كشفت دراسة حديثة صادرة عن مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أن الحرب السورية أدت إلى تغيير جذري في السيطرة على حدود البلاد، حيث باتت دمشق عاجزة عن استعادة سيطرتها الكاملة على تلك المناطق التي أصبحت محل تنافس بين قوى محلية، إقليمية ودولية. وأوضحت الدراسة أن الحدود السورية لم تعد مجرد خطوط جغرافية تفصل البلاد عن جيرانها، بل أصبحت مساحات تخضع لنفوذ دول وجماعات تتنافس على النفوذ الاقتصادي والأمني فيها.
وفقد النظام السوري السيطرة على معظم حدوده، حيث باتت تركيا تسيطر على الحدود الشمالية، بينما تمارس إيران نفوذها على الحدود الشرقية عبر العراق والحدود الغربية من خلال دعمها لحزب الله. وفي المقابل، عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري في الشمال الشرقي والجنوب الشرقي، حيث أقامت قواعد عسكرية مهمة.
وأدى هذا التوزيع الجديد للسيطرة إلى نشوء مناطق تتمتع باستقلالية شبه كاملة، سواء من الناحية الاقتصادية أو الأمنية، ما أدى إلى تآكل سيطرة دمشق على تلك المناطق، وهو ما جعل الحلول السياسية التقليدية للأزمة السورية، مثل مبادرات مجلس الأمن الدولي، غير فعالة.
الدراسة سلطت الضوء على أن النزاع المسلح في سوريا لم يقتصر على التنافس العسكري والسياسي فقط، بل تسبب في تحولات ديموغرافية كبيرة. حيث تم تهجير حوالي 14 مليون سوري من مناطقهم، مما أتاح للنظام وحلفائه استغلال هذه التحولات لتعزيز نفوذهم، خاصة في الشمال الغربي والحدود الشرقية.
وأشارت الدراسة إلى أن بعض المناطق الحدودية شهدت تحولات كبيرة. على سبيل المثال، أصبحت مدن حدودية مثل سرمدا في الشمال مراكز اقتصادية مهمة بعد تراجع دور مدينة حلب، وذلك بفضل ارتباطها بالأسواق التركية وحمايتها من الغارات الجوية.
وتذكر الدراسة أن الصراعات الإقليمية مثل النزاع بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، والنزاع الإيراني-الإسرائيلي، أدت إلى تعقيد الأوضاع أكثر، حيث تحولت الحدود إلى ساحة مواجهة بين هذه القوى. وترى تركيا في قسد تهديداً أمنياً وجودياً، فيما تسعى إيران لاستخدام حدود سوريا كنقطة انطلاق لمواجهة إسرائيل وتعزيز نفوذها في المنطقة.
وخلصت الدراسة إلى أن استعادة السيطرة الكاملة على الحدود السورية من قبل النظام لم تعد هدفاً واقعياً في الوقت الحالي، وأن القوى الخارجية تفضل الوضع القائم لتحقيق مصالحها. وأوضحت أن غياب إطار وطني جامع لحل الأزمة السورية قد يدفع إلى مزيد من الانقسامات، ويهدد باستمرار عدم الاستقرار والنزاعات الإقليمية التي ستؤثر على مستقبل سوريا والمنطقة ككل.
وتؤكد الدراسة إلى أن احتواء الصراع أو إدارته في المناطق السورية لن يحل المشكلة فعلياً وسيؤدي إلى مزيد من الانهيارات في المناطق المستقرة نسبياً، مثل إدلب ومناطق سيطرة قسد.
وترى أن الحل لا يكمن في العودة إلى الوضع السوري قبل الحرب، بل في إنشاء إطار وطني سوري جديد يعيد تشكيل مؤسسات الدولة وآلياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتوضح الدراسة أن هذا المسار يستند إلى حاجة السوريين للتوصل إلى اتفاق داخلي شامل، يحدد شكل الدولة المستقبلية، ودور مؤسساتها، ويضع أسساً للحكم المستقبلي.
وتشير الدراسة إلى أن المحرك الأساسي لهذا الحل سيكون الاعتراف من القوى الإقليمية والدولية بعدم قدرتها على تحقيق انتصار كامل في سوريا بمفردها. فمع تعمق التشابكات الإقليمية والدولية، وغياب أي تقدم حاسم من قبل أي طرف، سيصبح الحل السياسي المتوازن الذي يحقق الاستقرار النسبي هو الخيار الوحيد المتاح للجميع. هذه القوى، سواء كانت إقليمية مثل تركيا وإيران، أو دولية مثل روسيا والولايات المتحدة، قد تجد أن دعم الحل الوطني السوري سيحقق مكاسب أكبر من استمرار الصراع.
في الآتي ترجمة الدراسة كاملة مع اختصار بعض فقراتها:
غيرت الحرب السورية شكل حدود البلد في المنطقة، فقد خسرت دمشق السيطرة على معظم أنحاء البلد، في حين احتفظت بسيطرة اسمية فقط على مناطق أخرى يهيمن عليها حلفاء نظام بشار الأسد. ولم تفتأ السيطرة على الحدود من أن تكون أحد الأبعاد الأساسية لسيطرة دولة البعث، كما أن ذلك يعتبر مقياساً لمدى سيادة الدولة عموماً، ولكن اليوم، أصبحت سيطرة حكومة النظام المركزية في سوريا على المناطق الحدودية في البلد محل تنافس بين عناصر فاعلة محلية وإقليمية ودولية، وهذا ما أدى إلى انتشار عدد من السلطات أو المراكز السياسية التي تتمتع بنفوذ في تلك المناطق.
تسيطر تركيا على الحدود الشمالية لسوريا، فيما تتمتع إيران بنفوذ على الحدود الشرقية عبر العراق وغرباً من خلال حزب الله. الولايات المتحدة من جهتها، أنشأت نقاطاً عسكرية على الحدود الشمالية الشرقية والشرقية حتى التنف. جميع هذه المناطق أصبحت تتمتع باستقلالية ذاتية مع اقتصادات وأمن خاص، ما أضعف سيطرة دمشق عليها.
لم تعد دمشق تسعى لاستعادة سيطرتها الكاملة على الحدود، بل باتت الديناميات المحلية والإقليمية هي التي ترسم حدود التفاعلات فيها. الحل للأزمة السورية لا يتماشى مع المبادرات السياسية الحالية، مثل قرار مجلس الأمن رقم 2254، ويتطلب تفكيراً جديداً.
