على ضفاف نهر الفرات في ريف حلب الشرقي، تبرز مدينة جرابلس كمركز جغرافي، إذ تتمتع بموقع استراتيجي مهم لقربها من الحدود السورية التركية، وعلى الرغم من الإمكانيات التي تمتلكها المدينة والميزات التي تحظى بها، سواء من موارد طبيعية أو موقع جغرافي، إلا أنها لم تحقق التقدم المتوقع بعد سنوات من السيطرة عليها من قبل الجيش الوطني السوري والقوات التركية وانتزاعها من "تنظيم الدولة" (داعش).
تراوح جرابلس في مكانها بسبب ضعف الإدارة المحلية، والتناحر الفصائلي في بعض الأحيان، والنفوذ العشائري الذي يعيق استقرارها ونموها.
مدينة جرابلس
تُعد المدينة من أولى المناطق التي سيطرت عليها قوات الجيش الوطني السوري، بمساندة مباشرة من الجيش التركي خلال عملية "درع الفرات"، حين رُفعت رايات التفاؤل بمستقبل مشرق لمدينة تُطل على الحدود التركية من جهة، وتحتضن نهر الفرات من جهة أخرى.
موقع جغرافي فريد يُفترض أن يجلب لها فرصاً اقتصادية لا حصر لها، ودعماً تركياً مباشراً يعزز مشاريع البنية التحتية ويقوي الواقع التجاري، بالرغم من هذا القرب الاستراتيجي ووفرة الموارد، بقيت جرابلس عاجزة عن أن تخطو خطوات حقيقية نحو التقدم.
خلال السنوات الماضية، برزت العشائرية كعامل آخر يعمّق متاعب السكان، فالعشائر في جرابلس، التي تتمتع بنفوذ اجتماعي كبير، غالباً ما تكون طرفاً في الاقتتالات التي تنشب في المدينة، ما يجعل الفصائل وقوات الشرطة في بعض الأحيان عاجزة عن التدخل أو إيقاف المواجهات.
ومع هذا الوضع الأمني الهش، كان من الطبيعي أن يعزف المستثمرون عن ضخ أموالهم في مشاريع اقتصادية أو تنموية، فلا الاستقرار متوفر ولا الأمان مضمون، وهذا التردد من قبل رؤوس الأموال، سواء المحلية أو التركية، منع المدينة من أن تخرج من كبوتها الاقتصادية، حيث البنية التحتية لا تزال هشة، والمشاريع التنموية لم تُنفذ بالشكل المطلوب.
واقع مدينة جرابلس
قال "إبراهيم" (اسم مستعار لصحفي مقيم في مدينة جرابلس): "الوضع العام في مدينة جرابلس يشهد تبايناً في الأمن والاستقرار، الوضع الأمني في المدينة ليس مستقراً بشكل كلي، حيث تتخلله فترات من التوتر بسبب التنافس بين الفصائل من جهة وبين العشائر من جهة ثانية".
وأضاف "إبراهيم" في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، أن مسؤولية ضبط الوضع الأمني في جرابلس تقع على عاتق العديد من الأطراف، منها المؤسسات الموجودة في المدينة، وعلى رأسها فرع الشرطة العسكرية والشرطة المدنية والقوات التركية، فالفصائل التي تدير المدينة هي جزء من المشكلة بسبب تنافسها المستمر على النفوذ.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب العشائر دوراً في تعقيد الوضع من خلال نزاعاتها الداخلية المستمرة منذ عدة سنوات، وقد راح ضحية هذه النزاعات عشرات القتلى والجرحى، وتسببت بخسائر مادية كبيرة، بالإضافة إلى الشرخ المجتمعي الكبير الذي تسببت به.
ولفت إلى أن "الدعم التركي يمكن اعتباره عاملاً مؤثراً، ورغم وجود نشاطات تركية، سواء عسكرية أو إدارية في المنطقة، إلا أنها لم تنجح بعد في فرض سيطرة كاملة أو تهدئة الوضع بين الفصائل المختلفة".
من جهته، قال "أحمد" (اسم مستعار لناشط في مدينة جرابلس): "جرابلس تشهد بشكل متكرر خروقات أمنية، أخطرها مؤخراً صراعات العشائر وأعمال الثأر، التي تسببت بإزهاق كثير من الأرواح، ما يجعل الوضع الأمني فيها، باعتقادي، دون المتوسط، لا سيما مع فوضى السلاح وضعف المؤسسات الأمنية".
من يتحمل المسؤولية؟
وأردف الناشط: "أما من يتحمل المسؤولية فيتحملها الجميع، فالواجب على كل المؤسسات العمل على إرساء الأمن في المنطقة، والتجرد من حظوظ النفس ونبذ الخلافات الشخصية والنزعات العنصرية والعشائرية، فالجميع في مركب واحد".
وتابع: "ضعف الإدارة في جرابلس يعود لعدة أسباب، أهمها التفكك المجتمعي والخلافات الدائمة بين المكونات الموجودة في المدينة، الأمر الذي انعكس على الإدارة التي تقوم على المحاصصة ما جعلها مسلوبة القرار، أيضاً ضعف الموارد يسهم في إضعاف الإدارة، فالمال هو عصب الحياة وهناك فجوة ما بين الحاجة والإمكانات المتاحة".
