إن تجارب الأطفال مع العنصرية والتنمر والتمييز ليست موحدة؛ فالتأثير النفسي والعاطفي لهذه التجارب يختلف بناء على عدة عوامل من أهمها النمط التربوي الذي يتعرض له الطفل في المنزل، فالأنماط السلبية ترسخ جذوراً سامة في أنفس الأطفال وتقوّض ثقتهم بأنفسهم وتنتزع منهم الثقة بالنفس والكرامة والقدرة على مواجهة وتفسير مثل هذه المواقف، وربما يجد الآباء هذه المعلومة صادمة؛ لكنهم يحملون جزءاً كبيراً من المسؤولية عن توفير التربة الخصبة لبذور العنصرية والتمييز داخل أطفالهم.
غالبا ما يواجه الأبناء العنصرية والتنمر والتمييز في البيئات الخارجية وخاصة في التعليمية، ونحن في بداية عام دراسي جديد في معظم الدول التي لجأ إليها السوريون، حيث يعيش 2.6 مليون طفل في مصر والعراق والأردن ولبنان وتركيا، بحسب اليونيسيف.
يواجه الأطفال اللاجئون التنمر والعنصرية معاً، وهذا يجعل الإصابة مضاعفة التأثير بفعل التنمر الذي يهدف إلى إيذاء أو ترهيب شخص يُنظر إليه على أنه ضعيف، بالإضافة إلى العنصرية القائمة على التمييز على أساس العرق.
يختلف ويتفاوت تأثير المواقف العنصرية المتشابهة على الأفراد نتيجة لاختلاف آليات التفكير وتفسير الأحداث التي تتأثر بجملة عوامل أهمها التجارب السابقة والتصور الإيجابي عن الذات. على سبيل المثال: الطفل الواثق الذي طور تصوراً إيجابياً عن ذاته، يفسر المواقف العنصرية على أنها مشكلة نابعة عن التشوهات المعرفية للشخص الذي يمارس السلوكيات العنصرية مثل التعميم المتحيز والشخصنة والتهويل وغيرها من الأفكار المشوهة، وبالتالي يكون تأثر الطفل بهذه المواقف أقل ضرراً مقارنة بالطفل الذي لايملك تصوراً إيجابياً عن ذاته ولم تتطور لديه مشاعر الثقة بالنفس وتقدير الذات بشكل كاف، مثلا قد يرى هذا الطفل تصرفات وسلوكيات الشخص الذي يمارس العنصرية تصرفات محقة، وأنه لا يستحق أن تتم معاملته بشكل أفضل، ويبحث عن مبررات مثل: "نعم هم شعب أكثر تطوراً .. نحن الغرباء هنا ونحن نأخذ فرصهم.. يكفي أنهم تحملوا وجودنا كل هذه المدة" وغيرها من المبررات التي تغرق هذا الطفل أكثر في شعور النقص وانعدام القيمة وغيرها من المشاعر السلبية التي تؤثر بشكل سلبي على جودة حياة الفرد.
لذلك تلعب الأسرة دوراً حاسماً ومهماً في حماية الطفل من تبعات المواقف العنصرية أو التي يتم فيه تمييز الأنماط التربوية ودورها في تطوير تصور إيجابي عن الذات وتنمية مشاعر الثقة بالنفس عند الطفل بشكل صحي.
الأنماط التربوية وتأثيرها على تكوينات الطفل
النمط السلطوي الاستبدادي: يكبر فيه الطفل حيث يتم تطبيق القواعد والأوامر عليه بشكل صارم دون مراعاة رغباته واحتياجاته، وتغيب فيه أي مساحة للمفاوضات والمساومة، يكون أكثر عرضة للتوبيخ والإهانة والانتقاد، وغياب مساحة آمنة للحوار تجعله يعتقد أن آراءه وأفكاره غير مهمة، وبالتالي لا تتطور مشاعر الثقة بالنفس بشكل صحي في هذه البيئات ويكون الطفل أكثر عرضة لتقبل الانتقاد والتوبيخ والإهانة في البيئات الخارجية.