الوضع السائد حيث تستمر النزاعات بين الأطراف الإقليمية والدولية في سوريا، لا يوحي بنهاية قريبة للصراع، بل يعزز احتمال تفكك الدولة السورية. استمرار هذا الوضع يهدد بانهيار داخلي في مناطق سيطرة النظام والمعارضة على حد سواء، ما يؤدي إلى تقويض التوازن القائم بين القوى الخارجية في سوريا.
الديناميات الحدودية بعد 2011
بدأ النزاع السوري في المناطق الحدودية بعد الانتفاضة عام 2011، حيث حقق الثوار أقوى تواجد لهم في تلك المناطق، والتي استفادوا فيها من الدعم الأجنبي. انسحب النظام من عدة مناطق حدودية للدفاع عن البنية التحتية الحيوية والمدن الكبرى، ما سمح للقوى المحلية والإقليمية بملء الفراغ.
فقد النظام السيطرة على الحدود الشمالية مع تركيا بحلول 2012، حيث حلت تشكيلات معارضة محلية محل مؤسسات الدولة. ظهرت في هذه المناطق جماعات مسلحة متنوعة، منها جماعات معتدلة مثل الجيش السوري الحر، وجماعات سلفية جهادية كجبهة النصرة، بالإضافة إلى وحدات كردية تسعى لاستقلال ذاتي.
في الشمال الشرقي، انسحب النظام من المناطق الكردية عام 2012، ما سمح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بالسيطرة وتشكيل منطقة حكم ذاتي بحكم الأمر الواقع، على الرغم من امتعاض تركيا.
أصبحت الحدود السورية-التركية ممرات حيوية للمساعدات العسكرية والمالية للثوار، وللمقاتلين الجهاديين والكرد. أدت تطورات عام 2016، بما فيها التدخل الروسي، إلى تغيير التوازن العسكري، ما أرغم المعارضة والداعمين الدوليين على التراجع عن خطط تغيير النظام.
توسعت تركيا في الشمال السوري بين 2016 و2019 من خلال سلسلة عمليات عسكرية. في الشمال الشرقي، حافظت الإدارة الذاتية على وجودها بفضل الدعم الأميركي، ما أدى إلى استمرار تهديد النظام السوري واستبعاد سيطرته على هذه المناطق.
أوضاع الجنوب السوري
شهدت محافظات درعا، القنيطرة، والسويداء مساراً مماثلاً لما حدث في الشمال، حيث استبدلت الهيئات المدنية المحلية سلطة الدولة، وظهرت جماعات مسلحة عديدة تحارب قوات النظام السوري. ورغم أن نفوذ الجماعات الجهادية السلفية كان ضعيفاً مقارنة بالشمال، كانت "الجبهة الجنوبية" هي اللاعب الرئيسي، بدعم من غرفة عمليات في الأردن تضم دولاً عربية وغربية. هذا الدعم توقف في 2017 مع تغير الأولويات الأميركية في سوريا.
استعاد النظام السوري السيطرة على المنطقة في 2018 بفضل اتفاق روسي، ولكن دون السماح بنشر قوات إيرانية في الجنوب. ورغم مرور خمس سنوات، لم يتمكن النظام من فرض سيطرته بالكامل، في ظل تراجع النفوذ الروسي بسبب الحرب في أوكرانيا وتوسع نفوذ إيران في القنيطرة.
المنطقتان الحدوديتان الشرقية والغربية في سوريا بعد عام 2011
اختلف تطور المناطق الحدودية في شرقي وغربي سوريا عن الشمال والجنوب، نظراً لهيمنة النفوذ الإيراني في لبنان والعراق، حيث تدعم إيران عناصر فاعلة غير حكومية مؤيدة للنظام السوري.
خلال السنوات الأولى للنزاع، كانت المساعدات تصل إلى جماعات المعارضة عبر لبنان، مروراً بالحدود السورية، مثل تلكلخ والقصير. ولكن في عام 2013، شنت قوات النظام السوري وحزب الله هجمات على هذه المناطق واستعادت السيطرة عليها، واستكملت السيطرة على جبال القلمون في عام 2017 ضمن اتفاقية مع الثوار.
الحدود السورية-العراقية تحولت إلى نقطة لتجمع قوى مختلفة بعد انسحاب النظام في 2013. في الشمال الشرقي، سيطر الكرد ووحدات حماية الشعب على الحسكة، بينما تسيطر قوات أخرى على دير الزور. سيطر تنظيم الدولة على مناطق واسعة بين سوريا والعراق في 2014 قبل هزيمته في 2019.
بعد هزيمة تنظيم الدولة، توسع نفوذ الحشد الشعبي، خاصة الفصائل المدعومة من إيران مثل كتائب حزب الله، على طول الحدود. سيطر الحشد على مناطق استراتيجية مثل القائم، وركزت هذه الفصائل على مواجهة النفوذ الأميركي والإسرائيلي في المنطقة. كما اشتد التنافس في منطقة سنجار بين الفصائل الكردية والعراقية المدعومة من إيران.
توضح الخارطة المعقدة للصراع في سوريا النفوذ الكبير للعناصر الفاعلة الخارجية، وخاصة إيران. إذ من خلال نشر حلفائها على الحدود السورية-العراقية، لم تكتفِ إيران بضمان اتصال المناطق بين إيران ولبنان لتأمين السلاح والدعم لحزب الله، بل أيضاً سعت لشن هجمات على إسرائيل ودعم نظام الأسد. في المقابل، أقامت الولايات المتحدة قواعد عسكرية بالقرب من الحدود، مما منحها نفوذاً سياسياً وعسكرياً، مكنها من مراقبة نشاطات الحرس الثوري الإيراني ومواجهة خلايا تنظيم الدولة. كذلك، زادت تركيا من تدخلها في الحدود السورية والعراقية لمنع تشكيل كيان كردي متحالف مع حزب العمال الكردستاني.
بعد أكثر من عقد على الحرب، أصبحت الجماعات المحلية في المناطق الحدودية مدعومة بحماية أجنبية، مما أدى إلى تآكل سيادة الدولة السورية وتحولت السيطرة إلى عملية تشاركية أو ضعيفة، نتيجة تفاعل حلفاء وأعداء النظام في رسم ملامح هذه المناطق.
تأثير الناحية الديموغرافية والأمنية والسوقية
خلال النزاع السوري، ازداد تفاعل العناصر المحلية والدول الإقليمية في المناطق الحدودية، مما عزز الحكم الذاتي في الشمال، الجنوب، والشرق السوري. أدى ذلك إلى تقويض سيادة دمشق كمركز للسلطة، حيث اكتسبت قوى إقليمية نفوذاً واسعاً على حساب النظام السوري، معتمدة على الديموغرافيا، العلاقات الاقتصادية عبر الحدود، والأمن كعوامل رئيسية.
