المخابرات الجوية وعلي المدني من المخابرات العامة (أمن الدولة). ويروي الأخير أن الأسد، عندما كلّفه بمهمته في ترؤس لجنة أمنية عليا في البلد الشقيق، بررها بالقول: «إخوانكم المسيحيون في لبنان قد يلجؤون إلى إسرائيل من جراء تعرضهم لضغوط قوية من الإخوان الفلسطينيين، عليكم أن تحولوا بمهمتكم القومية هذه دون ذلك».
لم يكن الأسد ممن يحبون التخلي عن الرطانة الشكلية حتى في إطار المحيط الضيق لرجاله المقربين. وقد تمسك بروايته عن سبب التدخل العسكري في لبنان، واختيار معسكره اليميني بداية، في الإعلام والخطاب السياسي واللقاءات والاجتماعات. مداوراً على رغبته في مد نفوذه الإقليمي ليشمل جاره الأصغر، وعداءه للدور المعيق لطموحاته الذي لعبه كمال جنبلاط، قائد «الحركة الوطنية اللبنانية» حتى اغتياله بيد السوريين. وكذلك ميل الأسد إلى اللعب بالورقة الفلسطينية من خلال حلفائه فيها، وضغينته المتعاظمة تجاه ياسر عرفات زعيم «منظمة التحرير الفلسطينية» المصرّ على استقلاليته.
وقد زار وفد من هذه المنظمة دمشق في أثناء معركة المخيم، وطلب من قيادتها التدخل لدى القوات المهاجمة للتوقف عن استهدافه. لكن الأسد، الغاضب من كمين طازج كان فقد فيه 74 من جنوده بنيران الفصائل الفلسطينية واليسار اللبناني، زعم أنه لا يعرف بوجود مخيم اسمه تل الزعتر أصلاً، وأنه سمع بمعركة لكنه لم يأخذها بالجدية الكاملة. طالباً من ضيوفه الفلسطينيين أن يشرحوا له مقدار مأساوية الوضع وخطورته كما يقولون. ولما أنهوا عرضهم قال: «بحكي مع إخواني في القيادة العسكرية حتى نشوف بنقدر نتدخل أم لا، لأنه هذا شأن لبناني داخلي ونحن لا نتدخل في أمور من هذا القبيل». وبعد انتهاء اللقاء كتب أحد أعضاء الوفد في تقريره لقيادة المنظمة: «توقعوا أن هنالك مذبحة».
دلّت تصريحات قادة مهاجمين وتلميحاتهم على أن أذرع سوريا لعبت دورها في ذلك من داخل المخيم. ومن الثابت أن الضباط السوريين امتنعوا، يوم سقوطه، عن التدخل وهم يرون أفراد الميليشيات يرتكبون المجزرة
أما عملياً فيرى المؤرخ حنا بطاطو أن الأسد أذكى من أن يتورط علناً بمحاصرة مخيم فلسطيني بنسائه وأطفاله، ولذلك عمد جيشه إلى تكبيل الضحية لتسهيل الاعتداء عليها. بتعطيل الهجمات الفلسطينية التي هدفت إلى كسر الطوق عن المخيم من الجبال المحيطة، مما مكّن ميليشيا «الكتائب اللبنانية» وحلفاءها من القيام بهجوم شامل، محميّ الظهر، أدى إلى إسقاط تل الزعتر. كما دلّت تصريحات قادة مهاجمين وتلميحاتهم على أن أذرع سوريا لعبت دورها في ذلك من داخل المخيم. ومن الثابت أن الضباط السوريين امتنعوا، يوم سقوطه، عن التدخل وهم يرون أفراد الميليشيات يرتكبون المجزرة.
ورغم اعتماد الكتاب على بحث ميداني شمل مقابلات شخصية مع قيادات سياسية وعسكرية فلسطينية ولبنانية من الطرفين، فإنه لم يستطع الحصول على شهادة من الضباط السوريين الذين خدموا في لبنان في ذلك الوقت. أما «صوت فلسطين» من إذاعة دمشق فلم يبخل بمنح تل الزعتر، في أثناء المعارك وبعدها، وصف «المخيم البطل».