النمط التربوي اللامبالي (المهمل): حيث لا تتم تلبية احتياجات الطفل العاطفية أو الجسدية، ويغيب التواصل، ولا ينخرط الآباء في الأنشطة مع أطفالهم ولا يظهرون أي اهتمام بشؤون الطفل، وغالباً ما يكون الآباء في هذا النمط منشغلين بأنفسهم؛ يؤدي هذا النمط التربوي إلى تطور مشاعر انعدام القيمة وتدني احترام الذات وقلة الثقة بالنفس ويترسخ عند الطفل فكرة أنه شخص غير مهم ومشاعره ليست ذات قيمة.
النمط التربوي غير المستق (غير متوازن): يظهر عدم التناسق في النمط التربوي على شكلين، إما اختلاف بين نمط الأم ونمط الأب أو قد يكون أحدهما غير مستق ومتقلب وغير ثابت، حيث يتعامل مع المواقف ويقيمها بحسب حالته المزاجية ويتأرجح بين التسامح أو العقاب الشديد على نفس السلوك الذي يظهره الطفل، مما يجعل الطفل يواجه صعوبة في بناء منظومة القيم والتمييز بين الخطأ والصواب، ويسبب هذا النمط الإرباك للطفل وقد يصبح الطفل حذراً بشكل مفرط ويخشى التجارب الجديدة خوفاً من الأخطاء، وغير قادر على تقييم المواقف، ويشعر بعدم الكفاءة وقلة الثقة بالنفس.
النمط التربوي المتساهل: غالبا ما يكون الطفل هو صاحب السلطة ويُمنح الكثير من الدعم العاطفي لكن دون ضوابط أو قواعد أو توجيه، ويميل الآباء في هذا النمط التربوي إلى تلبية رغبات الطفل بسرعة حتى عندما تكون غير منطقية. هذا النمط التربوي قد يؤدي إلى تطور شعور زائف بالثقة بالنفس ويواجه الأطفال صعوبات في تطوير العلاقات الاجتماعية بسبب الأنانية والتوقعات العالية وعدم تطور حدود ما هو مقبول وغير مقبول في الحياة الاجتماعية. قد يكون أبناء هذا النمط التربوي أكثر عرضة ليكونوا متنمرين ويمارسون سلوك العنصرية بسبب تضخم تقدير الذات وغياب القواعد والضوابط.
النمط التربوي المفرط في الحماية: يتميز هذا النمط بالتدخل المفرط للآباء بحياة أطفالهم ويبذلون جهداً كبيراً لحماية أطفالهم من الصعوبات القائمة والمحتملة، فيحمون الطفل من الفشل ومن اختبار المشاعر السلبية مثل الخسارة والملل والحزن، ويؤدون في كثير من الأحيان المهام نيابة عن أطفالهم لأنهم لا يؤمنون بفكرة أن هذا الطفل كائن مستقل، وبذلك يصبح الطفل معتمداً بشكل مفرط على الآخرين ويفتقر إلى المهارات الحياتية اللازمة وبالتالي يفتقر إلى الثقة بالنفس ويشعر بعدم الكفاءة الذاتية ولا يمتلك قدرة التعامل مع المواقف الصعبة والتحديات.
النمط التربوي الديمقراطي: على عكس الشائع، هذا النمط لا يعني غياب الحدود والتحكم والقواعد، بل هو بيئة متوازنة بين الحزم والمرونة تتسم بوجود الضوابط والقواعد الواضحة التي تراعي احتياجات ورغبات الطفل، وفيه يتم توجيه الطفل دون إهانة أو إذلال، ويوجد مساحة آمنة للنقاش والحوار يستطيع الأطفال فيها التعبير عن أنفسهم بسهولة دون أحكام مسبقة ويتم قبول الطفل دون شروط، وبالتالي تتطور عند الطفل مشاعر الثقة بالنفس وتقدير الذات بطريقة واقعية وصحية. هذا النمط التربوي الصحي يعتبر من أهم الأساليب التي تدعم الطفل في مواجهة الصعوبات بثقة والتكيف مع الظروف والتعامل مع التحديات.
أضرار المواقف العنصرية على الأطفال
يختلف ويتفاوت تأثير المواقف العنصرية عى الأبناء ويرتبط بعوامل عديدة منها العمر والجنس والوعي الذاتي والخلفية العلمية والثقافية والوضع الاقتصادي والتصور الإيجابي عن الذات ووجود البيئة الداعمة وأيضاً التجارب السابقة والخبرات والشعور بالانتماء لمجتمع أو مجموعة وأيضاً طبيعة المواقف العنصرية وغيرها.