تسببت الحرب في تغيير ديموغرافي كبير، حيث نزح نحو 14 مليون سوري عن مناطقهم. بينما استغل النظام السوري والعناصر الخارجية هذه التحولات الديموغرافية لتحقيق مكاسب سياسية، إذ تمت عمليات تهجير منظم لسكان المناطق المعارضة، خاصة في الشمال الغربي.
بين 2016 و2018، نقل النظام السوري حوالي 200 ألف شخص من مناطق المعارضة إلى إدلب، في خطوة ساعدته على التخلص من شريحة سكانية معادية. ورغم الحملات العسكرية لاستعادة السيطرة على إدلب، توقفت تقدمات النظام بسبب الضغوط الاقتصادية والحرب الروسية الأوكرانية.
استخدم النظام السوري النزوح كأداة لإدارة النزاع، حيث سمح للمعارضين بالانتقال إلى مناطق أخرى ليعيدوا تنظيم صفوفهم. تم ذلك بوضوح في القصير عام 2013، وحمص عام 2014، حيث تم إخلاء المدنيين والمقاتلين عبر صفقات تفاوضية. هذه الاستراتيجية تكررت في مناطق أخرى مع تدخلات من روسيا وإيران.
شهدت الحدود مع العراق تغييرات ديموغرافية شملت تهجير السنة العرب نتيجة سيطرة تنظيم الدولة على مناطق واسعة بين 2014 و2019. بعد هزيمة التنظيم، سيطرت الميليشيات المدعومة من إيران على هذه المناطق، مما رسخ النفوذ الإيراني الإقليمي وربط العراق وسوريا ولبنان ضمن محور المقاومة.
أسفر النزاع عن نزوح كبير للسوريين إلى لبنان، حيث يعيش نحو 1.5 مليون لاجئ سوري، معظمهم من مناطق المعارضة السابقة. هذا النزوح استُغل من قبل النظام السوري وحزب الله لتعزيز نفوذهم في لبنان، بينما واجه اللاجئون عقبات كبيرة تحول دون عودتهم إلى سوريا بسبب الدمار والمصادرات.
العلاقات الاقتصادية عبر الحدود والأسواق الجديدة
خلف النزاع السوري آثاراً كبيرة على المناطق الحدودية، حيث أعاد تشكيل الشبكات الاقتصادية وظهرت مراكز اقتصادية جديدة خارجة عن سيطرة النظام السوري، خاصة على الحدود الشمالية مع تركيا. كانت حلب، المركز الاقتصادي للشمال السوري، من أبرز المدن المتضررة، حيث تراجعت مكانتها الاقتصادية لصالح مدن حدودية مثل سرمدا، التي تحولت إلى مركز اقتصادي بفضل ارتباطها بالأسواق التركية وحمايتها من الغارات الجوية السورية والروسية. سرمدا أصبحت جسرًا يربط سوريا وتركيا بالأسواق العالمية، وشهدت نموًا سكانيًا واقتصاديًا كبيرًا، إذ استقطبت المستثمرين النازحين الذين أسهموا في إعادة بنائها.
بحلول عام 2019، بلغ عدد سكان سرمدا 130 ألف نسمة، وأصبحت مركزًا تجاريًا هامًا، حيث يلعب السوريون دورًا بارزًا في الاقتصاد التركي، وخاصة في ولاية كلس حيث شكلوا 35% من المستثمرين الجدد. أصبحت سرمدا همزة وصل عبر ميناء مرسين التركي، تربط بين الأسواق العالمية ومناطق شمال سوريا الخاضعة للمعارضة والمناطق الكردية والمناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، لكن التجارة مع مناطق سيطرة النظام باتت تعتمد بشكل كبير على التهريب بسبب إغلاق المعابر الرسمية.
في عام 2016، استعاد النظام السوري السيطرة على الجزء الذي كان بيد الثوار في حلب، لكن المدينة بقيت تعاني من هجرة الاستثمارات والعمالة الماهرة، وباتت تفتقر إلى الحيوية الاقتصادية التي كانت تتمتع بها سابقًا. في المقابل، شهدت مدن مثل اعزاز والراعي وجرابلس في الشمال الغربي نموًا اقتصاديًا بفضل الوصاية التركية، وتحسنت فيها البنية التحتية والتجارة.
أما على الحدود مع العراق، فقد خضعت المنطقة لسيطرة ميليشيات وجماعات مسلحة بدلًا من ظهور محاور اقتصادية بديلة. هذه المنطقة تسهل عمليات التهريب عبر الحدود نتيجة لعلاقات عشائرية وعائلية قديمة، لكن في السنوات الأخيرة، أصبحت الميليشيات مثل كتائب حزب الله وحركة حزب الله النجباء تسيطر على الأنشطة غير المشروعة، مثل تهريب الوقود والبضائع.
على المعابر الحدودية مثل القائم-البوكمال، سمحت هذه الميليشيات بمرور شاحنات تنقل بضائع وأسلحة، مما أثر سلبًا على الاقتصاد المحلي. بالإضافة إلى ذلك، أدارت ميليشيات مرتبطة بإيران أنشطة اقتصادية رسمية، مثل تشغيل حقول النفط في سوريا، حيث تسيطر على نسبة من الإنتاج وتشارك في صفقات مع شركات مقربة من النظام السوري. هذا يعكس محدودية سيطرة النظام السوري على المناطق الحدودية الشرقية، حيث تهيمن الميليشيات على الاقتصاد المحلي وتستفيد من التهريب والأنشطة غير المشروعة.
الحدود الشمالية السورية-العراقية
في القسم الشمالي من الحدود بين سوريا والعراق، تولت الإدارة الذاتية التي تقودها وحدات حماية الشعب وحكومة إقليم كردستان العراق إدارة المعابر الحدودية، بدلاً من حكومتي دمشق وبغداد. تمت هذه الخطوة في إطار جهود الطرفين لتحمل المسؤوليات التي كانت سابقًا من اختصاص الحكومتين، وتأسيس إدارة مستقلة على المعابر. معبر سيمالكا (على الجانب السوري) وفشخابور (على الجانب العراقي) يعدان أبرز المعابر في هذه المنطقة، ويتم تشغيلها خارج إطار الاعتراف الرسمي من قبل الحكومتين السورية والعراقية.
