شكلت السينما السورية منذ انطلاقتها حالة جدلية، ربما لم تكن ذات تأثير واضح مثلما أثرت السينما المصرية على سبيل المثال، إلا أن نتاجها في مرحلة ما كان فارقًا. ولعدة أسباب، لم تواكب الحركة النقدية المادة السينمائية السورية.
من هنا طرح الكاتب والناقد "علي سفر" رؤيته في هذا الشأن، والذي يؤكد أنها ناتجة عن تجربة شخصية واطلاع في المقام الأول ومشتركة مع عدد من النقاد السوريين في المقام الثاني، وذلك من خلال دراسة صدرت مؤخرًا تحت عنوان "حبر الشاشات المطفأة.. تحري أحوال السينما السورية ونقدها".
البدايات المتعثرة للسينما السورية
يستهل الكاتب دراسته بلمحة عن تاريخ ولادة السينما السورية والعقبات التي وقفت في طريقها، فيُرجع البدايات المتعثرة إلى الإيديولوجيات وهامش الحريات الضيق والرقابة الخانقة التي استمرت بمرافقة هذه الصناعة إلى أن جاء ميثاق حزب البعث ليؤكد على "ضرورة الاهتمام بوضع تشريع ونهج لشؤون الدعاية والإذاعة والسينما والصحافة فيكون توجيهها نحو إعداد الشعب ومشاركته في تنفيذ أغراض هذا الميثاق".
ويرى "سفر" في الميثاق نوايا واضحة لتجيير صناعة السينما لصالح السلطة كآلة إعلامية. لكن في الوقت نفسه يعتبر المرحلة التي تلت الميثاق إلى حين تسلّم حافظ الأسد حكم البلاد، مرحلة ذهبية قصيرة أنتجت فيها أعمال مهمة ساهمت في إظهار الشاشة البيضاء السورية بحلتها الأفضل فقد استطاع بعض السينمائيين حينها التحايل على مقص الرقابة وسلوك دروب جانبية فقط لتصدير صورة جيدة.
الحركة النقدية وحالة الانفصام
في فصول لاحقة يتجه الكاتب نحو الحالة النقدية العربية عمومًا والسورية على وجه الخصوص، ويربط فهم الحالة النقدية السورية بالعربية والتي لم تتحرر من فضاءاتها بحسب رؤيته، فتتجه الحالة السورية نحو الاضمحلال، لأنها لم تشهد نقاشات وتعمق في مفهوم النقد وتماهيه مع التجربة. في حين يؤكد على حالة الفصام التي تعيشها التجربة السينمائية السورية مع النقد. إذ إن الحركة النقدية في أوقات معينة شهدت بحوثًا قليلة أو ربما نادرة استطاعت أن تلامس أجزاءً من التجربة السينمائية. ثم وفي مراحل لاحقة يدلل "سفر" على سيطرة المادة الصحفية على مساحة المادة النقدية وإحلالها محلها.
خاض علي سفر في إيضاح مفهوم النقد من جميع جوانبه، واضعًا يده على جملة من الزوايا المهمة التي تخص الناقد السوري والمادة المتناولة وحتى وجهات نظر صناع ونقاد السينما العرب
راجع "علي سفر" تجارب واهتمامات النقاد السوريين والعرب الذين نشروا كتاباتهم في سلسلة "الفن السابع" وعالج تلك الإصدارات من زوايا عدة ليسند بحثه بوثائق حقيقية بعيدة عن التجربة الشخصية. وعلى الرغم من قلة مراجع التوثيق المعلوماتي في هذا المجال، إلا أن الكاتب استطاع تبيان محاولات أسطرة السينما السورية من خلال بعض الكتابات التي أخذت شكل المواد النقدية والتي في معظمها اعتمدت الرأي الشخصي أو بحوثًا أعدها كاتب المادة نفسه سابقًا. وبعد تلك المراجعة يستخلص "سفر" أن لا وجود لمنهجيات محددة يعمل من خلالها النقاد السينمائيون، وغياب تلك المنهجيات هو المشكلة الرئيسة.