بدوره، قال إبراهيم إنّ الأسباب الرئيسية وراء ضعف الإدارة المحلية في جرابلس تكمن في الآتي:
- التنافس بين الفصائل: حيث تتنافس الفصائل على النفوذ والموارد، مما يؤدي إلى غياب التنسيق وإضعاف الإدارة.
- الفساد: تقارير عدة تشير إلى انتشار الفساد داخل الهياكل الإدارية، سواء المدنية أو العسكرية، مما يعيق التنمية وتقديم الخدمات العامة.
- قلة الموارد: هناك نقص حاد في الموارد المالية والبشرية اللازمة لإدارة المدينة بشكل فعال، بالإضافة إلى تنصل العديد من المسؤولين في إدارة عدة قضايا.
- تأثير التناحر بين الفصائل والعشائر على حياة السكان: التناحر بين الفصائل والعشائر يخلق حالة من الفوضى تؤثر بشكل مباشر على حياة السكان اليومية، فالنزاعات المسلحة تؤدي إلى انعدام الأمن، مما يجعل السكان يشعرون بعدم الأمان في ممارسة حياتهم اليومية، كما أن هذه النزاعات تؤدي إلى تقويض أي جهود لتحقيق الاستقرار أو تقديم الخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية.
تحديات
تواجه مدينة جرابلس عدة تحديات، في مقدمتها التوترات بين الفصائل من جهة وبين العشائر من جهة ثانية، مما يجعل المدينة في حالة فوضى دائمة.
ووفقاً لـ "إبراهيم"، هناك مشكلة تتعلق بضعف شبكة الصرف الصحي، إضافة إلى تدهور البنية التحتية في المدينة بشكل كبير، وفي الريف بشكل أوسع.
وأشار الصحفي إلى ضعف الرقابة وانعدام الشفافية في إدارة الموارد، لتأتي النزاعات لتزيد من عمق الأزمة وتعيق جهود بناء إدارة محلية قوية وموحدة.
أما "أحمد"، فقد شدد على أن "التحديات كثيرة، على رأسها الواقع الأمني، فإلى جانب الخلافات الداخلية، نشهد استهدافات متكررة من قبل ميليشيات قسد، خاصة على ضفاف نهر الفرات، ليلقي الوضع الأمني بآثاره على الواقع الاقتصادي، فمن دون بيئة آمنة مستقرة لا يوجد استثمار، وبالتالي قلة في فرص العمل وانتشار الفقر، والفقر بدوره سيؤثر على الحالة الاجتماعية".
ووفقاً للناشط، "هناك جهود لتحسين الوضع، فبين الحين والآخر نشهد حملات أمنية في المنطقة، لكن غالباً ما تصطدم بتعقيدات المنطقة من التحزبات العشائرية والفصائلية".
وأشار إلى أن "المناحرات الداخلية لها أثر سلبي كبير على حياة السكان، فالمناوشات دائماً ما تكون بين التجمعات السكنية، ما يسبب تعطل أعمال معظم الناس، بالإضافة إلى المدارس والمراكز الطبية، كما تؤثر المناحرات على الصحة النفسية للأهالي، خاصة الأطفال، بسبب الخوف والهلع من أصوات الرصاص والقذائف".
غياب السلطة على المؤسسات في جرابلس
تواجه مدينة جرابلس العديد من المشكلات الناتجة عن غياب سلطة حقيقية للحكومة السورية المؤقتة أو الائتلاف الوطني السوري على المجلس المحلي والمؤسسات الأخرى، سواء كانت عسكرية أو مدنية، ما أدى إلى حالة من الفوضى والقرارات العشوائية التي أثرت بشكل مباشر على السكان المحليين والنازحين على حدٍ سواء.
وبرزت خلال السنوات الماضية العديد من المشكلات في آلية عمل المجلس المحلي في جرابلس، ومن بينها فرض رسوم مالية قبل عام على السوريين في تركيا حاملي بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك) الراغبين في زيارة سوريا لمدة شهر واحد، حيث وصلت الرسوم إلى 200 دولار، مما أثار استياءً واسعاً.
في ذلك الحين، أشار مصدر رسمي في الحكومة السورية المؤقتة، طلب عدم الكشف عن اسمه، لموقع تلفزيون سوريا، إلى أن الحكومة لا تمتلك أي معلومات عن الزيارات المحدودة للسوريين في تركيا نحو مناطق الشمال السوري، والتي أعلنت عنها بعض المجالس المحلية في ريف حلب الشرقي.
وأكّد المصدر أن الحكومة المؤقتة ترفض هذه الإجازات وهي غير راضية عنها، موضحاً أن "كل مجلس محلي يعمل بشكل مستقل بالتنسيق مع الولاية التركية التي يتبع لها".
وأضاف المصدر: "تبرر المجالس المحلية فرضها للرسوم بضرورة زيادة وارداتها بهدف تقديم الخدمات، ونحن نرى أن الحصول على الموارد يمكن أن يتم بغير هذه الطريقة التي تستغل السوريين وتُشابه ما اتخذه النظام السوري من إجراءات".