تتم عبر هذه المعابر أنشطة متنوعة تشمل التجارة الرسمية وغير الرسمية، هجرة الأفراد للبحث عن فرص عمل، وتحركات مقاتلي حزب العمال الكردستاني والجنود الأميركيين. هذه الأنشطة تجري بشكل مستقل عن سيطرة الحكومات السورية والعراقية، مما جعل المنطقة معقدة من الناحية الاقتصادية والسياسية. الإدارة الذاتية وحكومة إقليم كردستان تحاولان مكافحة التهريب والأنشطة غير المشروعة التي تستنزف الموارد، ومع ذلك، تبقى المنطقة غارقة في الصراعات السياسية، حيث تتنافس الجماعات شبه العسكرية والسياسية على النفوذ.
ظهرت معابر جديدة لتسهيل حركة الأفراد والسلع بين شمال شرقي سوريا وإقليم كردستان العراق، وأصبحت مواضع للتنافس بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والإدارة الذاتية. تمتد هذه المنطقة الحدودية لمسافة 150 كيلومترًا تقريبًا من المثلث الحدودي العراقي-السوري-التركي جنوبًا نحو بلدة البعاج في نينوى على الجانب العراقي وحتى الشدادي في سوريا. من بين المعابر الرسمية وغير الرسمية، نجد معبر ربيعة-اليعربية (المعبر الرسمي الوحيد)، ومعابر غير رسمية مثل سيمالكا-فشخابور، الفاو، ومعبر وليد (الذي يجب تمييزه عن معبر وليد في الجنوب).
في ظل غياب الاعتراف الرسمي بأنشطة هذه المعابر، لا تزال المنطقة تشهد نشاطًا اقتصاديًا غير رسمي، حيث تدير السلطات المحلية في كردستان العراق والإدارة الذاتية هذه الأنشطة بدرجات متفاوتة من المرونة، في بعض الأحيان حتى برعاية من السلطات نفسها، ما يعزز التنافس بين الفرقاء السياسيين في المنطقة.
الوضع الأمني والمناطق الحدودية السورية
خلال العقد الماضي، ظهرت عدة أنظمة أمنية موازية في سوريا، مما قوض سيادة الدولة السورية وخاصة في المناطق الحدودية. شملت هذه الأنظمة الترتيبات الأمنية التركية والإيرانية والأميركية، وكل منها عمل في مناطق نفوذ محددة، مع تأثير كبير على الاستقرار والسيادة السورية.
قامت إيران بإنشاء شبكة من الميليشيات المحلية الموالية لها، ربطت العراق بشرقي سوريا وامتدت إلى لبنان عبر جنوب سوريا. مثال مدينة القائم يظهر كيف استخدمت إيران مناطق سنية كممرات لميليشياتها لتعزيز نفوذها الإقليمي، حتى أنها وسعت نفوذها على بعض الجماعات السنية المسلحة.
تركيا بدورها أنشأت مناطق نفوذ في شمال سوريا حيث يوجد جيشها. هذه المناطق تتمتع بنوع من الدفاع الذاتي، مع إعادة تشكيل للهياكل المحلية السياسية والعسكرية.
في شرقي وشمال شرقي سوريا، بالإضافة إلى قاعدة التنف، تواجدت القوات الأميركية كجزء من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة. ومع أن هدفها الرئيسي كان محاربة داعش، فإنها استمرت في الاحتفاظ بنفوذ في هذه المناطق.
دمشق عاجزة عن استعادة سيادتها على هذه المناطق الحدودية في المستقبل القريب، حيث تسيطر كل من إيران وتركيا وأميركا على مناطقها المحددة.
بخلاف الشمالين الشرقي والغربي، الوضع الأمني في مناطق سيطرة النظام السوري أكثر تعقيداً وسيولة. بدلاً من وجود نظام أمني واحد، يوجد تداخل بين قوات النظام السوري وروسيا وإيران. رغم استعادة النظام السوري لمناطق المعارضة بدعم روسي بعد عام 2016، إلا أن نظام الأسد بات يضعف تدريجياً. من أسباب هذا التراجع العقوبات الأميركية، انهيار الاقتصاد اللبناني، وتركيز روسيا على حربها في أوكرانيا، مما أدى إلى تعثر محاولات روسيا لتعزيز نفوذها في الجنوب السوري. ومع ذلك، بقيت روسيا عنصراً مهماً، إلى جانب إيران، في التأثير على الوضع الأمني في سوريا.
النموذج الإيراني
ما يزال النموذج الأمني الإيراني في سوريا في طور التغير والتوسع، مستفيداً من النزاع السوري لتعزيز نفوذ طهران العسكري والاقتصادي ونشر أيديولوجيتها. هذا التوسع أكد على نفوذ إيران الإقليمي الكبير، خاصة في المناطق القريبة من إسرائيل وعلى الحدود الأردنية. لا تقتصر أنشطة إيران في الجنوب السوري على مواجهة إسرائيل، بل تشمل أيضاً تطوير نفوذ طويل الأمد في المناطق الحدودية، بما يخدم مصالحها الإقليمية.
في ظل ضعف روسيا والنظام السوري، يبقى النموذج الأمني الإيراني الأكثر تطوراً وقابلية للحياة في سوريا. أنشطة إيران وحزب الله في دمشق والجنوب، خصوصاً في القنيطرة ودرعا، تظهر مدى تجاوز هذا النموذج لسيادة الدولة السورية الضعيفة، ما يعزز التبعية السورية لإيران. أحد الأمثلة على ذلك هو الزيادة الكبيرة في الانتهاكات الإسرائيلية للمجال الجوي السوري بعد 2011.
تستفيد إيران من عدم استقرار الجنوب السوري لتوسيع نفوذها، بينما يستنزف النظام السوري موارده هناك عبر الاغتيالات والهجمات. الدور الروسي تراجع أيضاً بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، مما قلل من نفوذ موسكو في سوريا. على الرغم من ذلك، لا يزال النموذج الإيراني يواجه صعوبات، خاصة مع معارضة محلية في السويداء ودرعا، ما يعوق توسع إيران في تهديد إسرائيل.
على الحدود اللبنانية-السورية، يلعب حزب الله دوراً محورياً في تنفيذ استراتيجية إيران، حيث تزايد نفوذه بعد تدخله في النزاع السوري إلى جانب النظام السوري. حزب الله يستغل هذه الحدود لتهريب الأسلحة والمواد إلى الداخل اللبناني، مما يعزز دوره كفاعل أساسي على جانبي الحدود. استغلال الحدود لخدمة مصالح إيران ساعد في تقويض سيادة الدولة اللبنانية.
