منذ اللحظات الأولى للزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا في 6 شباط 2023 بدأ النظام السوري باستغلال الموقف لصالحه باعتباره منطلقاً لقاعدة علاقات عامة يمكن التعويل عليها لإعادة تعويمه عربياً ومنه ينطلق إقليمياً ودولياً.
وفي ظل أكبر أزمة إنسانية تشهدها سوريا منذ عام 2018 بعد عمليات التهجير السورية التي رعتها روسيا بشكل مباشر، بدا النظام مباشراً في سعيه لاستغلال الموقف لصالحه، مدعياً أن العقوبات الغربية وعزلة النظام العربية والدولية سبب أساسي في عدم وصول المساعدات إلى المتضررين من الزلزال.
استغلال الزلزال
لم يضرب الزلزال سوريا فقط، بل كانت شدته وآثاره ومركزه في تركيا، حيث شهدت 10 مدن دماراً واسعاً خلف عشرات آلاف الضحايا وخسائر مادية، الأمر الذي وضع العالم أمام أزمة إنسانية كبيرة دفعت الدول لإبداء التضامن ومد يد المساعدة.
ولا يمكن للدول العربية أن تتضامن مع الأزمة الإنسانية في تركيا وألا تساعد وتتضامن مع الأزمة الإنسانية ذاتها في سوريا، ما جعل البيانات الصادرة عن دول عربية علاقاتها مقطوعة مع النظام السوري ذات بعد سياسي جديد.
وفي الأخص نتحدث هنا عن المملكة العربية السعودية، إحدى أكثر الدول العربية تأثيراً ونفوذاً، والتي بدت إلى ما قبل الزلزال المدمر ثابتة على موقف مناهض للنظام السوري ورافض للتطبيع معه من دون وجود حل سياسي فاعل.
ومع ما يبدو أن الرياض لم يكن لها أن ترسل مساعدات وفرق إنقاذ إلى تركيا من دون سوريا، مع أزمة إنسانية كارثية بهذا الحجم، أبدت تضامناً مع تركيا وسوريا بشكل عام من دون الحديث عن أي تطبيع مباشر مع النظام في دمشق.
ورغم أن القسم الأكبر من المساعدات السعودية ذهب إلى مناطق سيطرة المعارضة السورية في شمال غربي سوريا، فإنها أرسلت 35 طناً من المساعدات إلى مطار حلب الدولي مع اشتراط الهلال الأحمر السعودي أن تسلم للهلال الأحمر السوري مباشرة من دون النظام، بحسب مصادر خاصة لموقع "تلفزيون سوريا".
وتجنبت الرياض حتى الآن الاتصال المباشر بحكومة النظام السوري، ونسّقت عوضاً عن ذلك مع الهلال الأحمر السوري بشأن وصول المساعدات إلى الأراضي التي تسيطر عليها حكومة النظام، بحسب تصريحات مسؤولين سعوديين لوكالة "فرانس برس".
لماذا يسعى النظام وراء السعودية؟
ويحاول نظام الأسد جاهداً أن يعيد علاقاته السابقة مع الدول العربية وعلى رأسها السعودية باعتبار أن الأبواب موصدة أمامه غربياً في ظل إصرار الولايات المتحدة على سياستها تجاهه ومواصلة فرض العقوبات عليه وعلى حلفائه الإيرانيين والروس ضمن عقوبات قانون "قيصر"، مع تحذير أي دولة من خرق ذلك.
وسبق أن أعاد نظام الأسد علاقاته مع العديد من الدول العربية مثل الإمارات والبحرين وسلطنة عُمان والأردن، في حين لم تكن مقطوعة مع أخرى مثل لبنان والجزائر والعراق، إلا أن السعودية أكبر دولة خليجية (والحال نفسه مع قطر)، لم تبد أي رغبة للتطبيع معه خلال السنوات السابقة، خصوصاً أن النظام خاضع إلى حد كبير للنفوذ الإيراني، ونال جميع أنواع الدعم العسكري واللوجستي والسياسي منها، سواء عبر ميليشيات طائفية لبنانية وعراقية وأفغانية تمولها أو عبر انخراط الحرس الثوري الإيراني مباشرة على الأرض لإنقاذه.
ومنذ بدايات الثورة السورية كان نظام الأسد يشن هجوماً كبيراً ضد السعودية، حين كان يتهمها بتمويل المتظاهرين للخروج ضده، ثم دعم وتمويل "الجماعات الإرهابية"، رغبة منها في إسقاطه.
