كانت سنة 1987 صعبة على الشيخ سعيد حوى. في الثانية والخمسين من العمر قرر جسده أن يحاسبه، دفعة واحدة، عن نشاط مفرط بدأه في الصف الأول الثانوي عندما انتسب إلى الإخوان المسلمين في مدينته حماة، ليصبح أحد رموزهم خلال الصراع مع النظام السوري في الثمانينات، من ملجأه في عمّان التي أقام فيها منذ عام 1978، إثر خروجه من البلاد بعد سجن دام خمس سنوات نتيجة ما يُعرف باسم «أحداث الدستور» عام 1973. وليتحمل مسؤوليات في قيادة الجماعة في أصعب مراحل صدامها مع النظام، وصولاً إلى أحداث حماة 1982، والفشل فيها، مما سيُحسب عليه جزئياً ويدفعه إلى التخلي عن مهامه السورية، ثم يصبح عضو مجلس الشورى العام للتنظيم الدولي، قبل أن يستقيل من هذا الأخير ويتفرغ للكتابة التي أصدر فيها عدداً كبيراً من المؤلفات الإسلامية العامة والحركية.
في عام المرض هذا، قبل أن يتوفى بسنتين، كان يسابق الزمن لإنجاز مشاريع مؤجلة إبان سنوات العمل التنظيمي. فكان من حصيلة هذه السنة رسالته الصغيرة «الخمينية: شذوذ في العقائد والمواقف»، التي صفّى فيها حسابه مع هذا التيار الذي وصف لقاءه المتفائل به في صفحة من مذكراته التي صدرت في العام نفسه بعنوان «هذه تجربتي.. وهذه شهادتي». وفي هذه الشهادة يروي حوّى بعض ذكريات الأسفار التي قامت بها قيادات من الجماعة التي حط بها الرحال في طهران في أواخر أيار 1979، بعد أقل من أربعة أشهر على عودة الخميني الظافرة إلى البلاد. يروي حوّى أن وكيل وزارة الإعلام كان قد رتّب للوفد زيارتين؛ أولاهما مع إبراهيم يزدي، وزير الخارجية آنذاك، والثانية مع الخميني نفسه. يصف الشيخ اللقاء مع الوزير بأنه كان مطولاً، «فهو على صلة وثيقة من بعض الإخوان عندما كان يدرس في أمريكا... ويستطيع أن يفهمهم ويفهم تطلعاتهم». وكان مما قاله يزدي لضيوفه إن «هناك سنيين محمديين وشيعة علويين، فهؤلاء وهؤلاء لا يختلفون»، كما كانت هناك مصارحة «في ما نريده من الثورة الإيرانية». أما اللقاء مع الخميني فقد تعثر بسبب طوفان البشر الذين كانوا يريدون مقابلته في منزله بقم، لكنه تم في نهاية الأمر. واستغرق وقتاً كافياً ليحدّث المرجع الشيعي زواره «عن معرفته بما يجري في سوريا، وأنه سيتكلم مع حافظ أسد... وأن الطريق الوحيد لإنقاذ المسلمين هو توعيتهم، فمتى وعى الشعب لا يستطيع أن يحكمه أحد».
وفي كتابه «إيران والإخوان المسلمين» يفصّل الباحث الإيراني عباس خامه يار الحديث عن الوفد الذي ضمّ اثنين من السوريين وثلاثاً من القيادات العربية المختلفة للإخوان، لكن يبدو أن المسألة السورية شغلته باعتبارها القضية الإخوانية الأسخن في ذلك الوقت، ورغم التباين في مواقف التنظيمات القطرية للجماعة من الثورة الإيرانية. إذ كان الحماس لها واسع الانتشار بين الإخوان المصريين والسودانيين والتوانسة والأردنيين، مثلاً، أكثر من سواهم. وهو ما سيفتُر، غالباً، خلال السنوات اللاحقة بتأثير فروع إخوانية أخرى من دول الخليج، ركّزت على التشيّع وعلى الأطماع الفارسية مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية وتعزيز علاقات طهران بالنظام السوري، الذي كان الحكم العربي الوحيد، تقريباً، الذي أيد إيران، مخالفاً الإجماع.