النموذج الأمني الإيراني ليس تهديداً لإسرائيل فقط، بل يشكل مشكلة للأردن أيضاً، حيث زادت الأنشطة غير المشروعة، مثل تهريب المخدرات والأسلحة عبر الحدود السورية. محاولات الأردن لمواجهة هذا التهديد كانت خجولة مقارنة بالرد الإسرائيلي، حيث بقيت الحدود السورية-الأردنية منطقة لعدم الاستقرار المثالي لازدهار شبكات إيران.
النموذج التركي
بدأت دعمه للمظاهرات المناهضة للنظام السوري منذ الشهور الأولى للانتفاضة، وبلغ التعاون بين الطرفين ذروته خلال معركة حلب في صيف عام 2012، عندما سيطرت جماعات المعارضة المسلحة على مناطق واسعة من محافظة حلب. في المقابل، رد النظام السوري بسحب قواته من شمال شرقي سوريا على الحدود التركية وسلمها لمقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب، التي تعتبر عدواً رئيسياً لأنقرة، مما خلق تهديداً أمنياً كبيراً لتركيا.
من منظور تركيا، ونظراً لوجود عدد كبير من الأكراد داخل حدودها، تخشى أن يسعى هؤلاء لإقامة دولة مستقلة، لذا تعتبر أمن الحدود قضية وجودية. وقد دخل الجيش التركي الأراضي السورية عدة مرات خلال العقد الماضي لتأسيس مناطق عازلة تهدف إلى إبعاد وحدات حماية الشعب الكردية عن الحدود. ومع ذلك، يبدو تحقيق هذا الهدف بشكل كامل صعباً بسبب تعارض مصالح تركيا مع الولايات المتحدة وروسيا وإيران.
يعتمد النموذج الأمني التركي على الديموغرافيا والوجود العسكري المباشر. فقد أسست تركيا مناطق حدودية تحت سيطرتها حيث يشكل العرب الأغلبية، وفصلت قوات قسد عن الأراضي التركية. هذه المناطق تخضع لإدارة تركية مباشرة مرتبطة بمحافظات مثل غازي عنتاب وأوروفا وكلس وأنطاكيا.
عيبقى النموذج الأمني التركي مصدراً للقلق لأنقرة، حيث تحول سياساتها منذ 2016 إلى محاولة تصحيح استراتيجيتها السابقة التي دعمت فصائل إسلامية ضد النظام السوري. ورغم جهودها، لا تزال تركيا تواجه تحديات في تحقيق الاستقرار في المناطق الحدودية، خصوصاً فيما يتعلق بالحكم المحلي والمسؤوليات الإنسانية والأمنية.
محاولات التقارب بين أنقرة ودمشق بوساطة روسية وعراقية تستند إلى تهديد مشترك يتمثل بالخطر الكردي. ورغم أن التقارب لم يحقق نجاحات ملموسة، إلا أن هناك مرونة أكبر في 2024، مع تصريحات من الأسد وأردوغان تشير إلى إمكانية تحسين العلاقات. ومع ذلك، تبقى القضايا الخلافية قائمة، وقد يؤدي فشل الوساطة إلى استمرار النموذج الأمني التركي أو توسيعه لحماية المصالح التركية.
النموذج الأميركي
قد يتسم وجود القوات الأميركية في سوريا بأنه مجرد امتداد للوجود الأميركي في العراق، إذ منذ الإطاحة بنظام صدام حسين في عام 2003، تعرض الجيش الأميركي لأخطار كثيرة وصلته عبر الحدود السورية، وأهمها انتقال الجهاديين السفليين من شرقي سوريا إلى غربي العراق. وعلى الرغم من خطة الانسحاب التي أطلقتها إدارة باراك أوباما في عام 2011، بقيت القوات الأميركية متمركزة على الحدود السورية-العراقية، وكان الهدف الأساسي للعمل الإطاري الأمني الذي أسسته يتمثل بتأمين الحدود، وبمرور الوقت، زاد تدخل الولايات المتحدة بديناميات النزاع السوري بسبب ظهور تنظيم الدولة وما نجم عن ذلك من شراكة مع قسد، إلى جانب توسع النفوذ الإيراني وشبكاته في سوريا.
مثل ظهور تنظيم الدولة في عام 2013 والذي عمل على ربط أنشطة الجهاديين السلفيين في غربي العراق بأنشطتهم في شرقي سوريا، تهديداً كبيراً للأمن الإقليمي والدولي من قلب الشرق الأوسط، ورداً على ذلك أسست الولايات المتحدة تحالفاً كبيراً لمحاربة التنظيم، وقد وقفت القوات الكردية التي حاربت تحت لواء قسد مع هذا التحالف، إلا أن التحالف لم يدم أو لنقل إنه لم يتأثر بالتحولات الجيوسياسية. إذ على الرغم من استمرار وجود خطر تنظيم الدولة، أصبحت الشراكة بين الولايات المتحدة وقسد معقدة بسبب أن قسد تنظر إلى المنطقة الواقعة شرقي نهر الفرات (والحدود برمتها) من منظور أنها تمثل مرحلة ما بعد تنظيم الدولة، كما تنظر إليها في ظل النزاع بين حزب العمال الكردستاني وتركيا، والذي استمر على حاله منذ ثمانينات القرن الماضي، وفي كلتا الحالتين، تعتبر المنطقة الحدودية الموضع الذي أحدثت فيه التطورات أثراً إقليمياً إزاء مجرد كونها قضية سورية محلية.
أما من منظور الولايات المتحدة، فإن تأمين شمال شرقي سوريا والحدود الشرقية مع العراق خلف آثاراً جلية على الأخير، إذ في الوقت الذي بقيت الأولوية العسكرية للقوات الأميركية تتمحور حول منع تنظيم الدولة من العودة، وهذه العملية قد تحتاج إلى عقد آخر، ظهرت حسابات أخرى منذ هزيمة دولة الخلافة في العراق في 2017، وسوريا في 2019. فقد ظهرت خارطة جديدة للنفوذ في المنطقة من خلال فلول النظام في مدينة القامشلي، وسعت للتأثير على الديناميات المحلية، في حين توسعت طهران وربطت مدينة القائم في العراق بمدينة البوكمال في سوريا، وسيطرت القوات الأميركية وحلفاؤها في قسد على المعبر الرئيسي الذي يربط بين شمال شرقي سوريا وإقليم كردستان العراق، وكانت الولايات المتحدة قد أسست قاعدة في التنف، وبالنتيجة، أصبحت الحدود التي تربط سوريا بالعراق وتركيا موضعاً لأشكال نفوذ متضاربة.