سينما بلا نقاد أم نقاد بلا سينما؟
لم يكتف "سفر" بتوضيح تلك النقاط فقط، بل خاض في إيضاح مفهوم النقد من جميع جوانبه، واضعًا يده على جملة من الزوايا المهمة التي تخص الناقد السوري والمادة المتناولة وحتى وجهات نظر صناع ونقاد السينما العرب في ما يخص السينما السورية، فتناول النقد الحالم، الذكريات كنقد، الانطباعات، الدراسات الأكاديمية... إلخ. ومن المؤكد أن هذه الإحاطة الشاملة بموضوع جدلي مثل هذا لم يطرح بموضوعية ووضوح مثلما طرح في هذا الكتاب.
وقبل أن يفتح المجال لمسارات جديدة في بحثه، طرح الكاتب السؤال الأبرز، سينما بلا نقاد أم نقاد بلا سينما؟
ولتكوين صورة حقيقية وللإجابة عن السؤال السابق، لم يستبد الكاتب بطرح رأيه ووجهات نظره أو إجابته فقط، بل استعان في الجزء الثاني من كتابه بمجموعة آراء ومحاورات لعدد من النقاد السينمائيين، جمعها وطرحها للإجابة على تساؤله ولكي يخلق مساحة للرأي الآخر.
وعن هذا الجزء من الدراسة يشير "سفر" إلى أن إنجازه تم على ثلاث مراحل، بما فيها من سنوات، وانقسام في الوسط السينمائي بعد الثورة السورية وسيل المادة السينمائية السورية في السنوات الأخيرة. كما أراد أن يكون مباشرًا في حواراته فلم يتطرق لأكثر من السؤال الذي ذكرناه في الفقرة السابقة، فتعدد المحاورون واتفق معظمهم في الرأي تقريبًا، فكانت إجابة الكاتب السوري خليل صويلح عن الحركة النقدية: "أي حالة نقدية ينبغي أن تكون مواكبة للنص على الأقل، وفي حال النقد السينمائي في سوريا، تبدو المسألة أكثر إشكالية لجهة فقدان النص أولًا.. سينما تنتج عمليًا فيلمًا واحدًا في العام، فأي حالة نقدية وأي سينما؟".
أما الباحثة والمخرجة إيناس حقي فقد كان لها رأي مشابه، إلا أنها خاضت في الأسباب بشكل مباشر: "السؤال البسيط والمعقد قد تختصر في آن بــ لا هذه ولا تلك. ولكن غياب السينما والنقد كانا نتاجًا طبيعيًا لنظام سياسي حكم سوريا لسنوات وعمل على مد أذرعه الأمنية في كل مجالات الحياة".
يختصر الجزء الثاني ما أراد "سفر" إيصاله من الدراسة، فقد اشترك مع محاوريه بأن لا وجود لحركة نقدية كما لا وجود لتجربة سينمائية سورية متكاملة، ربما اختلفت الأسباب التي أدت إلى هذا الرأي من وجهة نظر كل محاور، فمنهم من رأى بنقص التمويل المتاح للسينما سببًا في تعثرها، وآخرون رأوا أن السلطة هي من شلت تلك التجربة حتى قبل أن تتعلم المشي، إلا أن جميع الآراء في النهاية تصب في النتيجة نفسها، لا سينما ولا نقاد.
يضع كتاب "حبر الشاشات المطفأة" السينما والنقد السينمائي على طاولة النقد؛ ليخرج بإجابات واضحة من غير مواربة، عن الشاشة السورية البيضاء وأسباب انطفائها.
- الكتاب: "حبر الشاشات المطفأة.. تحري أحوال السينما السورية ونقدها".
- الكاتب: علي سفر.
- إصدار: دار موزاييك للدراسات والنشر- 2022.
- 212 صفحة من القطع الكبير.