وتتختلف المجالات التي تتأثر سلباً بالمواقف العنصرية مثل الحياة الاجتماعية، فقد يعاني الطفل الذي يتعرض للمواقف العنصرية بشكل متكرر من العزلة الاجتماعية ومشكلات في بناء العلاقات والتعبير عن الذات ومشكلات تتعلق بالتكيف والاندماج، وقد يلجأ الطفل إلى الانسلاخ عن هويته الأصلية للحصول على القبول الاجتماعي مما يؤدي بالتالي إلى مشكلات الثقة بالنفس وضياع الهوية والانتماء، وقد تتطور مشاعر سلبية وعدائية تجاه المجتمع نتيجة مشاعر الغضب وغياب العدالة.
وعلى الصعيد الأكاديمي قد تتسبب المواقف العنصرية بتراجع الأداء الأكاديمي والتسرب من المدرسة وفقدان الحافز للمشاركة النشطة والفعالة في الدروس، إضافة إلى مشكلات التركيز والانتباه الناتجة عن الشعور بالاستبعاد والرفض وانعدام الأمان.
وعلى الصعيد النفسي قد يتسبب التعرض المزمن للمواقف العنصرية لمشكلات نفسية خطيرة مثل اضطرابات القلق والاكتئاب والتوتر المزمن والتصورات السلبية عن الذات ومشكلات الثقة بالنفس ومشكلات في تطور الهوية ومشاعر كثيفة من الغضب والحزن، إضافة إلى ظهور مشكلات سلوكية مثل العدوانية والتمرد. وقد يتطور اضطراب ما بعد الصدمة خاصة عند الأطفال الذين يختبرون اعتداءات عنصرية جسدية، وقد يؤدي الضغط والتوتر المزمن إلى ضعف الجهاز المناعي وإلى ظهور مشكلات صحية مثل اضطرابات النوم والطعام وآلام جسدية مثل الصداع وآلام المعدة وغيرها.
كيف أدعم طفلي الذي تعرض لموقف عنصري؟
يعد الاستماع الفعال وإظهار التعاطف والدعم العاطفي وتجنب اللوم وإصدار الأحكام من أهم الخطوات التي يشعر الطفل من خلالها بوجود الدعم، ومن الممكن تطوير استراتيجيات ومهارات للتعامل مع المواقف العنصرية المحتملة من خلال الاستفادة من التجارب السابقة وتعليم خطوات طلب الدعم والتحدث إلى شخص بالغ في حال الشعور بالخطر ومن المهم أن يعرف الطفل حقوقه وكيفية الدفاع عنها، ومن المهم تعريف الطفل بثقافته الأصلية وتعزيز الفخر بالهوية من خلال الحديث عن التراث الثقافي والمشاركة بالأنشطة الاجتماعية والأعياد والاحتفالات مع الجالية.
وإذا خصصنا الحديث عن الأطفال السوريين في دول اللجوء التي تتنامى فيها معدلات العنصرية ضد الأجانب، فيجب التأكيد على أن خطورة الآثار المترتبة على التنمر والعنصرية تكون أكثر ومهمة التعامل مع الوضع وتحضير الأطفال ودعمهم تكون أصعب، نظراً لما عانوه ويعانونه من هشاشة اجتماعية ونفسية ناجمة عن تجاربهم القاسية السابقة بفعل حرب النظام السوري ضد شعبه. يؤدي هذا الاستبعاد إلى تفاقم مشاعر الوحدة والاغتراب، مما يعزز الصدمة التي يحملونها من تجربة اللجوء والحرب.
من المؤكد أن المواقف العنصرية لا تمر دون أن تترك أثراً سلبياً مهما تمت إحاطة الطفل بمشاعر الحب والقبول والدعم في البيئة الأسرية، ولذلك لا يغني التعاطف عن ضرورة تحضير الطفل للحياة ومشكلاتها وتعزيزه وتكوينه بنمط تربوي صحي، والطفل بحاجة للدعم والقبول الاجتماعي في البيئات الخارجية وخاصة من قبل الأقران، لذلك رغم أهمية دور الأسرة الحاسم في التخفيف من آثار مواقف التمييز والعنصرية إلى الحدود الدنيا، لكنه غير كاف وتحتاج هذه الظاهرة الاجتماعية إلى جهود حكومية مثل تجريم خطاب الكراهية والعنصرية وتقديم برامج توعوية فعالة خاصة في البيئات التعليمية.