ولهذا فإن النموذج الأمني الأميركي، بخلاف النموذجين الإيراني والتركي، يعتبر النموذج الوحيد الذي دخل في النزاع مع النموذجين الآخرين، إذ إن إيران وتركيا لا تهدد أي منهما بالعموم وبصورة أساسية النظام الأمني الذي وضعته الأخرى، اللهم باستثناء ما يتصل بالروابط التكتيكية والقابلة للإدارة والتي شكلتها الميليشيات التابعة لإيران مع حزب العمال الكردستاني، في حين كانت عملية أستانا إحدى العمليات التي نسقت فيها الدولتان في الشأن الأمني بالتعاون مع روسيا. وبالمقابل، مثل الوجود الأميركي خطراً كبيراً على كل من إيران وتركيا، حتى عندما تختلف الدولتان على طريقة الرد على الانسحاب الأميركي المحتمل. ثم إن التحالف الأميركي مع قسد وضع حدوداً على ما بوسع القوات التركية أن تفعله في الشمال السوري وشمال شرقي سوريا، في حين أن الوجود الأميركي على الحدود مع العراق يمثل تحدياً استراتيجياً محتملاً للجهود الإيرانية في ضمان حرية تحرك قواتها وحلفائها بين العراق وسوريا.
اعتمدت الولايات المتحدة في تعزيز أمنها على الحدود السورية-العراقية بصورة رئيسية على الشركاء المحليين، إذ تعتبر قسد حليفاً مثالياً في الحرب على داعش، كما أنهم كانوا من أوائل ضحايا تنظيم الدولة، وانضباطهم العسكري وقدرتهم على ضبط السلاح داخل عمل إطاري موحد حولهم إلى شركاء موضع ثقة. وإضافة لذلك، فإن الوجود الأميركي الكبير في كردستان العراق، حتى بعد أن أصبح مؤهلاً أكثر اليوم، إلى جانب إقامة قنصلية كبيرة ووجود قوة عسكرية، ساعد في دعم الانتشار الأميركي هناك.
ولكن ثمة مشكلة مهمة أثارتها النظم الأمنية الأميركية والتركية والإيرانية المتناحرة وتتصل هذه المشكلة بالتداعيات المترتبة على التوصل إلى حل نهائي للنزاع في سوريا، إذ كما هي حال الواقع الديموغرافي في البلد، والتحولات الكبيرة التي طرأت على التجارة والتبادلات التجارية عبر الحدود، يعبر التشظي على المستوى الأمني عن غياب عمل إطاري وطني في سوريا، وهذا ما يعقد وبشكل كبير مستقبل عملية التفاهم السورية-السورية التي يمكن أن تحتل قلب أي عملية تسعى لإنهاء النزاع السوري.
المناطق الحدودية والحل في سوريا
بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على القضية السورية والذي بات بالإمكان وصفه بشكل أكثر دقة اليوم بأنه أزمة متعددة الأوجه تشتمل على تشابكات وتعقيدات إقليمية، صار بوسعنا أن نسامح من يفكر بأن المشكلات التي ظهرت في هذا البلد عصية على الحل. إذ نظراً لاستمرار العنف في المناطق الحدودية في سوريا بصورة رئيسية، والتي تتمتع فيها العناصر الفاعلة الإقليمية والدولية بنفوذ لا يستهان به، يجب أن يشتمل أي حل على عنصر يعالج هذا الواقع، بالإضافة إلى اشتماله على بعد محلي يقوم على خطوات تعمل على إحياء العمل الإطاري الوطني من أجل سوريا، بما أن هذا العمل الإطاري قد اختفى خلال السنوات التي تشظى فيها البلد.
ولكن التناقض في الأمر يتمثل في بقاء الحدود السورية سليمة وكأنها لم تصب بأي سوء، إذ يبدو بأن الصراع على سوريا وحالة انعدام الاستقرار التي نجمت عن ذلك لم تعمل إلا على تعزيز الاعتقاد بين الدول الإقليمية بأنه لابد من حفظ الحدود وصيانتها، وذلك حتى لا يستفيد المتنافسون إقليمياً في حال إعادة رسم الحدود. إضافة لذلك، بقيت ديناميات النزاع مسألة ضرورية لتعزيز تلك الحدود والتأكيد عليها، إذ عندما حاول تنظيم الدولة محو الحدود بين سوريا والعراق، حارب أعداء هذا التنظيم من أجل استعادة تلك الحدود. وفي الوقت الذي كانت الحكومة التركية تعاني وهي تسعى للتعامل مع تدفق اللاجئين السوريين إلى تركيا، أصبح تعزيز الحدود من إحدى السبل للاحتفاظ بحاجز يمنع المشكلة من الانتقال نحو الشمال.
وفي الوقت ذاته، امتدت النزاعات الإقليمية إلى سوريا، وأهمها نزاع تركيا مع حزب العمال الكردستاني ونزاع إيران مع إسرائيل، وهذا ما صعب أمر التوصل إلى حل للأزمة السورية، فقد شملت المواجهة بين تركيا وحزب العمال الشمال السوري والمناطق الحدودية في شمال شرقي سوريا، بالإضافة إلى أجزاء من الجنوب التركي والشمال العراقي. وتشكل كل هذه المناطق ما يعرف باسم منطقة الجزيرة السورية، والتي تمتد من جبال سنجار في غربي العراق إلى نهر الفرات في شمال شرقي سوريا. واستمر النزاع بالتصاعد فترك الباب مفتوحاً أمام مزيد من العمليات العسكرية التي نفذها الجيش التركي في المناطق الحدودية السورية. ومن وجهة نظر تركية، فإن خطر حزب العمال مايزال قائماً، والحلول التي اقترحتها أنقرة عسكرية وأمنية بصورة أساسية، ومنذ انهيار المفاوضات السرية بين تركيا وحزب العمال، والتي بدأت عام 2009 وانتهت عام 2015، أصبح الواقع المحلي أشد تعقيداً وأميل للانفجار على نحو مفاجئ.