يستند خامه يار إلى كتيّب تحليل داخلي غير منشور راجع فيه الإخوان علاقاتهم بجمهورية الخميني، ويرى أن المفصل السوري كان مؤثراً في انكفاء الصلة التي كانت واعدة. وينقل عن الكتيّب أن الإخوان طلبوا من إيران مساعدات مادية وعسكرية وفنية للإطاحة بالنظام في دمشق إلا أنها «لم تستجب أو إنها ماطلت». وفي زيارة رسمية لسوريا قام بها لاحقاً الشيخ محمد صادق خلخالي، المدّعي العام الدموي الثوري الأول، وصف أعضاء الجماعة السوريين بأنهم «إخوان الشياطين». وبعد مدة هوجم الإخوان السوريون في كلمة ألقيت في مسجد الإمام الخميني بطهران، ونُشرت تالياً في الصفحة الأولى من جريدة «كيهان» المركزية التي وصفت إخوان سوريا، في مناسبة أخرى، بالعمالة، وشبهتهم بالمنافقين في «منظمة مجاهدي خلق» الإيرانية المعارضة. وبدوره أصدر «مجلس الثورة الإسلامية في سوريا»، وهو تشكيل جبهوي مؤقت وعريض أُسس وقتها، بياناً هاجم إيران بعنف ووصفها بأنها «مركز الفوضى» بزعماء متعصبين. وقد أثّر بيان الإخوان السوريين في إخوانهم وفي عموم موقف الجماعة التي لم يستطع مرشدها العام آنذاك، عمر التلمساني، الحدّ من نتائجه، مكتفياً بعتب هادئ وبالقول مستسلماً: «لكنها إرادة الله».
في دمشق كان وزير الخارجية، عبد الحليم خدام، ينتظر حصاد العلاقات الطيبة التي أرساها سابقاً مع المعارضة الإيرانية للشاه، ولا سيما مع «حزب تحرير إيران»، بوساطة موسى الصدر، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان. وكان من قياديي هذا الحزب عدد من أبرز المسؤولين بعد الثورة؛ مهدي بازركان رئيساً للوزراء، وصادق طبطبائي، ابن أخت الصدر، نائباً له، وإبراهيم يزدي وزيراً للخارجية وخلَفه صادق قطب زادة، ووزير الدفاع مصطفى شمران.
في منتصف آب 1979 وصل خدام إلى طهران بدعوة رسمية من يزدي. وباستثناء جلسة عارضة مع آية الله محمد منتظري، هاجم فيها الشيخ البعث والبعثيين، ولا سيما العراقيين منهم، فقد سارت لقاءات وزير الخارجية السوري مع المسؤولين الإيرانيين بشكل طيب، فهم أعضاء في حزب يُعدّ موسى الصدر «الأب الروحي» له حسب تعبير خدام، الذي التقى أخيراً بالخميني، ناقلاً له تحيات حافظ الأسد وتهنئته بنجاح الثورة. فردّ الزعيم الإيراني بحديث قصير، لكنه كان «حازماً واضحاً» كما يصفه خدام الذي ينقل عن الإمام قوله إن الثورة «حققت انتصارها على الطاغوت والظلم اعتماداً على الشعب، وأن الثورة ستكون مع المظلومين والمحرومين»، وطلب «نقل شكره للرئيس حافظ الأسد وتحياته له وحرصه على العلاقات المتينة مع سوريا».
فصلت أشهر قليلة بين زيارتَي حوّى وخدام، لا بد أنه حصل فيها ما دفع المرجع الإيراني الأعلى، الذي يعرف «بما يجري في سوريا»، إلى التراجع عن وعده لوفد الإخوان بأنه سيتحدث مع الأسد، وصولاً إلى حرصه على «العلاقات المتينة» معه. وحمَلَ الخمينيَّ على نقل وصف «المظلومين» من كفة إلى كفة. يرجّح مطّلع أن سبب ذلك هو مجزرة مدرسة المدفعية، التي حدثت في منتصف حزيران، وأعلنت عملياً عن انتقال صراع الإسلاميين والسلطة من الحلبة السياسية والاغتيالات والاعتقالات المتقطعة إلى معركة وجودية. وهي ساحة لا يمكن فيها لإيران الخمينية إلا أن تقف مع النظام الذي ربما تنصحه، في أوضاع أسلم، باستيعاب معارضيه وتقديم بعض التنازلات والحلول الوسط والإصلاحات. أما حين يهدده الخطر فتحتل العلاقة الاستراتيجية صدارة المشهد. هذا ما قالته الخمينية للسوريين عام 1979، وهي ما زالت تقوله، بالدماء!