وبالعودة إلى الوراء كان للسعودية موقف قوي، حيث طالبت نظام الأسد بوقف العمليات العسكرية تجاه المدنيين ودعمت المبادرة العربية التي تقضي بانتقال سلمي للسلطة في البلاد، وهو ما رفضه نظام الأسد وزاد من وتيرة العنف؛ ما أدى إلى انقطاع العلاقات مع الرياض منذ آب 2011، إذ سحبت المملكة سفيرها، ثم أعلنت، في آذار 2012، إغلاق سفارتها وسحب جميع الدبلوماسيين والعاملين فيها.
"لا جدوى من عزل سوريا"
بعد الزلزال لم تخرج أي تصريحات دبلوماسية رسمية من السعودية بما يخص سوريا رغم كل تلميحات النظام ومحاولاته لربط المساعدات بالعقوبات، حتى تاريخ 19 شباط الجاري، أي بعد 13 يوماً من حدوثه، إذ قال الأمير فيصل بن فرحان آل سعود وزير الخارجية السعودي إن إجماعاً بدأ يتشكل في العالم العربي على أنه لا جدوى من عزل سوريا وأن الحوار مع دمشق مطلوب "في وقت ما" حتى تتسنى على الأقل معالجة المسائل الإنسانية بما في ذلك عودة اللاجئين.
وقال الأمير فيصل "سترون أن إجماعاً يتزايد ليس فقط بين دول مجلس التعاون الخليجي بل في العالم العربي على أن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار".
وأضاف أنه في ظل غياب سبيل لتحقيق "الأهداف القصوى" من أجل حل سياسي فإنه "بدأ يتشكل" نهج آخر لمعالجة مسألة اللاجئين السوريين في دول الجوار ومعاناة المدنيين خاصة بعد الزلزال المدمر الذي ضرب سوريا وتركيا.
وقال الأمير فيصل "لذلك، ينبغي أن يمر ذلك عبر حوار مع حكومة دمشق في وقت ما بما يسمح على الأقل بتحقيق الأهداف الأكثر أهمية خاصة فيما يتعلق بالزاوية الإنسانية وعودة اللاجئين وما إلى ذلك".
ولدى سؤاله عن تقارير تتحدث عن أنه قد يزور دمشق بعد أن زارها نظيراه الإماراتي والأردني بعد الزلزال، قال الأمير فيصل إنه لن يعلق على الشائعات.
هل تريد السعودية التطبيع فعلاً؟
وتأتي الخطوة السعودية بعد عدد من الخطوات التي سبقت حدوث الزلزال، كان أبرزها تصريح للوزير فيصل بن فرحان حول بحث الرياض عن طريقة للتواصل مع حكومة النظام السوري ورفع علم النظام في القمة السعودية-الصينية، قابله النظام برفع الحظر المفروض عن البضائع السعودية، وصولاً للزيارة التي أجراها مدير إدارة المخابرات العامة السورية للرياض نهاية 2022.
وقد تحمل تصريحات الأمير فيصل الجديدة تغيراً طفيفاً في الموقف السعودي، ولكن لا يمكن البناء على اعتباره تطبيعاً للعديد من الأسباب والمجريات التي بنت الرياض عليها الموقف السابق، خصوصاً أن النظام السوري لم يغير أياً من سلوكياته التي قد تدفع المملكة للتطبيع معه.
وقد أوردت صحيفة "عكاظ" السعودية تقريراً قالت فيه: "أمام هذا المشهد المعقد، دخلت المساعدات السعودية على خط الأزمة، فالسعودية من مبدأ التعامل مع الشعب السوري بغض النظر عن الواقع السياسي أرادت أن تقدم الدعم والمساندة في ظل الظروف التي تعيشها البلاد منذ عام 2011".
وأضافت أن "التوازن السعودي الإنساني كان عادلاً بين جميع السوريين، إذ كان الشمال لا يختلف عن الجنوب وعن الشرق أو الغرب، إذ نظرت المملكة إلى المسألة من الزاوية الإنسانية البحتة، بحثاً عن مصالح الشعب السوري فقط، دون الاقتراب من الأبعاد السياسية".