ثم إن أي توجه يعزز الانقسامات الكردية-العربية يجعل قسد في موقف أشد صعوبة، وكذلك رعاته الأجانب الموجودين في المناطق الحدودية، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. وهذا ما تجلى بكل وضوح خلال الفترة الممتدة ما بين آب وأيلول من عام 2023، عندما حدث تصعيد في التمرد الذي قادته عشائر عربية ضد قسد بالقرب من دير الزور، وتسبب ذلك بحشد السكان المحليين وتعبئتهم. بيد أن وضعاً كهذا من شأنه دعم فلول تنظيم الدولة حتى يواصلوا نشاطاتهم، وهذا ما دفع القوات الأميركية للتدخل وتهدئة الوضع. وتوضح هذه الحالة كيف يمكن للتطورات المحلية أن تخلف آثاراً كبيرة على العناصر الفاعلة الخارجية، مما يؤكد مدى تقلب الأوضاع في المناطق الحدودية السورية ومدى غياب سيادة الدولة وما ينجم عن ذلك من انعدام للاستقرار ونزاع لا نهاية له.
أما النزاع بين إيران وإسرائيل فهو أخطر بكثير، مع احتمال أن يؤثر ليس فقط على مستقبل سوريا بل أيضاً على مستقبل المنطقة ككل. إذ تمثل المنطقة الممتدة من الحدود السورية مع العراق في أقصى الشرق إلى الحدود الجنوبية والجنوبية الغربية والحدود الغربية مع إسرائيل والأردن ولبنان منطقة لعمليات الحرس الثوري الإيراني، وفي الوقت الذي يقع النزاع التركي مع حزب العمال الكردستاني على الطرف الشمالي من بلاد الشام، يحدث النزاع الإيراني-الإسرائيلي في المركز الاستراتيجي لتلك البلاد، ضمن ما يسميه الأسد بسوريا المفيدة. ومن المستحيل إقامة حوار بالنسبة لهذا النزاع، لأن كلاً من إيران وإسرائيل تشاركان في صراع قوى إقليمي يزداد حدة بسبب الاختلافات الأيديولوجية العميقة بينهما.
دعمت إيران نظام الأسد على مدار عقد كامل، وبذلت جهوداً كبيرة لمنعه من السقوط، وبالمقابل، أصبحت قادرة على مواصلة دعمها لحزب الله في إيران. ولكن المشروع الإيراني مضى أبعد من ذلك، إذ من خلال النزاع السوري، أسس قاسم سليماني، وهو قائد لفيلق القدس التابع للحرس الثوري، شبكة من الميليشيات العابرة للحدود والتي شاركت في القتال ضد المعارضة المسلحة السورية وضد تنظيم الدولة. وانتشرت تلك الميليشيات في العراق وسوريا وارتبطت بشبكة تمتد بين شرقي سوريا وتصل إلى حلب فتخوم دمشق والحدود الجنوبية لسوريا، وذلك تحت إشراف قادة من الحرس الثوري. ويعتبر هذا النفوذ والوجود الإيراني في مناطق معينة من سوريا، وخاصة في الجنوب، بمثابة مواجهة لا يمكن أن نصفها إلا بالحتمية مع إسرائيل.
نظراً للعلاقات التي تربط العناصر الفاعلة المحلية بالدول الإقليمية في المناطق الحدودية السورية، فقد اختفى بشكل كامل أي عمل إطاري وطني سوري من أجل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد، وحلت محله تلك التحالفات المحلية-الإقليمية. واليوم، باتت مسألة إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة أمراً غير واقعي بكل بساطة، كما أن وقوع الحدود السورية في شرك النزاعات الإقليمية عقد مسألة التوصل إلى أي حل بشأن الأزمة السورية.
ثمة نهجان رئيسيان لتسوية هذه الأزمة أو إدارتها، ويتمثل الأول بالخروج بنهج قائم على المركزية، والذي يقوم على إطلاق عملية تحول وانتقال سياسي تركز على إعادة بناء المنظومة الاجتماعية-السياسية في سوريا من المركز بدمشق، وهذا النهج الذي تمثله عملية جنيف التي انطلقت في صيف عام 2012، يهدف إلى وضع مسودة لدستور جديد من أجل سوريا. وكان قرار مجلس الأمن رقم 2254 أساسياً ضمن هذه الجهود، على الرغم من أنه صيغ ضمن مناخ سياسي مختلف إلى حد كبير عن ذلك السائد في سوريا اليوم. فالتدخل العسكري الروسي الذي بدأ في خريف عام 2015 غير توازن القوى على الأرض، وجعل الكفة ترجح لصالح نظام الأسد وحلفائه الإقليميين مثل الحرس الثوري وحزب الله، وهذا التحول مهد الطريق لتبني القرار 2254 في تشرين الثاني من ذاك العام، وذلك لوقف الأعمال العدائية وللتوصل إلى تسوية سياسية في سوريا.
أما النهج الثاني فيعتمد على مجال أضيق ويركز على التوصل إلى اتفاقات محلية ضمن مناطق جغرافية معينة، أو التوصل في بعض الأحيان أيضاً إلى اتفاقيات أوسع بالنسبة لتلك المناطق، وهذه الاتفاقية تقوم بشكل أساسي على اعتبارات أمنية، وقد تجسد هذا النهج في عملية أستانا التي بدأت في مطلع عام 2017 وشاركت فيها تركيا وروسيا وإيران. فقد تكيفت عملية أستانا مع الحقيقة القائلة بإن الحرب في سوريا تحدث على جبهات عديدة وتنطوي على مصالح إقليمية متضاربة، ولهذا سعت لتثبيت خطوط الجبهة بين قوات المعارضة وجيش النظام السوري وحلفائه. واليوم، وبعد مرور سبع سنوات، أضحت النتائج كارثية على الشعب السوري، كما أنها أعاقت الجهود الدولية الساعية إلى التوصل إلى حل للأزمة. فقد تسببت الاتفاقيات المحلية التي تم التوصل إليها بين نظام الأسد وجماعات المعارضة المسلحة إلى تهجير السكان من المناطق الوسطى والجنوبية لسوريا وانتقالهم إلى المناطق الحدودية مع تركيا. كما أن هذه العملية تمخضت عن رسم حدود داخلية، وتقسيم سوريا مع تقويض أي أساس للاتفاقيات وأهمها عملية جنيف التي تقودها الأمم المتحدة، والتي تهدف قبل كل شيء إلى حل الأزمة بالبلد عبر إحياء مركزه.