في سياق متصل، دانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان فرض المجالس المحلية في الشمال السوري رسوماً مالية بقيمة 100 دولار (ارتفعت لاحقاً لـ 200 دولار) على السوريين المقيمين في تركيا والراغبين في زيارة بلادهم عبر معبر جرابلس الحدودي.
وأوضحت الشبكة في بيان لها، أن هذه الرسوم غير شرعية وتنتهك حق المواطن السوري في العودة إلى بلده متى شاء، وطالبت الشبكة المجالس المحلية والحكومة السورية المؤقتة، المسؤولين عن معبر جرابلس الحدودي من الجانب السوري، بإلغاء هذه الرسوم التي وصفتها بـ"التعسفية".
وفي شهر حزيران الماضي، واجهت مدينة جرابلس أزمة غير مسبوقة في القطاع الصحي، بعد تسجيل مئات حالات التسمم في المدينة، وسط ضعف الاستجابة من قبل المجلس المحلي والجهات الحكومية المعنية.
وأفادت مصادر محلية لموقع تلفزيون سوريا بأن حالات التسمم توافدت إلى مشفى مدينة جرابلس على مدار عدة أيام، بعد الحديث عن تلوث مياه نهر الفرات إثر تسرب من مجرى الصرف الصحي.
وأشارت المصادر إلى أن استجابة المجلس المحلي للأزمة كانت "دون المستوى"، إذ لم يقدّم تفسيراً واضحاً لسبب حالات التسمم أو علاقة تلوث مياه الفرات بذلك، كما أفاد عدد من مراجعي مشفى جرابلس لموقع تلفزيون سوريا بأن الأدوية كانت شبه معدومة في المشفى، ما اضطر بعض المرضى لشراء "السيرومات" من الصيدليات على نفقتهم الخاصة.
تواصل موقع تلفزيون سوريا حينذاك مع رئيس المجلس المحلي في جرابلس، محمد العبو، لأكثر من ثلاث مرات للتعليق على الأمر، لكنه لم يجب.
يضاف إلى ذلك مشكلة الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي لفترات طويلة، من دون تنبيه للسكان، إضافة إلى حالة عدم استقرار شبكات الإنترنت، ما يزيد من معاناة السكان ويعزز حالة الإحباط في ظل غياب سلطة قادرة على تنظيم وإدارة شؤون المدينة بشكل فعال.
كيف يمكن التغلب على الواقع الحالي؟
بحسب "إبراهيم"، فإن تركيا، باعتبارها القوة الداعمة للفصائل في المنطقة، تُجري محاولات لتهدئة الوضع وتحسين الظروف الأمنية من خلال تدريب قوات شرطة محلية وتعزيز البنية التحتية، كما تعمل منظمات محلية ودولية على تقديم الدعم الإنساني وإعادة إعمار بعض المناطق وإنشاء مجمعات سكنية، لكن هذه الجهود تواجه تحديات كبيرة بسبب الانقسامات الداخلية والفوضى الأمنية.
ودعا إبراهيم إلى "إنهاء التناحر بين الفصائل، وإيجاد سلطة مركزية قوية، مع بناء هياكل إدارية شفافة تكون قادرة على تقديم الخدمات العامة للسكان بفعالية".
ولضمان ضبط الأمن، لفت إبراهيم إلى "ضرورة تدريب قوات أمن محلية تكون محايدة وغير مرتبطة بالفصائل".
وطالب الصحفي بتوفير فرص عمل ودعم المشروعات الصغيرة التي تسهم في تحسين الوضع الاقتصادي، وإيجاد آليات تنهي النزاعات العشائرية من خلال إجراء حوارات مجتمعية مستمرة تهدف إلى الصلح والتوافق بين العشائر.
من جهته، تحدث أحمد عن بعض الخطوات الضرورية للارتقاء بواقع المدينة، قائلاً: "لنصل إلى حالة أفضل في جرابلس يجب العمل على تصفير المشكلات الداخلية وتشكيل قوة مشتركة من جميع المكونات، تضع مصلحة البلد فوق أي اعتبار، وتكون داعمة لمؤسسات المنطقة وفق ميثاق موقّع، وبالتوازي مع ذلك يكون العمل على إصلاح المؤسسات ومحاربة الفساد فيها وتفعيل الرقابة الحقيقية عليها".
وأعطى موقع تلفزيون سوريا المجلس المحلي في مدينة جرابلس حق التعليق على ما ورد في التقرير على لسان سكان وناشطين في المدينة، وتواصل مع رئيس المجلس على مدار يومين، من دون تلقي أي إجابة.
يمكن القول، إنّ مدينة جرابلس تجمع بين موقع جغرافي فريد وموارد طبيعية غنية، كما أن قربها من تركيا ونهر الفرات يزيد من إمكانياتها على النهوض، لكن التحديات الأمنية، والاجتماعية، والخدمية، والإدارية ما زالت تقف حائلاً أمام تحقيق تقدم ملموس.