من جانبه، قال سالم اليامي مستشار سابق في وزارة الخارجية السعودية: "إننا نقول في العلوم السياسية إن الكوارث الطبيعية تقوم بعمل سياسي أو تمهد لقيام عملية سياسية، المعنى أنها تقلل من حدة الاحتقان بين المتصارعين إقليمياً ولو جزئياً".
وأضاف اليامي في حديث مع تلفزيون سوريا أن "أقرب مثال على ذلك "هو زيارة مسؤول يوناني إلى تركيا رغم الخلافات السابقة التي كانت بين الجانبين، ولكن العلوم السياسية تؤكد على أن التقليل من حدة الصراع قد لا يدوم طويلاً".
وأشار إلى أن "هناك انقساماً عربياً بين دول الجامعة بخصوص سوريا، هناك من يرى أن سوريا أصبحت محافظة إيرانية، وتجب إعادتها إلى الحضن العربي، وهذا ما حصل في قمة الجزائر".
وأكّد اليامي أن زيارة بشار الأسد لسلطنة عُمان هي لتسلم مبادرة عربية ربما قد تكون مخرجاً لحل الأزمة السورية وفق مسار جنيف.
هل لزيارة بشار الأسد إلى عُمان أي صلة؟
وبالتزامن مع تلك التطورات، زار بشار الأسد سلطنة عُمان في أول زيارة عمل إلى دولة عربية يجريها منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وفق ما ذكرت وكالة أنباء النظام السوري "سانا"، وسط حديث عن مبادرة عربية جديدة لحل الأزمة السورية.
ويبدو أن الزيارة إلى سلطنة عُمان مبرمجة مسبقاً وقد تكون برعاية إيرانية أو روسية، باعتبار أن علاقات سلطنة عُمان مع إيران قوية، إلى جانب أن مسقط لم تقطع علاقتها بالنظام السوري أصلاً، ولكن تأثيرها محدود أولاً لسياساتها المحايدة بشكل عام، وثانياً لأنها لا تستطيع أن تقدم لبشار الأسد أي شيء اقتصادياً.
كما أنه من الممكن أن تكون عُمان محطة لإيصال أو تسلم الرسائل من خلال الحديث عن مبادرة عربية، وسط سعي النظام السوري لحصول أي تقارب مهما كان نوعه مع الرياض مستغلاً فرصة وصول المساعدات السعودية إثر الزلزال المدمر.
"لا تصدقوهم"
والمؤكد أن السعودية لن تتراجع عن موقفها لصالح بشار الأسد من دون خضوعه لشروطها المتصلة بالموقف الأميركي حيث لا يمكنها تجاوز عقوبات واشنطن وتقديم ريال واحد لإعادة الإعمار، إلى جانب ما يمثله بشار الأسد من مخاطر بخصوص تصدير المخدرات بشكل هائل إلى السعودية ودول الخليج الأخرى.
ولا شك أن الموقف السعودي كان واضحاً وجلياً على لسان سفير المملكة العربية السعودية في الأمم المتحدة، عبد الله المعلمي
في كلمته عن حالة حقوق الإنسان في سوريا، نهاية كانون الأول عام 2021 حيث شن هجوماً على النظام السوري، وطالب العالم "بعدم التصديق بأن الحرب في سوريا انتهت"، مشيراً إلى أنها لم تنته بعد إضافة نحو "2000 شهيد هذا العام إلى قائمة 350 ألف شهيد".
وقال المعلمي: "لا تصدقوهم إن وقف زعيمهم فوق هرم من جماجم الأبرياء مدعياً النصر العظيم. كيف يمكن لنصر أن يعلن بين أشلاء الأبرياء وأنقاض المنازل، وأي نصر لقائد يكون على حساب شعبه".
وأضاف السفير السعودي في الأمم المتحدة: "لا تصدقوهم إن قالوا إنهم يحاربون الإرهاب في المنطقة، وهم أول من فتح للإرهاب أوسع الأبواب، عندما أدخلوا إلى بلادهم حزب الله الإرهابي، زعيم الإرهاب في المنطقة، والمنظمات الطائفية القادمة من الشرق".
ويبقى السؤال المفتوح، إن قدمت مبادرة عربية لبشار الأسد في مسقط فعلاً كيف سيقابلها؟ هل سيتمكن من تنفيذها للتقارب مع السعودية، وأين نفوذ إيران وروسيا من ذلك؟، وماذا حل بالتطبيع التركي مع النظام السوري بعد دخول إيران على خطه هل توقف؟ كل ذلك سيتوضح في الأيام المقبلة.