تعرض النهجان القائم أحدهما على المركزية والثاني على المناطق الجغرافية للاستنزاف، وتغيرت البيئة السياسية الدولية منذ أن تم تبني النهجين، فقد أصبحت روسيا عنصراً فاعلاً مهماً في كليهما، على الرغم من أن اهتماماتها باتت تنصب على مناطق أخرى اليوم، حتى ولو لم تكن لديها أي نية بالجلاء عن سوريا. كما أن النزاعات الإقليمية التي تتطور بسرعة جعلت من مسألة استنزاف كامل منطقة الشرق الأوسط في حرب مفتوحة لا تعرف أي نهاية أمراً وارداً بما أن الأولويات الأمنية هي من ترسم السياسة في هذه المنطقة. وانطلاقاً من هذه الوقائع التي عززتها الانقسامات على المستوى الدولي بين الولايات المتحدة وروسيا، فإن أي حديث على وضع نهاية للأزمة السورية يبدو بعيد المنال في أحسن الأحوال. وبما أن الخروج بخطة للسلام قد يبدو خطوة بعيدة جداً خلال هذه المرحلة، لذا من الأجدى البحث في الشروط المسبقة اللازم توفرها لعقد أي اتفاق نهائي، بما أن الهدف الرئيسي اليوم بات ينصب على تبني إجراءات تخفف من حالة الانهيار التي تشهدها سوريا.
قد لا يكون هنالك أي حل للأزمة السورية من دون شكل من أشكال التفاهم بين أهم القوى الإقليمية والدولية التي تتمتع بنفوذ في سوريا، وخاصة في المناطق الحدودية، ولكن اليوم لا توجد أية مؤشرات تفيد بأن هذه القوى ترغب بالتوصل إلى حل وتفضل ذلك على الوضع الراهن الذي يسمح لها بمواصلة السعي لتحقيق مصالحها بصورة مستقلة عن أي شيء آخر، وهذا النهج هو الذي أوصل الوضع في سوريا إلى طريق مسدود، إذ بصرف النظر عن الأهداف التي وضعتها كل دولة من تلك الدول لنفسها، سواء الحزام الأمني الذي سعت تركيا لتأسيسه في نزاعها مع حزب العمال أو النفوذ الاستراتيجي الإيراني الذي مدته إيران خارج حدودها وذلك في ظل حربها مع إسرائيل، كل تلك الأمور وصلت إلى طريق مسدود، ولم تحقق سوى إنجازات طفيفة خلال السنوات القليلة الماضية.
أي بمعنى أصح، تخضع تلك العناصر الفاعلة الإقليمية والدولية إلى جانب حلفائها المحليين إلى حالة توازن دقيقة، وهذا يمنع أي طرف من تحقيق تقدم كبير من دون الإخلال بتوازن القوى، بما يسمح للآخرين بتوسيع نفوذهم. ونظرياً، يمكن لهذا الوضع أن يتغير في حال قيض لتلك العناصر الفاعلة الكبرى تغيير سياساتها بشكل كبير، أما حالياً فلا يوجد أي مؤشر قوي يدل على أن هذا سوف يحدث. ولكن إن حدث ذلك، فلابد أن يطرأ فراغ في السلطة في سوريا، وهذا بدوره سيدفع لظهور سلسلة من النزاعات إلى أن يتأسس وضع راهن جديد.
إذا افترضنا بأن القوى الفاعلة الخارجية الموجودة في سوريا اختارت أن يطول أمد الوضع الحالي، فإن النتيجة قد تعزز حالة انعدام الاستقرار التي تسعى تلك الجهات لتجنبها، وهنا يكمن التناقض في الموضوع. والسبب في ذلك هو أن احتواء النزاعات أو إدارتها داخل المناطق السورية لن يحلها فعلياً، وهذا ما قد يؤدي إلى حدوث انهيارات. أما المناطق التي تعتبر حتى الآن مستقرة مثل إدلب ومناطق سيطرة قسد فيمكن أن تشهد انهيارات هي أيضاً، فقد عمل غضب الأهالي المتزايد ضد هيئة تحرير الشام على زعزعة الاستقرار في إدلب، أما الانقسامات الكردية-العربية في دير الزور فتعتبر مثالاً لحالات التوتر الداخلية وكذلك الأمر بالنسبة لحالة السخط الشعبية إزاء سياسات النظام في السويداء. ورغم أن نظام الأسد لا يظهر علامات على الانهيار الوشيك، فإن تراجع قدراته في مجالات الحكم والأمن والدبلوماسية، وغياب الإرادة السياسية لإحداث تغيير في سوريا، يبقيان احتمال انهياره قائماً.
أما المخرج من الوضع الحالي فلا يتمثل بإعادة سوريا إلى وضعها قبل الحرب، بل بإحياء عمل إطاري سوري-سوري من أجل التوصل إلى حل، لأن هذا من شأنه الخروج بشكل الدولة والحكم ودور المؤسسات والآليات التي تتبعها الحكومة مستقبلاً. أي بمعنى أصح، إن ذلك من شأنه السعي للتوصل إلى اتفاق بين السوريين على تلك القضايا، ولكن ما هو الشيء الذي سيحفز القوى الخارجية على المصادقة على هذا الحوار؟ إنه اعترافها بعدم قدرة أي طرف خارجي على تحقيق انتصار في سوريا لوحده، في حين أن جميع الأطراف يمكنها أن تكسب عبر العودة للاستقرار النسبي.
خاتمة
إن المسار المحتمل للمضي قدماً بالنسبة لسوريا يتمثل باستمرار الوضع الراهن، ما يعني عدم التوصل إلى أي تسوية، وينطبق الأمر عينه على غياب أي عمل إطاري وطني لمعالجة مشكلات البلد، في وقت يغيب فيه الإجماع بين القوى الإقليمية والدولية المتورطة بسوريا والتي عملت على احتواء مشكلاتها مع سعيها لتحقيق أولوياتها السياسية على حساب السيادة السورية. ولكن في حال بقاء تلك القوى على التزامها بالتوازن المتأرجح عبر استراتيجية احتواء غير مستقرة بالأصل، فإن المسألة ستغدو مسألة وقت قبل أن تفرض الانهيارات الداخلية في سوريا تغييراً على سلوك تلك القوى إثر تغير الظروف ضمن مناطق نفوذها، وقد يدفع ذلك في نهاية الأمر نحو قبول تلك القوى بعمل إطاري سوري-سوري يسمح للسوريين بقيادة زمام أمورهم في الطريق نحو السلام الدائم. ولكن في حال عدم حدوث ذلك، فإن المنطقة قد تغدو على شفير تصعيد لا يرحم من العنف، والذي يمكن أن يزعزع استقرارها لأجل غير مسمى، إلى أن تضطر جميع الأطراف إلى البحث عن منافع ومزايا من خلال تسوية دائمة.